كيف عبر الحجي والشابي والعسكر عن بؤس الحياة؟

 بقلم الشاعر والناقد  السعودي سعد عبد الله  الغريبي 

منذ مطلع التاريخ عبر الشعراء عن بؤسهم وشقائهم وما يعانونه من شظف عيش، وفقر ويتم ومرض. وامتد مدلول (البؤس) إلى ما هو أبعد من المعيشة الضنك؛ إلى استلاب الحرية ومصادرة الآراء وبخاصة بعد هيمنة المستعمر على البلاد وسكانها في القرن العشرين، وقمعهم كلما فزوا للدفاع عن أنفسهم وتحرير أرضهم. وزاد الطين بلة ما يعيش فيه الشباب من لهو غير عابئين بتحصيلٍ علمي وتنمية فكرية توصل إلى طريق الخلاص.
ولذلك اختلفت طرق التعبير عن البؤس في الشعر العربي بحسب السبب المؤدي إليه، فمن الشعراء من انتهج منهج الدعاء والرجاء بانكشاف الغمة، مع نصح المجتمع وإرشاده لما يجب اتخاذه. ومنهم من عمد إلى نقد المجتمع والسخرية منه لاستسلام أبنائه للمستعمر وتخليهم عن الجهاد، أو لانصرافهم عن العلم والبحث بوصفهما طريقي النهوض بالأمة. ومنهم من لجأ إلى الاحتجاج والثورة على الأوضاع القائمة والمسؤولين عنها سواء أكانوا حكامهم العرب، أم المعينين من قبل المستعمرين. ومنهم من استبد به اليأس والحسرة فلم يجد أمامه سوى البكاء والأنين.
وفي هذا المقال أعرض لثلاثة من شعراء القرن العشرين شهروا ببؤسهم – وإن اختلفت أسبابه – وعُرفوا باختفائهم المبكر عن مسرح الحياة بعد أن أضاؤوا سماء الشعر بإبداعهم. هؤلاء هم: السعودي حمد الحجي (1939 – 1988) والتونسي أبو القاسم الشابي (1909 – 1934) والكويتي فهد العسكر (1913-1951) مع ملاحظة أن حياة الحجي الشعرية انتهت قبل وفاته بربع قرن.
وكثيراً ما يؤدي البؤس (أو التباؤس) إلى التشاؤم ولا سيما حين يطول الشقاء ويتأخر موعد الخروج من الأزمات. ولعل هذا ما يفسر النظرة السوداوية للحياة عند الحجي:
إن نظرتُ الجمال غضا طريا
يتجلى في المنظر الخلابِ
لاح لي أسودُ المصير كمسو
د الليالي مكشِّــر الأنياب
فرأيت الجمال يُطوى بأكفا
نٍ ويبلى ممـزَّق الأسلاب
وهو ما يجعل الشابي لا يرى في الطبيعة إلا ما يوحي بالكآبة:
ما سكوتُ المساء إلا أنينٌ
ونشيد الصباح غيرُ نحيبِ
ليس في الدهر طائرٌ يتغنى
في ضفاف الحياة غيرَ كئيب
ويجعل الدنيا تضيق بفهد العسكر حتى تحول داره سجناً:
ضاقت بي الدنيا دعيـــ
ــني أندب الماضي دعيني
وأنا السجين بعقر داري
فاسمعي شكوى السجين
بهزال جسمي باصفرا
ري بالتجعد بالغضون
وإذا انتقلنا إلى التعرف على أسباب بؤسهم فنجد الحجي يرى السبب هو التفكير في الحياة:
وأصبحت في هذي الحياة مفكرا
فجانبت فيها لذتي وهنائي
ومن يطل التفكير يوما بما أرى
من الناس لم يرتح ونال جزائي
وأنه ولد أديباً في وسط لا يشكل الأدب أدنى اهتماماته:
إذا ما شئتَ أن تشقى بأرضٍ
كأرضي فلتكــنْ فيها أديــبا
ستُرمى بالدواهي من بنيها
وتقضي العمر منبوذا غريبا
أما الشابي فيعزو ذلك إلى حساسيته المفرطة:
والشقي الشقي من كان مثلي
في حساسيتي ورقة نفسي
أما العسكر فسبب شقائه حسه الشاعري:
إن تسلني فانا ابن الر
يبِ مذ كنتُ صبيّا
آه ما أشقى الذي يو
هب حسًّا شاعريا
ويتفق الشعراء الثلاثة في سخطهم على الإنسان، فالحجي لا يرى الناس إلا:
بينَ نذْلٍ، وخائنٍ، وعدوٍّ،
وحسودٍ، وصاحبٍ ذي كذابِ
والشابي لا يراهم إلا خبثاء غادرين:
آهٍ من الناس الذين بلوتهم
فقلوتُهم في وحشتي وحبوري
ما منهمُ إلا خبيثٌ غادرٌ
متربصٌ بالناس شرَّ مصيرِ
والعسكر يصب جام غضبه على فئة لم يفهموه:
وهناك منهم معشرٌ
أفٍّ لهم كم ضايقوني
هذا رماني بالشذو
ذِ، وذا رماني بالجنونِ
وهناك منهم من رما
ني بالخلاعة والمجونِ
وتطــاول المتعصبو
ن وما كفرتُ وكفَّروني
وإذا انتقلنا إلى وسيلتهم لإصلاح المجتمع وجدنا الحجي يتخذ منهج اللطف، لأن هدفه إصلاح الشعب لا إبادته:
كــم تمنيـــتُ أننــي بســــمةٌ في
خاطر البائــس القنوط الكابي
أو منــامٌ يمحــو ســهاد الأيامــى
واليتامــى والمبتلى باكتئاب
أو ضياءٌ ينير للشعب سبْل الــ
ـمجد يدعو إلى اقتحام الصعــاب
إلى أن يقول:
كي نرى الشعب بين ساع دؤوب
أو معنــى بالفكــر والآداب
أما الشابي فإنه يتمنى أن يكون حطاباً يهوي بالفؤوس على الرؤوس، أو سيولًا أو أعاصير:
أيها الشعب ليتني كنت حطابا
فأهــوي على الجــذوع بفأسي
ليتني كنــت كالسيول إذا ســا
لت تهــد القبــور رمسا برمس
ليت لي قوة الأعاصير يا شعــــــ
ــبي فألقــي إليــك ثــورة نفســي
وبعد ذلك كله يذهب إلى الغاب تاركاً الشعب وحاله:
إنني ذاهب إلى الغاب يا شعــــ
ـــبي لأقضي الحياة وحدي بيأس
وأما العسكر فاستبد به اليأس حتى إنه ليرى الموت ألطف من عيشه في وطنه:
وطني وما أقسى الحيا
ة به على الحــرِّ الأميـنْ
وألـــذُّ بيـــــن ربوعــه
من عيشــتي كأس المنون
عانى الشعراء الثلاثة من ظروف أسرية قاسية، لكن معاناتهم من مجتمعاتهم كانت أظهر أثراً، وهذا يعني أن الشاعر حين يصاب بالاكتئاب ويلجأ إلى العزلة فلا يعني بعده عن مجتمعه وتخليه عن همومه وانصرافه عن البحث عن مخرج له. إنه إن أبدى سخطه على مجتمعه فإن ذلك لا يعدو كونه تعبيراً عما يحسه من ألم وحسرة، فشعراؤنا الثلاثة كلهم يشغلهم الاهتمام بالوطن والمجتمع والأمة، فالحجي يبتهج بافتتاح جامعة الملك سعود وافتتاح مطابع الرياض، ويغني لفلسطين والجزائر في يوم استقلالها، والشابي يعبر عن حسرته على شباب بلده وانصرافهم عن مقاومة المستعمر:
ألا انهض وسر في دروب الحياة
فمن نام لم تنتظره الحياة
وما يلبث أن يعود لنا بقصيدته التي سارت في الآفاق:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
أما العسكر فيتحسر على تخلف بلاده مقارنة بالبلدان المتقدمة، ويستحث همم الشباب للحاق بركبها:
يا نشءُ هل من نَهضةٍ نُحيي بها الــ
ـمجدَ الأثيــلَ كنهضةِ الجابــان؟
يا نشءُ هل من وَثبــةٍ نشــفي بها
هـــذا الغليــلَ كوثبــةِ الطليــان؟
يا نشءُ هل من صَرخةٍ تَدَعُ العِدا
صرعى الذُّهولِ كَصَرخةِ الألمان
ويتغنى بالعروبة، ويتحسر على ضياع فلسطين، ثم يصرخ:
لغة النار والحديد هي الفصـــــ
ـحى وحظ الضعيف منها المنيّة
ومن الغبنِ أن نعيش عبيدًا
أين ذاك الإبــاء؟ أين الحميــة؟
وإذا ما سخط الشابي على الحياة وعلى الأقدار التي أوصلته إلى ما هو فيه، كما في قوله:
ســأمٌ هذه الحيــاة معــاد
وصــباحٌ يكــرُّ في إثر ليل
ليتني لم أفد إلى هذه الدنـ
ـيا ولم تسبح الكواكب حولي
وإذا ما هرب العسكر إلى الخمرة ليودعها أحزانه وآلامه، كما في قوله:
صهرتُ في قدح الصهباء أحزاني
وصغتُ من ذوبها شعري وألحاني
وبــتُّ في غلــس الظلماء أرســلها
من غور روحي ومن أعماق وجداني
فإن الحجي يؤوب إلى ربه تائباً مستغفراً داعياً:
رب آمنــــت بالحــقيقة فاجنبـ
ـني متاهــات أوبتـــي للعـــــذابِ
رب إني أدركــت حقــك فلتشــ
ـــرق بنفسي نوراً يضيء جنابـي
ها أنا قد مللت تجــوال عقلي
في ســحيق الفضا ولُجِّ العبــاب
آنَ يا رب أن أداوي جراحي
من صنوف الآلام والأوصــاب
فاهدني للصــواب إني منيب
ذو تسام إلى الهدى والصواب

(ع/ مجلة اليمامة )

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!