فرط الرمان/ بقلم : ربيع عقب الباب/ جمهورية مصر العربية

 

”   من أوراق عاشق مجهول  ”

 

شياطين

كانت العتمة تضرب استدارة القمر ، تطاردها بلا هوادة ، من بقعة إلى أخرى ، و محدثه ينفخ في نار علاها الرماد ، يمدها ببعض الشرر، و هو يكاد يلتهم مبسم النارجيلة بشفتين غليظتين .
الدخان يلفهما ، فيقطعهما عن المضارب التي تسبح في عتمة السكون ، والليل .
لا يدرى كيف لف حول رقبته ثعابينه و حياته ، جعله في حالة اهتراء و تهتك ، ما تعرض لها من قبل ، لكنه يدريها و يعيها تماما . تركه في البراح ، يطارد ” فرط الرمان” غجريته الأسطورة ، فيه و فيهم ..كيف وقر في ضميره أنه يعرفها منذ قديم ، ولم تكن حكاياه عنها ، سوى نبش في الرماد ..” فرط الرمان ” اختفت فجأة ، حطت بكل من حلم بها ، في وحلة غيظه ، نقمته ، حساباته ، لا يدرى أحد متى خلفته ، وأين ، لم كان بعدها ؟ و كل من هنا يتمسك بها ، يطلب ودها ، كأنها حصن ومنعة ، حتى وهى منيعة عليهم ، وعصية !

كان صوت “ريح البندق” يعلو بين وقت وآخر ، كأنه يأتي من السماء والأرض ، يتردد صداه في كل المدينة ، الغيطان التي تحف بالمضارب ، بينما يتهامس أنين ” ناب الفيل” فيتهاطل المطر ، كأنه شتاء في غير موسمه ، له رائحة البراءة ، و سخونة الفراق !
تشاغبه أضواء المدينة من بعيد ، تلك التي فر من ضجيجها ، وأنفاس التوحش التي تدب في أوصالها ؛ فالليلة يعلن على الملأ ، من سيعتلي سدة العرش في المدينة ، بعد أسطورة النيابة عن الشعب ، و التفنن الذكي الذي أبدته الأحزاب المتصارعة ، مرة بالأموال ، ومرة بالرصاص والسنج والمُدي وركائز الخيام ، و تحريك الكامن في العشائر وأهل السطوة ، بل و السيطرة على رجال البوليس ، و اللعب بلا حياد لصالح حزب بعينه !
فجأة علت طلقات رصاص ، تهادت في قوة ، ترامت في الفراغ بلا توقف ،  بينما اصطخبت قهقهات الشيخ ، و كحاته المثقلة الأنياب .. هنا خرج عن صمته المقيت ، وهو يترنح ، يتراجع بجسده : اللعب عندكم فاق لعبنا ، كنت أظن أننا شياطين لا يبارينا أحد !! “. بينما رائحة البارود تجلد المكان .
جمر لا ينطفئ

“فرط الرمان “، قطعة جمر تشكلت كيانا لامرأة ، فأنضجتها هي البنت التي لا يعرف لها أحد عمرا ، تتهادى كغواية مجنحة ، كأن في ركابها ألف عفريت وجني ، تأخذ الأمكنة التي تعبرها لون ملامحها الصاخبة ، فتشتعل، تدب فيها الحرائق . تتعالى ألسنة اللهب ، و لا تصاب بالخمود أو الوهن، بلها تطارد رحيقها ، تتمايل ؛ فتصرخ أشجار السرو والصفصاف ، تحلق كفراشات ، تحتضن جمرها .. حين تتباطأ عنها ، تقف “فرط الرمان “، باستدارة غرائبية لإله إغريقي ، تنفث الحمى ، لتشتعل المضارب .ترتفع كميان التل ، ثم تقهقه متفسخة ، وتحط متناثرة كغبار .. في الليل يسمع بكاؤها ، كصدح اليمام البري ، فيثير دهشة و استغرابا وغربة لا حد لها ، مما حير الجميع ، ودفع شكوكهم إلى الطعن في نسبها ، أصلها و فصلها ، فهذه الخرافة كانت ابنة لـ “صحن العسل” ، أو كما يطلق عليه الجميع القمر ، من زوجته “رمال الندى”، البلانة الشهيرة التي على يديها اختلجت المضارب .. عششها ودورها ، بالصبيان و البنات ، وأدخلت الفرحة كل القلوب ، خاصة الفتيان و الفتيات .. صرخوا بقذف “رمال الندى” بإفك برعوا في رسم ملامحه ، فادعوا معاشرتها لجني ، و حملها منه ، بل زادوا وعادوا في الأمر ، و غالوا فيه ، و أبحروا ما شاء لهم .. بعد سنين طويلة شاهدوها مشنوقة على شجرة سرو ، ممزقة الثياب و اللحم ، فحطت اللعنة على المدينة كلها ، وعم وباء ، حصد الكثير من الرؤوس ، كما تكفلت جيوش الغازي الإنجليزي بالرؤوس الباقية !
خارج الذات

كان لاختفاء ” فرط الرمان” وقع الصدمة ، في كل المضارب ، بل و تعدى ذلك حضر المدينة ، الذين كانوا لا يقلون عن غجر المضارب رغبة في الاستئثار بها ، التطاحن حد الموت في سبيل نيلها ، و الارتباط بها.
كان التوقيت غريبا ، ومضللا ، مع ذلك لم يمنع حضر المدينة من الهرولة ، والركض بحثا ، مخلفين الانتخابات الدائرة ، كأنها لا تعنيهم من قريب أو بعيد ، وقد أحسوا بخسارة فادحة لغيابها ، فأبحروا في ليل القرى ، قاع قاع البحر ، الأنهار الجارية ، العزب و الكفور والنجوع ، قلبوا الأرض بحثا ، على رؤوس أصحابها ، ولم يعودوا خشية الشعور المؤلم بالخيبة وانكسار الخاطر ، وربما ليقينهم في أن وجودها كان مهما في مثل هذه الظروف ، وكان من شأنه تغيير الكثير من الأمور ، التي تؤرقهم بلا استثناء !

 

إلي قاع الوقت

قطع عليهما خلوتهما صوت ” ريح البندق” ، كان عواء صاخبا هذه المرة ، يقترب منهما ريحا عاصفا تلفح وجهيهما ، تزوبعهما غبارا ، تطيرهما في المضارب كأوراق شجر جافة ، ثم تخلفهما ، وقد انقلبت النار ، و تدحرج الشيخ بشكل مؤلم ، كأن هناك من يصارعه ، ويسدد له طعنات قاتلة ، ثم خمدت حركته تماما !
كان تناثر بعيدا ، و عندما سكنت الريح و العواء ، زحف مقتربا من الشيخ ، وقد أصابه الهلع ، لا حركة ، لا صوت ، يقلب فيه ، ليس إلا ملابسه ممددة ، و لا أحد داخلها !
كاد يجن ، لكن الليل و الحدث ، أرغماه على التزام الحذر ، فسكن مكانه لا يبرحه ، محاولا كشف غياهب الأمر ، وحقيقة ما تم و يتم!
يتحرك زحفا .. خطوة و يتوقف ، يحدق فيما حوله. كان الليل و السكون ، ليس إلا أنين ” ناب الفيل” خافتا ، لا يتوقف .. و هو يزحف ويتوقف ، وقد أخمد برغمه كل تفكير ، إلا أن يبرح هنا سالما ، ولعنة بداخله يقمعها ، تخص هذا الهوس بالحكايا ، و القرب من الناس ؛ فما أجدبه ، و أقحل خياله!
أوغل في الزحف و الحذر ، فجأة اختفت الأرض من تحته ، هوي في سحيق معتم ، كأنه سقط من سحابة ، لا يتوقف .. بدا نور قوي يغشي العين ، و رائحة عبق ياسميني .. بلا وزن يتهادى ، يدنو من بحر أو سطح زجاجي ، لا يدري .. كل ما يدريه أنه تعلق بسدرة  !

 

السماء تمطر زجاجا

حين ضيقوا عليها الخناق ، أحاطوا بها ، و قد تفنن كل منهم ، في تأكيد وجوده ، قدرته على سلب لبها ، إبهارها ، بشتى أنواع الحيل ..وكانت نفسها تتوق للتحرر ، فما أحبت واحدا منهم ، ما رغبت إلا واحدا .. و لن ترغب سواه . ما عاشت و كانت  !
المهرجان صاخب ، لا ينفض و لا ينتهي ، و السامر حتى حدود السماء ينهش روحها ، فما كان منها إلا أن تحركت ، فاشتعلت نارها ، أكلت ملامحهم ، بينما هم لا يتحركون كأن مسا أصابهم ، حتى أتت النار على الكثير، بينما الصرخات تتعالى ، الأنات تملأ المضارب ، الأشباح تتحرك ككتل الجحيم.
كانت تضحك ، فتزيد النار قوة .. هنا أحست بخسف ما تفعل .. في لمح البصر خلفت لهم المضارب ، اختفت .. بينما كان ” ريح البندق” يصرخ بتهافت عجيب ، وهو يجذب خيوط غزله ، ويعود يرخيها ، ثم تختفي تماما كأن لم تكن ، تظهر بيضة بكفه ، بالآخر حجر.. و ” ناب الفيل” يئن ويعض أصابعه ، فيموت الشجر عصفا ، وتهطل السماء زجاجا !

 

اللبن المسكوب

كان الحاكم الجديد يؤدى اليمين ، حين كان الرجال يعودون من رحلة بحثهم بخيبة أمل ، نالت منهم جميعا ، وأشعرتهم بعار ما بعده عار ، فانزووا في دورهم ، يبكون ما آل إليه حالهم ، كأنهم كانوا يلهثون خلف شيء لا وجود له ، عن حلم خامر صدورهم في ساعات نومهم و يقظتهم ، و هاهم يصحون منه ، محملين بيأس عتيد ، ومرارة لن تفارقهم ، زادت لذعاتها حين طالعت عيونهم ، الحاكم الجديد من خلال الشاشات  !
ناب الفيل” حين طالع وجه الحاكم ، تهلل ، و ارتفع أنينه ، فاهتزت عشش الغجر ، خانتها الأرض ؛ لتعلو صرخات من بها ، بينما هو يأخذ طريقه إلى قصر الحاكم مباشرة ، و هو يهذي :” ابني ريح البندق.. ابني “.

 

ليس من بد

حين عاد من موته ، كانت أمامه .. شعر بها تسكنه ، أنها تتحرك داخله بكامل حريتها ، كما تتحرك أمامه الآن ، تاه عن نفسه ، و عن العالم ، كأنه الحلم يزوره ، وبكامل بهائه ، و هي تبسم كأن وجدا في السماء هبط هنا ، ثم مدت ذراعها ، جذبت شعر رأسه ، كأنها تخلع منه شيئا ، عادت كفها تحمل كائنا .. يا ربى .. إنه الشيخ .. الشيخ .. ما الذي يحدث :” شبّعكم بي ، حتى كدت أعشق وجوهكم ، و ألوانكم .. لكن ما وجدت من يأخذني لنفسه ، يغتصبني مني ، أكون له ، معشوقة ، يموت لأجلي !”.
كانت المفاجأة أقوى من احتماله ، أقعي أرضا :” أيها الشيخ .. ألم تقل .. احترق الكثيرون بجمرها .. ألم تقل .. لا تتركني أهذى ؟”.
عدل لباسه ، وهمهم :” ماتوا على بابها ، ماتوا في الشكل ، وليس الجوهر .. وكانت وسيلة .. وسيلة لأطماعهم .. كلهم تخاذل أمامها .. كلهم !! “.
صرخ مدبدبا :” لكنها في تتحرك .. تتحرك !”.
اقتربتْ :” ما الفائدة ؟ كان ريح البندق أقوى منك اقترابا ، لعب بحنكته فيما يريد و يطمح ..أقوى منكم جميعا بأسبابه وطريقته !”.
هنا لم يستطع صبرا ، يهذي بقسوة ، ينهال على رأس الشيخ ، و بقطعة خشب مدببة يفجر دمه :” كنت تتلاعب بي .. كنت لعبة أنا .. و أنت تمارس علىّ عجزك .. مت الآن .. مت !”.

ينحدر شلال ماء ، يجرفه على حين غرة . يناديها : ” فرط الرمان”. لا من مجيب . ينزلق بقوة .الماء يغمره . يشهق ، يكاد ينتهي ، يسقط من حالق .. الموت الآن إذًا .. وهو لا يريده .. نعم طلبه تمناه كثيرا ، لكن الآن لا .. سبح بجسارة ، بإرادة عجيبة ، سبح عكس التيار متجها صوب الشاطىء ، حين اقترب من جذع شجرة ، تقبل فروعها وجه الماء ، كانت تملأ الوجود أمامه ، ببسمة أحدثت سحرا ، فتناثرت نارها . قبض عليها ، دنا . نفثت نارا كالجحيم . خاض فيها . كان الألم رهيبا ، لكنها كانت تستحق ، و كان لا بد أن يصل إليها !

 

” بداية القصة ”

تجدونها في المخطوط اللاحق ( … ) المتن و الهوامش!

تل الواقعة * في الرابع عشر من هاتور1700

عاشق فرط الرمان!
 

 

 

 

*أحد أسماء حي سوق اللبن بالمحلة الكبرى قديما

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!