fbt

هايجين / بقلم الروائي-محمد فتحي المقداد

(أدب العزلة في زمن الكورونا)
(خاص بصحيفة آفاق حرة)

حَيْرتي طالت التَّشكّك في كلّ شيء حولي. الكتاب أتركه أسعى من فوري لغسل يديّ لمدّة عشرين ثانية، برودة الماء تُرعش دواخلي اهتزازًا. عُلبة سائل (الهايجين) في أكثر من مكان في البيت عند المدخل، وعلى الطاولة بجانب التلفزيون، وقبل وجبات الأكل أعتصرها؛ لتعقيم الأيدي قبل البدء بتناول أوّل لقمة.
هايجين كلمة جديدة على قاموسي، تداولتها الألسن مُؤخّرًا بشكل مفاجئ، لم أسمع بها من قبل، سألتُ أبنائي للتأكّد من الكلمة على وجهها الصّحيح، حتّى إذا اضطررتُ لنطقها أمام أحد، لأدرأ عن نفسي سخريته منّي، ولو كان ذلك في سرّه، ولم يكن ليُظهره إلّا في غيابي بعد افتراقنا. ويتندّر عليّ أمام أصدقائه بما شاء له ذهنه من تزييد للموقف؛ لاستدرار ضحكاتهم. الضحك مجّانًا على حسابي.
كنتُ قبل ذلك أصاب بالصّداع عند رجوعي للبيت، من رائحة أرجل الأولاد بعد عودتهم من المدارس، فألجأ لاستخدام صلاحيّاتي بإصدار أمر فوريٍّ، بتوجّههم إلى الغسيل بالصّابون. تذمّر واحتجاج غير معقول منهم، يرفعون أرجلهم إلى أنوفهم يتشمّمونها مع جواربهم، فكلّ منهم يسعى لنفي التّهمة عن نفسه. ودرءًا لقمع الرّائحة الكريهة على الجميع القيام بعمليّة الغسيل تحت إشرافي مُباشرة، وأنا أقف فوق رؤوسهم. للتأكّد.
في الصّيف أو غيره؛ أجُبر على استنشاق روائح تعلق في أنفي كما روائح زرائب الماعز أو الغنم والبقر والحمير، أهمّ مكان في بيوت الفلّاحين أيّام زمان، فحياتهم كانت مُرتبطة بهذه الحيوانات، بينما أنا حياتي مُرتبطة بعملي في صالون الحلاقة.
-“يا إلهي..!! منذ متى وهذا الرّجل لم يستحمّ”.
تداعيات أفكار تنتابني مُستحوذة على قرفي من الموقف المُخجل من الزّبون. أعزّي نفسي بما تناقلته كتب التّاريخ عن الأوربيّين؛ حين وصل المهاجرون منهم الأوائل إلى أمريكا على متن سفينة (المايفلاور)، أوائل القرن الـ17، كانوا يتميّزون برائحتهم الخاصّة، ولم يكن هؤلاء الأوروبيّون يستحمّون بانتظام.
أفقتُ على دهشتي من موقف قرأته منذ زمان في مجلّة طبيبك الشهريّة: ” إنّ الملك لويس الـرّابع عشر، ملك فرنسا خلال القرن الـ17، لم يستحم سوى ثلاث مرّات في حياته بالكامل”.
أغلب ظنّي، وإنّ كثيرًا من الظنّ ليس بإثم:
-“أنّها كانت بناء على نصيحة الطبيب لعلاج تشنّجات ألمّت به، وليس من أجل نظافته الشخصية.”
في المقابل ذكر الطّبيب (حتاحت) صاحب المقال:
-“أن العروس في دمشق كانت تذهب مع النّساء إلى الحمّام العامّ في السّوق، ومن كثرة الفرك والتّدليك؛ يتخرّش جلدها، فكان بعضهّن تأتيها الحرارة والحمّى من التهاب جلدها. فالاعتقاد السّائد وقتها، أنّ هناك ممن كنّ في الحمّام عليها الدّورة الشّهريّة، فكان لا بدّ من البخّور والرّقية والحُجُب خوفًا من تلّبس الجنّ للعروس”.
ابتعدتُ كثيرًا.. كدتُ أنسى قصّتي مع الهايجين، قبل فرض الحظر على خروجنا، كلّما عُدتُ إلى البيت، تزكمني رائحة المشافي استقّرت فيه، تشابهت الرّوائح عليّ كما تشابه البّقر على بني إسرائيل، منقوع الخضار بالماء والملح الخلّ، رائحة الكلوروكس في الحمّامات.
ضاعت من ذاكرتي رائحة عطري (الجاكومو) النّاعم المُفضّل، و الـ(ون مان شو)، استوطنتي حاسّة شمّي الرّوائح الطّارئة علينا بفجاجة، احتملتُها على مضض مُكرهًا، لا خيار آخر أميل إليه فرارًا من الوضع.
استسلمتُ للأمر بلا احتجاج ولا تأفف، قهرٌ داخليّ أصابني بالمغص الدّائم، والتشّنجات المعويّة، وشعوري بأنّ حاسّة الشّم تلفت، ولن أنعم بها ثانية. واصلتُ العزف على أمنيتي بانتهاء الحظر عمّا قريب، وعودة الحياة إلى طبيعتها. لكن فرحتي العظيمة؛ بتعلّم كلمة أجنبيّة جديدة أردّدها في حواراتي مع أصدقائي ومعارفي، أتفاخر بلفظي كلمة غريبة؛ تعرّفتها من أبنائي، لضرورتها في الوقت الحالي.

 

عمّان –الأردنّ
8 \ 4 \ 2020

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!