الطائرة الغاضبة/بقلم:يسرى البشيري

(مرت سنة على تلك الحادثة)
نظرت إلى الساعة، إنها الثامنة صباحاً، تمنيت لو أني بقيت نائمة لسنين. كان الاستيقاظ من النوم متعبا جداً لإنسانة ماتت روحها قبل عام.
أمسكت رأسي وضربته على الوسادة وبدأت أصرخ: ليتني أفقد الذاكرة!
لم أعد أستطيع التحمل وأجهشت بالبكاء.

كالعادة دق باب غرفتي وبصوت خافت هل استيقظتِ؟
أيمكنني الدخول؟
مسحت دموعي وقلت له: ادخل .
دخل عمي الطيب كعادته يصبح عليّ،حدق بي بينما أنا أنظر إلى الأسفل؛حتى لايرى دموعي المنسدلة على خدي.

قال لي: هل أنتِ بخير؟
قلت له :لست بخير ياعمي!
ولم أستطع التحمل وانفجر ذلك الحزن الذي أخفيه عن كل من حولي،
قام باحتضاني ، ويمسح على شعري وقال لي :سيمضي يابنتي، فقط كوني قوية وكان يطبطب عليّ وصوته مملوء بالبكاء.
مسح دموعي وقال لي : أغسلي وجهك الآن ؛فالجميع ينتظرك لنفطر معاً.
احضنته بقوة وقلت له :لحسن الحظ أنك موجود في حياتي.

وقفت على قدمي وكان الوقوف متعباً جدا، سوف أخرج من غرفتي لمواجهة ساعات طويلة تسمى (الحياة) الحياة التي ماتت قبل عام
أكملنا فطورنا ثم ذهبت إلى المطبخ أنا وابنة عمي التي تصغرني بعامين،
بدأنا بتنظيف المطبخ، كنت أهرب للعمل؛حتى تمر ساعات يومي دون تفكير.
بصوت عالي كانت تنادينا عمتي (زوجة عمي)
هيا يافتيات،حان موعد تعبئة الماء من السد،غداً جمعة؛ نحتاج كمية كبيرة من الماء.

نظرت إلى ابنة عمي وقلت لها :هل تفكرين بنفس تفكيري؟
ضحكت وقالت نعم نعم، هيا إذن؛فالحمار ينتظرنا .

ارتديت عباءة سودا والبرقع،
عكس فتيات القرية،فقد كن يرتدين رداء طويلا يسمى (الروب)ولثاما يُربط بطريقة خاصة.
وعندما أخرج
يعلم الجميع أني أتيت من المدينة بسبب ملابسي.
وكان الأمر يبدو غريباً لهم؛أن فتاة من المدينة تقوم بحمل قناني الماء بعد تعبئتها من السد.

لكن هذه المرة أمسكت الحمار وقمت بترتيب السرج (قطعة قماش مقسومة إلى نصفين توضع في ظهر الحمار،بحيث يتم إدخال قناني الماء فيها)
تجهزنا وكالعادة أخرجت معي كتب الجامعة ؛حتى أذاكر بعد الانتهاء من التعبئة.
ذهبنا إلى السد،كان الجو ماطرا وتهب رياح جميلة، تخترق الجسد وتنعشه ،كانت جميع فتيات القرية في السد يتبادلن أطراف الأحاديث والمزاح ومساعدة بعضهن البعض وأنا أقوم بمراقبتهن فقط، فعلى مدى عام كامل لم أستطع أن أقيم صداقات مع أحد، كنت منعزلة تماماً.
نادتني ابنة عمي وقالت لي:هيا انزلي ،لقد حان دورك.
وبدأت نظرات الفتيات تلتف نحوي.
نزلت وملأت قناني الماء وكنت أسمع كلماتهن بشأني .
إنها مسكينة لم يعد لديها أحد من أهلها،كيف نجت بمفردها!؟
إن وضعها يفطر القلب.
أغمضت عيني وتنهدت وحدثت نفسي:هيا اصعدي وكأنكِ لم تسمعي
رفعت قناني الماء
اقتربت من ابنة عمي وهمست في أذنها :
أنا ذاهبة إلى التلة،سوف أراجع بعض الدروس هناك.
أمسكت على كتفها فقلت لها :سامحيني؛فأنا لم أستطع أن أكمل معكِ
ابتسمت وقالت :اذهبي لاتقلقي، سوف أكمل البقية

ذهبت إلى مكاني المفضل، تلة خضراء مطلة على القرية، كنت أذهب إليها كلما ضاقت بي الحياة،
عندما أشعر بأني أختنق، عندما أشتاق لهم !

فتحت الكتاب وبدأت بتقليب الصفحات وتذكرت أختي ريما، عندما كانت تداعبني وأنا أصرخ فيها: هيا اذهبي؛ لدي اختبار، وكانت تعاند دوما.
تمنيت لو أنها الآن تقاطعني، نزلت دموعي ورميت ذالك الملزمة ونظرت إلى السماء وصرخت:
يا لله !ماهذا الوجع الذي لايزول!؟
أريد الخلاص من هذا الألم الذي يعتصر قلبي، جلست وضممت رجلي وبدأت بالبكاء؛ربما أرتاح قليلاً.
فجأة سمعت خطوات قادمة، رفعت رأسي ونظرت،لقد
كانت فتاة عشرينية يبدو عليها أنها من فتيات المدينة، اقتربت مني وقالت لي :مابك ؟
لقد راقبتك منذ لحظات،كنتِ منهارة تماما.
سألتها: من أنت؟قالت: أنا بسمة، نازحة منذ شهرين ولأول مرة أخرج اليوم، بالصدفة رأيتك.
آسفة على فضولي
لكن ما قصتك ؟
حدقت في عيني وقالت : آسفة ربما أضغط عليكِ هكذا
سوف أذهب.

قلت لها:لا لا
اجلسي سوف أحكي لكِ

فجأة بدأت السماء تمطر بغــزارة
قالت لي بسمة: إنها تمطر، لسوف تمرضين أيتها البائسة،ربما تحكين لي القصة مرة أخرى.
ضحكت بسخرية ! فقلت لها :
هل يشعر الموتی بأية وعكة صحية؟

وبدأت أسرد لها حكايتي الأسطورية:

في العام الماضي، أي نفس هذا اليوم تماما،كنت قد فقدت أهلي في غارة جوية مشؤومة، استهدفت منزلنا في صنعاء.
قالت بسمة : ياإلهي!
وأين كنتِ لحظتها؟

في ليلة مرعبة، كان القصف على المدينة هستيريا، وبيتنا يقع علی الخطوط الأمامية، أي أنه كان مهددا بالقصف،فلسوء حظنا كان قريبا من بيت قيادي كبير مستهدف.
كنا نسمع صوت الطائرة ونشاهد الموت قبل حلوله.
كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، استيقظنا على صوت صاروخ أضاء بيتنا بأكمله
خرجت إلى الصالة أنا وأمي وأختي الصغيرة ريما، ذات الأربعة أعوام وأبي وجدتي
كانت أختي ريما متعلقة بي أكثر من أمي، كانت تحتضني بشدة وتقول لي :هل سنموت !؟
أمسكت دموعي وقلت لها :لا ياعزيزتي
لاتخافي، سوف تذهب الطائرات الآن، إنها غاضبة قليلا.

كانت أمي تبكي تأثرا بكلام ريما.
أما أبي فقد كان يجلس صامتا،وجدتي المحظوظة كان سمعها خفيفا جدا، فلم تكن لتخاف.
استمر القصف ساعتين كاملتين.
توقف القصف ودخل الجميع غرفهم وريما مازالت تحتضني وهي خائفة.
داعبت شعرها الذهبي وقلت لها :
هيا صغيرتي ، أغمضي عينيكِ الآن
لقد ذهبت الطائرات اللعينة الغاضبة بعيدا.
احتضنتها ونمت.
استيقظت الصباح على
تقبيلها لي وتعلقها فوقي وكانت تصرخ وتقول:هيا هيا ياكسولة، لقد تاخرتِ على الجامعة.
فتحت عيني ببطء
وجسمي في حالة ارتخاء وتثاقل غريب.
أخذت وسادتي ورميتها على ريما وضحكاتنا تملأ الغرفة.
وصلتني رسالة smsمن صديقتي عبير تقول فيها
(هيا استعدي بسرعة، لسوف أنتظرك عند باب منزلك)
أسرعت بتجهيز نفسي
وذهبت إلى المطبخ، كانت أمي تجهز الفطور وأبي كان نائماً على غير عادته
وجدتي أمام النافذة تراقب شيئا لا أعلمه.
ذهبت ريما لتوقظ أبي بطريقتها الساحرة
واجتمعنا على الفطور
وقلت لهم:صديقتي تنتظرني في الأسفل،سوف نذهب إلى الجامعة سويا.
عم الصمت بينهم
قالت أمي : الأوضاع غير مطمئنة يابنتي
قلت لها : أمي الحبيبة!
لقد تغيبت شهرا كاملا عن دروسي، يجب أن أذهب.
نظرت إلى أبي وهز رأسه قائلاً: اذهبي إذا
أستودعك الله
أما ريما فقد أسرعت تجهز ملابسها؛ لتذهب معي
قلت لها :لايمكن أن آخذك
إنها جامعه، سوف تتعبين كثيرا
احتضنتني بقوة وهي تبكي وتصرخ
أخذتها والدتي وعويلها بعيدا
أريد أن أذهب معكِ، أنا أخاف من الطائرات الغاضبة.
أسرعت وحضنتها وقلت لها :
لن تأتي الطيارة الغاضبة اليوم، سوف أشتري لكِ بعض الحلوى عندما أعود
بصوت عالِ:
أبي أمي جدتي أنا ذاهبة
إلى اللقاء.
نزلت والتقيت بعبير، ذهبنا إلى موقف الباصات
كانت الساعة العاشرة صباحاً
وصلنا إلى الجامعة وهناك غصة بقلبي تربكني، كنت مشوشة للغاية
سألتني عبير:مابك؟ تبدين مريضة!
أجبتها :لا لا،عقلي مشوش قليلاً، هيا ندخل القاعة

دخلنا القاعة وعند منتصف المحاضرة، بدأ تحليق الطيران اللعين
كان الصوت قريبا جداً، تذكرت ريما
أخذت موبايلي واتصلت بأمي
أجابتني وسألتها عن ريما
قالت لي :إنها خائفة قليلاً؛ لأنك أخبرتِها أن الطائرة الغاضبة لن تأتي اليوم
بينما أنا أكلم أمي، اهتز المكان بكامله
إنه صوت انفجار سمعته بسماعة الهاتف، وسمعته حولي
جف ريق فمي وبدأت أنادي :أمي أمي!
هل تسمعينني؟ أمي مابك أمي
وصرخت بأعلى صوت أمي
أمسكتني عبير وهي ترتجف وقالت مابك؟
أجبتها :صوت الانفجار كان بسماعة الهاتف ياعبير
تغير لون وجهه عبير وقالت ماذا ؟
لا ربما تتوهمين
صرخت بأعلى صوت :لقد كان الصاروخ قريبا من أمي لم تكمل مكالمتها معي
التف الجميع حولي وأنا أصرخ، عاودت الاتصال اتصلت بأبي أيضا لكن لافائدة
للحظة شعرت وكأني أسقط أرضاً
كنت أرتجف أمسكتُ عبير بقوة وقلت لها هيا هيا نذهب إلى البيت

أسرعنا نحوَ الباب وإذا بزميل لنا كان يفتح سيارته
تضامنا مع حالتي المفزعة ليوصلنا إلی المنزل.
كنا نقترب من البيت وأنا علی وشك أن أفقد عقلي. أسمع سيارات الإسعاف وكلما اقتربنا من المنزل زادت الأصوات أمسكت رأسي كي يبقی مكانَه.
أتلو ما أحفظه من التعويذات والأدعية
:لا لا يارب لاتجعل ما أفكر به حقيقيا
يالله لاتختبرني بأهلي أرجوك ياإلهي!
وصلنا إلى حارتي وأنا أشد رأسي بكلتا يدي
لم أستطع النظر إلى النافذة
كانت عبير هي الأخری تبكي وقتها عرفت أن ما أعيشه في مخيلتي هو الحقيقة لاغير.
أمسكتني عبير واحضنت جسدي المتهالك بقوة
هيا ننزل الآن
فتحت الباب ونزلت بخطی منهارة تماما
كان الجميع حول منزلنا وسيارات الإسعاف بجانب الحطام المتطاير هناك وهناك
الجميع يبحث تحت الأنقاض أما أنا فأقف وكأني في عالم آخر
كانت روحي غائبة وعيناي تحدقان في المكان.
تسمرت في ذلك الجحيم بجسد مشلول
لازلت أنتظر عناق أمي، أنتظر بزوغ عيني الصغيرة ريما،تحمل دميتها وتأتي من آخر الرواق لتأخذ الحلوى.
الحلوی التي رحلت دونَ أن تحقق طموحها الطفولي
بتذوقها.
أنتظر أبي وجدتي
اقتربت من البيت
لم يعد يوجد باب أدخل منه؛ حتى أبحث عنهم
سمعت من حولي يقولون: لقد وجدناها ،ارفعوها. اقتربت منهم بتوجس وانهيار
كانت جثة أمي الهامدة،تسبح في بحر من الدماء
الزاكية، والتراب المبتل
ويداها مبتورة
صرخت بأعلى صوت: أمي أمي
أمسكتني عبير ونساء الحارة وأنا عيناي على سيارة الإسعاف، أنتظر رؤية أبي وجدتي وريما
لكن طاقتي في التحمل كانت أضعف من هذا المشهد الهولوكوستي اللعين
غبت عن الوعي ولم أفق إلا في المستشفى
استيقظت أتلفت يمنة ويسرة
كنت أصرخ بالجميع، لكن الجميع كان قد رحل

نهضت مسرعة أبحث عنهم هنا وهناك
أمسكتني أم عبير وسألتها أين هم؟
في أي مستشفى ؟
أخبريني أرجوك.
كانت تبكي وتقول لي أتريدين رؤيتهم؟

قلت لها :أرجوكِ خذيني إليهم اودعهم للمرة الأخيرة

ذهبنا إلى ثلاجة الموتی
أمسكتني الممرضة وقالت لي:
هل أنتِ جاهزة
فتحت أول طابق
كان أبي
احتضنته وعاتبته:
لماذا تركتني ياأبي؟
أرجوك لا تذهب،لقد كان مبتسماً

أبعدتني الممرضة وفتحت الطابق الثاني
كانت طفلتي ريما ذات الشعر الذهبي والوجه الملائكي
لقد شوهت الشظايا الحقيرة ملامحها
نظرت إليها وسقطت أرضا،لم أعد أحتمل
كانت الممرضة تزيحني لتغلق على ريما
صرخت بأعلى صوتي: لا
اسمحي لي أن أودعها لآخر مرة
نهضت وأمسكت وجهها وقلت لها : أنا آسفة لأني ذهبت وتركتك بمفردك تواجهين الطائرة الغاضبة
لم أستطع أن أعانقك وأنتِ خائفة
كنتِ محقة ليلة البارحة، عندما ذكرتِ الموت
آه ياصغيرتي مازلتِ طفلة صغيرة وانتهت رحلتك ومازلتِ طفلة،احتضنتها لآخر مرة، كانت باردة كقطعة الثلج
ودعت جدتي وأمي بدون دموع وكأني فقدت كامل إحساسي حينها وكأن الشعور مات بداخلي
امتلأت بالصمت والشرود
بالحسرة بالوجع روحي منطفئة
اتكأت على جدار الغرفة
أمسكتني عبير وسألتني :هل أنتِ بخير؟
ياله من سؤال سخيف!
قلت لها :لم أعد أحتمل، لا أعلم إلى أين سأذهب!؟
تابعت خطواتي وعبير خلفي تناديني: انتظري انتظري
وصلت حتى باب المستشفى ووجدت عمي
على ملامحه هالة الحزن والصدمة
احتضنني بقوة وقال لي: أين أنتِ؟
كنت أبحث عنكِ
الحمدلله أنكِ بخير
هيا معي سوف نذهب معاً
كنت أحدق في عينيه
في حالة شرود
أمسك وجهي وقال لي: أعلم بما تشعرين به لكن سوف يمضي ،أنتِ قوية وأثق بذلك
هيا معي

قلت له :عمي أريد أن يكون قبر أهلي في قريتي
أريد أن يكونوا قريبين مني ،أرجوك

هز رأسه وقال :وهو كذلك

مرت الأيام والشهور
ومازال وجعي طرياً
هذا الألم لا يزول ولن يزول

الحرب أخذت روحي مني ورمتني جثة هامدة لاتقوى على شيء

أخذت أحلامي، مزقتني إلى قطع صغيرة، لم أعد أستطيع لملمة هذه الأشلاء
لا أستطيع الوقوف مجدداً
أخذت مني معنى الحياة
أصبحت بجسد متحرك فقط
روحي تسكن في ذلك المنزل، الذي عشت فيه مع أمي وأبي وأختي وجدتي
في جدران غرفتي
في صوت أختي
في رائحتها في حضنها
في الأيام والليالي التي عشناها معاً
في حنان أبي
بدعوات جدتي
برعاية أمي

*الحرب قتلتني*

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!