الفنجان (خاطرة قصصيَّة) بقلم. نجيب كيَّالي

لصحيفة آفاق حرة

 

الفنجان
خاطرة قصصيَّة
بقلم. نجيب كيَّالي. سوريا

 

فاجأها يوماً بسؤالٍ مُحرِج وهو يضع ذراعَهُ على خاصرة المساء:
– أستحلفُكِ بعينيكِ الحلوتين.. هل هناك مَنْ تحبينَهُ أكثرَ مني؟
كعادتها في المِزاح خرج صوتُها محمولاً على كتف ضحكة:
– ومَنْ قال لك: إني أحبُّكَ أصلاً؟!
أمسكَ وجهَها بحنان بين يديه، وحدَّقَ في عينيها قائلاً:
– أنا لا أمزح. أريد أن أعرف. أنتِ تعلمين أنَّ في داخلي بقايا طفل، وهذا الطفل يظهر أحياناً، ويطرح أسئلةً من هذا النوع.
– طيِّب يا طفل. اجلس بأدب كالصغار أو تَكَتَّفْ باحترام كتلاميذ المدرسة لتسمعَ الجواب.
امتثل لطلبها، فجلس جلسةً طفولية، فإذا بها تقول:
– عندي شرط.. اعترافي خطير، وحبيبي الآخر الذي قد يكون أغلى منك لا يجوز أن تفضح سرَّهُ لأبي وأمي أو لأي كان حفاظاً على سمعتي.
ارتجف قلبه، وهمس لنفسه: يبدو أنَّ عندها حقاً من تحبُّه أكثرَ مني! يا لها من ماكرة! ثم قال لها:
– قبلتُ الشرط. هيَّا تكلمي.
نهضت وأخذت تروح وتجيء أمامه صامتة كالممثلة المصرية سميحة أيوب في مسرحية تراجيدية، ثم قالت:
– بصراحة.. عندي مَنْ هو أغلى منك، وقد عرفتُهُ قبلك بزمنٍ طويل، وهو لطيفٌ معي للغاية، أبوح له فيفهمُ بوحي، أقتربُ منه، فيقتربُ مني أكثر! ويا ربي عفوَكَ.. عفوَك، فقد تبادلنا القبلات أكثرَ من مرة!
ما كاد يسمع كلمة: قبلات حتى وثب نحوها غاضباً كنَمِر وهو يصيح:
– تبادلتُما القُبل يا ذاتَ العفاف والنقاء.
ردَّت بجرأة:
– نعم، لطالما وضعتُ شفتيَّ على شفتيه الدافئتين. إنه.. إنه فنجان القهوة.
همدت موجةٌ عالية في صدره، فضحكَ.. ضَحِك حتى دمعت عيناه، ثم اندفع نحو المطبخ، وأحضر منه فنجانَ القهوة الذي تستعمله دوماً، وضعَهُ على الطاولة، وهو يقول:
– ولماذا تحبين هذا الأبله أكثرَ مني؟!
قالت بجدية:
– فنجان القهوة ليس أبله، أرجوك لا تسئ إليه أمامي. فحين يخرسُ العالم كلُّه يبقى هو وحدَهُ قادراً على الكلام، حين تنسدُّ جميع الطرق يدلُّك هو على طريق، عنده حكايات كثيرة، ومرايا كثيرة، وأهمُّ ما فيه أنني أحاول أن أنساك يا رفيقَ حياتي المُتعِب فيذكِّرني بك! ببراعةٍ عجيبة يرسم لي وجهَكَ فوق سطحه، فإذا بي أبحث عنك، وفوق شفتيَّ كلمة: حبيبي!
رقص قلبُه فَرَحاً، فوجد نفسَهُ يهجمُ على الفنجان يضمُّه إلى صدره، وبعد أن غَمَرَ أطرافَهُ بقُبلٍ حامية قال:
– أنتِ تحبينَهُ أكثرَ مني، سامحتُكِ، وأنا من الآن إلى آخر العمر سأحبُّه أكثرَ منكِ. سامحيني.

________

من كتابي: (زهرة بيضاء في العينين)، وهو كتاب في الحب الزوجي.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!