بارود وبنفسج(ثنائية قصصية)/بقلم:أحمد علي بادي(اليمن)

(1)

المصاب
الطعنة الأولى.. غابت في كتلة السواد.
الثانية.. بدأت تظهر نقطتان حمراوان.
الثالثة.. وتوقفت عن إعمال خنجر النظر في جسد الليل، جمدت في مكاني، كان الذئب يغرس نظراته النارية في عيني، ورفيقي لم يظهر بعد..
(آه.. كم تتمنى الآن، لو كنت أعمى، لو تبتعد عنك هاتان العينان الأشد فتكاً من براثن الذئب. أكاد أجزم أنهما عينا زينب لولا…)
-هل أنت بخير؟
كانت الممرضة تسأل المريض، بعد أن وضعت يدها على يده فانتفض كل جسده وكأن تياراً كهربائياً مسه فجأة، وحين فتح عينيه، أخذ يحدق فيها فيما راحت تخاطبه:
-لابأس عليك.. أكمل إذا أحببت..
عادت عيناه تتعلقان بسقف المكان، قبل أن يعود للحديث:
وقت أن داهمني الذئب، كان رفيقي قد ذهب ليقضي حاجته، وقتئذ كنا نرابط فوق التلة الجبلية التي كلفنا منها بمراقبة ثكنة العدو، أو أنا من كنت مكلفاً أساساً بذلك، بعد أن اشتهرت بين كل رفاقي المجندين بالمنظار الليلي للنظر الحاد الذي كنت أملكه..
(آه.. يا لقلبك المثخن بالطعنات، أكان لابد من أن تعود لتواجه هاتين العينين القاتلتين اللتين كانت زينب قد رحلت بهما، وأنت من بعدهما ذهبت لتحارب ولا تدري من تحارب فقط لأنك لم تعد ترى عيني زينب البسيطة في كل شيء ماعدا العينين والجسد..)
-ما بك صمت؟
عادت الممرضة تسأل المريض وهو يثبت نظراته على وجهها..
حاول إخراج تنهيدة احتبست داخل صدره..
-أرجو أن تكمل، إذا كنت تستطيع؟
قالت له وهي تحاول رسم ابتسامة خفيفة على شفتيها، فاستأنف حديثه معها، بعد أن أزاح نظره قليلاً نحو جسدها الذي كان يشي ببعض استداراته من خلف الرداء الأبيض:
كنا اثنين فقط، ترافقنا بندقية واحدة والظلام الحالك، كانت مهمتي المراقبة ورفيقي الحماية، وحذرنا من إشعال أي نار أو إطلاق أي رصاصة، إلا في حالة الاضطرار الشديد، وهكذا لم يكن أمامي إلا التراجع للخلف فيما كان الذئب يتقدم، لم أكن أحسب أي حساب للوقوع.
(لماذا لا تقترب منك إلا كل الأشياء التي لا تجني من ورائها إلا المتاعب، أما كنت تنتهي من تينك العينين حتى يداهمك كل هذا الجسد وكأن زينب تتلبسه لولا أنه يبدو أقل امتلاء..)
-ما بك؟ سأطمئن على جراحك فقط!
قالت الممرضة، وهي تنظر باستغراب إلى المريض حين انحنت فوقه فبدا مضطرباً قبل أن يضع يده على صدره.

(2)

تحت صفر المعركة
بدا لي القمر كأنه غير مبال بالغيمة السوداء الزاحفة نحوه، فأرجعت نظري إلى الأرض…
-عليّ أن أبدأ.
(آه.. كم تتمنى لو أنك الآن بجوار فتاتك ولست هنا…)
كان هناك عواء ذئب يثب على هدوء الليل، بينا المكان قد خلا من رفيقي.
-الرصاصة الأولى.
(كانت ستظل تشنف أذنيك بأغانيها الهامسة…)
وتوقفنا جميعا عن العمل، لما أخذ القائد يخطب بحماس بالغ حاثا إيانا على الإقدام من موقعه الذي يمنحه حماية جيدة.
-الرصاصة الثانية.
(لتعود هامسا في أذنها وابتسامة تتشكل على شفتيك: يا للقادة حين يتكلمون!…)
فور انتهاء القائد من خطبته، عدت للعمل مع البقية.
-الرصاصة الثالثة.
(هيه.. ستقول لك: اسكت، قل كلاما آخر…)
يبدو أنه علي التوحد مع هذا الصمت المباغت الذي اكتنف عواء الذئب، ورفيقي العائد إلى جواري.
-الرصاصة الرابعة.
(حينها سيكون عليك الاعتذار منها حتى تعودا لمراقبة…)
ولمحت الغيمة السوداء تطبق على عنق القمر.
-الرصاصة الخامسة.
(ستطلب منها أن تغمض عينيها وألا تكترث…)
ها هو رفيقي يخرج تنهيدة عميقة قبل أن يتمدد خلف المتراس محتضنا رشاشه، وتبرز سمانة ساقه موحية لي بعداء ينتظر ساعة الصفر لينطلق في السباق.
-الرصاصة…
وفجأة، توقف عن العد، القمر انطفأ، فتاته غابت في دهاليز ذاكرته، رفيقه لم يعد بجواره، الكل صار أجزاء مبعثرة؛ لم يبق أمامه سوى الغيمة السوداء التي أصبحت هائلة تخنق الأرض، وساق تقطر دما احتلت موقع بندقية لم يكمل حشوها.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!