تحت صدفة كتيمة / الأديبة السورية المبدعة روعة سنبل

تحت صدفة كتيمة
قصة قصيرة

” كل السلاحف إناث ”
قالت طفلتي الصّغرى ذات السّنوات السّبع هذا بيقين، وعندما سألتها عن السّبب، أجابت وهي ترفع حاجبيها مندهشةً من سذاجتي: ” اسمها سلحفاة، فهل من المعقول أن تكون صبيّاً!”، أخبرتُها عن وجود كلمة “سلحُف”، ذكَر السّلحفاة، فأدارت ظهرها وانصرفت، بعد قليل سمعتها تحدّث نفسها بسخرية وهي تحمّم السلحفاة: “سلحف! ما هذه الكلمة السّخيفة!”

” السّلاحف تتكلّم، لكنّها تخجل أن تفعل هذا أمامنا”
كنتُ أقبّل طفلتي الكبرى ذات السّنوات الثّماني من جبينها قبل النوم حين قالت هذا بثقة، وأضافت: “عندما ننام نحن، تتكلّم هي”، سألتُها بفضول: ” كيف أمكنكِ معرفة هذا؟”، فأجابت مستنكرة سؤالي: ” يعني، هل من المعقول أن يخلقها الله عاجزةً عن الكلام؟”، في الأيام التالية صارت تناديني بين الوقت والآخر عندما تتلاصق السّلحفاتان معاً، ويصير رأساهما قريبين من بعضهما، وتقول مبتهجة: ” ماما، تعالَي وانظري كيف تتهامسان!”

“سلحفاتي تحلمُ أن تسبح في الهواء”
قالت طفلتي الصّغرى وهي تلاعب سلحفاتها حين كنّا في حديقة البناء، “من أخبركِ؟” سألتُها وأغلقتُ الكتاب الذي كنتُ أقرؤه جالسة على الكرسي، أجابتني باقتضاب وهي تركض فوق العشب نحو سلحفاتها: “الأمر واضح”، عادت وقد حملت السلحفاة، بدت هذه الأخيرة منزعجةً، تلوّح بيدَيها وقدمَيها بإلحاح، وتهزّ رأسها يمنة ويسرة بسرعة، فصرخت طفلتي سعيدة بانتصارها: ” أرأيتِ ماما كيف تسبح!”، ثمّ أضافت بحماسة: ” ماما، أنا أيضاً أحلم أن أسبح في الهواء”
***
صباحاً حين تكون الطّفلتان في المدرسة، أقضي كثيراً من الوقت في تأمّل السّلحفاتين، أحدّق في وجهَيهما المسالمَين، وعيونهنّ الحزينة، وتجاعيد أيديهما وأقدامهما، أراقبُ خطواتهما الثـقيلة، وأحسدهما على كلّ العوامل المهيّأة لهما استجابةً لرغبتهما في العزلة: صدفةٌ على الظّهر، نومٌ داخل التّراب، وسباتٌ يستمرّ شهوراً.
دون أن أدري، أفترض كطفلتي أنّ السّلاحف كلّها إناث، وعندما ينام الجميع، أنصتُ لأصوات خافتة تشبه الهمهمات، تصدر أحياناً عن السّلحفاتين اللّتين تنامان متلاصقتَين، فأؤمن كطفلتي الأخرى أنّهما تتهامسان، وحين أسمع بين الوقت والآخر ما يشبه تأوّهاتٍ خفيضة، أفترض أنّ إحداهما سعيدة، تسبح في الهواء في حلمها!
كطفلتيْ، وكسلحفاتها، صرتُ مؤخّراً أحلم كثيراً بالسّباحة في الهواء، السّباحة أفضل من الطّيران، الطّيران يحتاج أجنحة، والأجنحة تغري بالقصّ، وأنا أكره المقصّات بكلّ أنواعها، السباحة أفضل، نعم أفضل بالتّأكيد، الطّيران يحتاج أجنحة، والأجنحة تتطّلب الرّيش، والرّيش مأوى للحشرات الصّغيرة، وأنا أكره الحشرات بكلّ أحجامها.
***
وضعتُ على (الفيسبوك) صوراً للسّلحفاتين منذ شهرين تقريباً، فراسلني يومها أحد أصدقائي المقرّبين، وهو شاعرٌ وسيم وحزين، قال إنّه يكره السّلاحف، ويستغرب لمَ يقتنيها النّـاس، كتب لي: ” أخبريني بربّك، ما الممتع في العناية بمخلوقٍ بليدٍ كهذا؟”، لم أجبه، فقط أرسلتُ له صورةً أخرى للسّلحفاتين وحولهما كثيرٌ من أوراق الخس، ” تصبح على خير” كتبتُ له، وأرسلتُ قلباً أخضر، لكنّ حقداً عليه، أسود صغيراً، نبت في قلبي.
ليلتها مسحت بكفّي بحنان على ظهر كلّ سلحفاة، وابتسمتُ لأمنية شريرة خطرت لي، تمنّيتُ لو يصير صديقي الشّاعر يوماً ما سلحفاً، بعينَين حزينتين، وصدفة ثقيلة، وقبل أن أغفو فكّرتُ أنّني سأعثر عليه حينها حتماً، سيكون في السّوق، في زاويةِ قفصٍ صغير مزدحم بالسّلاحف، يقضم ببلادةٍ خسّة خضراء، سأعرفه بسهولة، إذ لا يصادف المرءُ كلّ يوم سلحفاً شاعراً. سأدفع ثمنه بسعادة، وسيصير لي وحدي، هو وحزنه وشِعره، سأعتني به جيداً، سأعشق تفاصيله، ضيق عينيه الملتمعتَين، وتجاعيده، وأظافره، وسأطلق عليه اسماً أنثويّاً لطيفاً أناديه به.
***
تستغرب طفلتاي منذ أسبوع الطّريقة التي أدلّل بها سلحفاً صغيراً اشتريتُه، ويستغرب زوجي ساعات نومي القليلة، لا يعلم أحدٌ أنّني أسهر لأراقب بشغف سلحفي الوسيم نائماً بعمق، وحين يتأوّه ليلاً أمسح على ظهره برفق، أقنع نفسي حينها أنّه بالتأكيد يتأوّه سعادة، لأنّه يسبح في الهواء في حلمٍ ما، وأطرد عن رأسي احتمالاً موجعاً يلحّ عليّ أحياناً، احتمالاً يخبرني أنّ كلّ الشعر، وكلّ الحزن الحبيسَين في صدر سلحفي، تحت صدفته الكتيمة، يؤلمانه ربّما، يؤلمانه كثيراً.

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!