حيوات/ بقلم :بسام الحروري

 

رفرف سرب الحمام محلقا في الفضاء البعيد منفذا استدارة استعراضية فوق برج الكنيسة على وقع ضربات الجرس حين تناهت إلينا من الجوار ، معلنة عن بدء طقوس قداس الأحد
وبلا رأس، تنسم جسدي من شرفة القصر نسيمات عليلة هبت من ناحية النهر الكبير ،
رسمت ثالثوثا على جسدي
وحمدت الرب في سري فيما ربتت ميليسيا بكفها الغض على كتفي، بحنو أم افتقدته منذ زمن طويل بل لم أذقه أصلا ، فانتبهت إلى أنها كانت ورائي، اقتربت مني حتى شعرت بأنفاسها اللطيفة تلفح رقبتي من الخلف ثم أدارتني بكفيها من كتفيَّ فصرت محاذيا لها ولم تزل مربتتة على كتفي حتى ندت عن أساريرها ابتسامة خفيفة تشوبها الشفقة والغبن ،وبفعل النسيم تراقصت خصلاتها الشقراء فمسحت جبينها لتخبئها خلف أذنها الصغيرة

– أعرف ياعزيزي مدى الفضول والشجن الذي يعتري فؤادك لمعرفة كيف تقام طقوس القداس الافخارستية في كنيسة البلدة ، وكان بودي أن أأخذك إلى هناك لتشهد القداس والتعميد لولا أنك تعلم جيدا موقف راسك من الدين والغيبيات
فمن الصعب أن تذهب إلى هناك جسدا بلا رأس ! .. قالت

– لاعليك ميليسيا أتفهم ذلك جيدا .. أجبت.

حبذ رأسي فكرة البقاء منفصلا عن جسدي منذ جئنا إلى الحياة لولعه بالتأمل والبحث والتقصي في بعض الظواهر الغريبة وهوسه بالماورائيات ،ورغم ذلك بقينا أصدقاء نتحد وننفصل في الوقت الذي نشاء على أن يحترم كلٌّ منا مواعيد الآخر وانشغالاته ، وهكذا لم يكن رأسي اليابس يحمل أو يستشعر أي عاطفة تجاه الآخر أو تجاهي تحديدا، إلا عندما نتحد ، وهذا طبيعي لأنه لايمتلك قلبا يحمله على ذلك فيتعامل تجاه الآخر وتجاهي – في حال انفصالنا – بالعقل وبالعقل فقط
وعلى هذا الحال سار منوال حياتنا وظل حبل الود والاحترام موصولاً بيننا في رحاب هذا القصر الكبير ،الذي صار شبه مهجور لخلوه من الخدم والطهاة والحرس وسائس الخيل والبستاني حال ولادتي برأسي المنفصل عن جسدي فترك الجميع القصر خوفا أو قرفا من شكل جسدي الغريب حين يفارقه رأسي ، فيما عدَّه البعض لعنة حلت على هذا القصر
عدا مربيتي ميليسيا التي بقيت بعد وفاة أمها المربية الأولى في القصر بصاعقة مميتة ضربتها حتى تيبس جسدها الناحل وهي في فناء القصر تمضي لبعض شأنها في أمور الحياة الروتينية ، فتحملت بعدها ميليسيا الصغيرة عناء تربيتنا أنا ورأسي العنيد مبكرا وظلت وفية لنا ولهذا القصر الموحش

غادر والدي الحياة نتيجة مغامراته وولعه بامتلاك الخيول البرية وبيعها بثمن غال مع ثلة من رعاة البقر
في البراري الغربية أو كما يسمونها ” تيه الموت” على يد قطاع طرق كمنوا لهم في تلك الجهة المعزولة من العالم والخالية من مظاهر الحياة عدا نباتات الصبار وبعض العظام والجماجم المتناثرة هنا وهناك والعضاءات الضخمة التي تأتي من الغابات المحيطة لتقتات على بقايا الجثث
فيما دفعت امي ثمن نزوات أبي
ومغامرات طيشه التي ساقته إلى الهلاك غاليا ، وماتت بتعسر ولادتها بي، فاضطر الطبيب إلى إجراء عملية قيصرية لإنقاذي
وتم إخراج رأسي على حدة ثم بقية جسدي
شعر الجميع بالخوف والهلع حيال ولادتي الغرائبية وظنوا أني ولدت ميتا،
لكن الطبيب طمأنهم بأني على قيد الحياة لأن راسي كان يصرخ بالبكاء وجسدي يتنفس رغم انفصالهما عن بعض وأخبرهم بأني مصاب بمتلازمة (الرأس المنفصل) التي حيرت علماء الأجنة منذ فترة ليست بالقريبة
فمن بين خمسة ملايين طفل يولد واحد بهذه المتلازمة الغريبة والنادرة
، وبحسب الطبيب المختص لم يكتب لجميع الحالات المصابة بهذه المتلازمة البقاء على قيد الحياة عدا قلة منهم تعد على أصابع اليد، لذا كان أمل نجاتي ضئيلا جدا.

عرفت أبي من خلال الصور ،كان رجلا حازما غضوبا يمتطي خيله البنية ذات الغرة البيضاء ببزة رعاة البقر الأنيقة وبقبعة مهيبة ينتعل حذاء جلدي بمهماز يتموضع بعقب الحذاء ويضع بزاوية فمه سيجار كوبي غال الثمن
أخبرتني مربيتي ميليسيا أنه في عام مولدي وقعت أحداث غريبة حيث أصيبت الأفيال بالتبت بهياج غريب فدمرت عددا من أكواخ الفلاحين القريبة من الغابة وقتلت عددا كبيرا من سكان المنطقة وعاثت بمحاصيل الارز فسادا
وفي جنوب أفريقيا ظهر جبل من ذهب شبيه بجبل كلمنجارو لكنه فقد بريقه وأخذت صخوره لونها وشكلها الطبيعي بعد قتال دامٍ دار بين بعض القبائل التي ادعَت كلٌّ منها أحقيتها به.
ودمرت الفيضانات في بلدتنا الكثير من المساكن وأغرقت خلقا كثيرا ، واصاب أرضنا حينئذ جفاف وتشققات عميقة تمددت حد التوسع وبدت كأنها أخاديد ضخمة من صنع البشر ظهر على إثرها نبات غريب متوحش يقتات على صغار الحيوانات إن هي مرت بقربها بامتصاص دمائها،
لكنها اختفت بعد أن طمرها تلاحق الفيضانات على البلدة
وظل قصرنا محصنا بمأمن عن الفيضانات المدمرة لوقوعه على ربوة عالية
هاهو القصر يبدو موحشا بعد أن تسلقت أشجار العليق على واجهاته وغطتها بكثافة عشوائية
وبعد أن هجره البستاني ولم يعد يهتم أحد بترتيب وتشذيب أغصان أشجاره وتنظيفه من الحشائش والشجيرات الضارة ، وبقينا به نحن الثلاثة أنا ورأسي وميليسيا الوفية سكان هذا القصر

كانت ميليسيا تهتم برأسي وجسدي فتحممهما وتضع أزكى الروائح والطيوب عليهما وتمشط رأسي رغم أن رأسي لم يكن ليطيقها
إلا أن جسدي كان يلازمها وتلازمه حد التعلق فكانت تحكي له قصص الفوارس والأميرات وهو يرتاح على أرجوحة الحديقة ،بينما كان راسي مولعا بمطاردة الفراشات ومراقبة أنواع الحشرات التي تدب على الحديقة ، رفضت ميليسيا فكرة خروجنا خارج حديقة القصر
لأنها تخاف علينا من الضياع
لذا كانت نهاية حدود العالم بالنسبة لنا تنتهي عند سياج حديقتنا
بدأ الرأس يتمرد على تعليمات ميليسيا فكان ينتظر حتى حلول الظلام ويذهب إلى منطقة ضفة النهر الكبير حيث ظهرت النباتات الوحشية وتحولت رائحة التربة التي نبتت عليها فيما بعد إلى ما يشبه رائحة البارود بلونها الأرجواني بعد أن طمرتها الفيضانات وطمي النهر
فيجمع ماتيسر منها في علبة زجاجية ويعود بها للقصر ليريني إياها لكني بالمقابل لم أكن أحفل بهكذا اهتمامات .
راقت فكرة الخروج لرأسي وبات يتجاهل نصائح ميليسيا وينتظر على جمره حلول الليل ليواصل اكتشافاته لعالمه الجديد ، وأحدث تجوال رأسي الليلي الكثير من المشاكل
في البلدة ،وانتشرت شائعات مفادها أن شبحا بهئة رأس آدمي مقطوع يتجول في شوارع البلدة ليلا وصار الموضوع المادة الحدث للصحف ووسائل الإعلام المحلية على اختلافها ، نصحناه أنا وميليسيا أن يكف عن الخروج والتجوال ولو مؤقتا حتى تهدأ هذه الضجة الصاخبة فامتثل لنصحنا وبقي في القصر،
ولم يطل مكوثه أكثر من شهر فعاود اكتشافاته الليلية لكنه صار هذه المرة في جولاته أكثر حذرا من ذي قبل لم تكن حاجتي له سوى للأكل والنوم فميليسيا آنست وحشتي في غياباته التي طالت كثيرا فكان يعود للقصر في أوقات متأخرة من الليل وأحيانا يعود قبيل الفجر

زاد التصاقي بميليسيا فيما زاد رأسي نفورا منها ونشأت بيننا علاقة حميمة فصارحتها دون تردد بحبي لها وأنني أود الزواج بها رغم أنها حاولت إقناعي أننا من المستحيل أن نتزوج لأمرين أولهما أنني من سلالة النبلاء وهي من سلالة الغجر ، والأمر الثاني أنها لن تستطيع الإنجاب لأنها أصيبت بورم خبيث في الرحم مبكرا فتم إزالته بالكامل لكني رغم هذا أعربت لها عن حبي الشديد وتعلقي بها حد الهيام وأن هذه الأمور الشكلية لاتعنيني فكنا نستغل غياب رأسي وننعم بحياة وحب هانئين فأحملها بين ذراعي واطوح بها وأهديها من ورد الحديقة فترد صدى ضحكاتنا بحب حيطان هذا القصر الكبير ،ويحملنا العناق في سفر الأنفاس الحرى ،فنغيب نغيب عن هذا العالم الكئيب لنذوب مثل خطيئتين أو كالملح في قاع كأس

– أووه ميليسيا لم أكن أعلم أنك بهذا الشبق المثير !
فتضحك ميليسيا بغنج

– لكن ..حبيبتي ميلي هناك أمر يريبني !
فتواصل ميليسيا تغنجها ودلالها بعد أن تفطن مقصدي هربا من ظنوني، وحتى لايفسد علينا الحوار خلوتنا الأثيرة بأمور لاتحبذ الخوض فيها
فأحترم رغبتها وأترك لتساؤلاتي جموحها منداحة في داخلي كفيضانات بلدتنا إلى أن تطمرها النشوة الغامرة.

زادت مشاكل رأسي وتطور الأمر حد التلصص على حيوات الناس في بيوتهم ، وأصبحت هذه العادة السيئة تستهويه في التعرف على مشاكلهم ، فمرة تلصص على عروسين في ليلة دخلتهما من شق في النافذة فاستهواه المشهد بحيث كانت العروس تصرخ وتتأوه وكأنها بحالة اغتصاب فنسي نفسه وفجأة انفتحت النافذة وسقط رأسي إلى داخل البيت لكنه تدحرج بسرعة إلى أسفل السرير ولم يلحظ العريس ذلك، وظن أن الريح هي من فتحت النافذة فأغلقها وعاد إلى عروسه ، وفي الصباح هرع العريس على إثر صياح عروسه حيث وجدت رأسي عالقا تحت السرير فشعرا بخوف شديد ورميا برأسي إلى الحديقة ثم استدركا الأمر وأبلغا الشرطة بالحادثة ، تفاجأت الشرطة هي الأخرى براس يتنفس ويتكلم بعدما ظنوا أن الأمر لا يعدو كونه جريمة بشعة وأخبرتهم عن قصتي لكنهم لم يصدقوني فاخبرتهم بقصة العروس المغتصبة وبعد الضغط على العريس اعترف بأنه اغتصب عروسه تحت تهديد السلاح ليلة دخلتها بعد أن حاولت صده لعدم رغبتها، وتولت الشرطة معاقبته ،

حاولت الشرطة التكتم حيالي، ووضعوني رهن الإعتقال بزنزانة انفرادية مع تشديد الحراسة ،لكن الخبر وصل إلى جسدي فطلبت من ميليسيا التدخل وفعلا اقنعتهم ميليسيا بعد أن اصطحبت الطبيب الذي أشرف على حالتي إلى المخفر
فاقتنعوا لكنهم عاقبوني أيضا بتهمة التلصص على حرمة البيوت، وبعد ذلك عرضوا على رأسي العمل معهم في سلك الشرطة فوافق على الفور .

كان حجم رأسي الصغير كفيل بكشف المجرمين متلبسين بجرائمهم لهذا تم ترقيته ،ثم انتقل بعدها إلى السلك العسكري وصار ضابطا مرموقا بالجيش
وعين في كتيبة الاستطلاع .

بدت حالة ميليسيا النفسية تسوء
وتغيرت تصرفاتها نحوي ،فكانت تعتزلني كثيرا مما ضاعف معاناتي مع الوحدة في هذا القصر الموحش ،عندها بدأت أستجر ظنوني السابقة تجاه ميليسيا وتمنيت أن أكون مخطئا في ظني.
مرت أشهر على قطيعتي مع رأسي إلا من لقاء مقتضب بيننا في النوم والأكل فقط
ولم يكن أحدنا ليكلم الآخر لأني لم أكن مقتنعا حينها باانضمام رأسي للسلك العسكري
فزادت فجوة الوحدة مع رأسي وهاهي حالة ميليسيا تعمق الهوة اللعينة بيننا
كانت ميليسيا تغيب عني على مدى فترات متقطعة لغرض إجراء الفحوصات في المشفى القريبة من قصرنا إلى أن جاء اليوم الذي صعقت فيه من هول النبأ الصادم !
استجمعت ميليسيا قواها وأخبرتني بأن تفاقم حالتها النفسية وبعدها عني ناتج عن هرمونات الذكورة التي طرأت عليها ،فقد أخبرها الأطباء بأنها ذكر وتفصلها أيام قليلة عن إجراء العملية ليتم التحول النهائي،
– ميليسيا ..ميليسيا أحقا ماأسمع؟!
أم أنك تمازحينني! ..أعترفي أنك تمازحينني لن اغضب.. أرجوك !

تطرق ميليسيا رأسها وتخنقها العبرة
– للأسف ماسمعته هو الحقيقة.
فأستدرك بتعجب يغلب عليه الحزن والصراخ لكن ميليسيا وحق الكتاب المقدس لماذا تركتيني أ…..
تجيبني ميليسيا وهي تبكي بحرقة والمسافة تتباعد بيننا والمكان يلف بي ويطرحني أرضا
بعد أن يشل أعضائي
– لم أكن أعلم ..لم أكن أعلم وحق يسوع.
حاولت تقبل الفقد الجلل تدريجيا فحياتي سلسلة من فقد يتناسل ويتعاظم ككرة تتدحرج من على تلة عالية
بالأمس أبي ثم امي ثم رأسي مرورا بعمال القصر واليوم حبيبتي، ياااالهذا الأسى الناضح بالعذابات والفقدان حتى حياتي العادية لاأستطيع ممارستها كباقي الخلق فأنا نصف إنسان بل لعنة على هيئة جسد ناقص
كنت أحاور جسدي المنقوص
ويتراءى أمامي شريط الحياة التي عشتها بطولها وعرضها مع حبيبتي التي أنستني تعاساتي
وغدا ستتحول إلى مخلوق آخر لا صلة له بماضينا السعيد وستتركني.
ياإلهي ..ماذا أفعل بتركة الذكرى الثقيلة هذه ؟ وكيف ستكون حياتي المقبلة من دون ميليسيا ؟ ياااللأسى.

أطلت شمس جديدة على صباحاتنا المتشابهة وهرعت دعسوقة تعيد محاولتها السادسة في الصعود إلى غصن متيبس فرفعتها إليه بسبابتي
ومرت أيامي الرتيبة كحلزون يسير ببطىء حاملا بيته على كاهله يتعثر حينا وينهض حينا آخر بينما ظللت أحمل تعاساتي وفقدانات أساي على كاهلي المهيض
ومن البعيد تقاطرت الجبال تسور بلدتنا من شر شبح حرب بدا مكفهرا يخيم على سماء البلاد وأنا على حالي أحصي مواجع قلبي بانتظار هطول غيث فرح يسوق فيضاناته ليطمر أساي.
لكن الحب الذي غمر قلبي الخافق بعشق ميليسيا لم يمت..نعم لم يمت حينما ماتت ميليسيا إثر مضاعفات ألمت بها بسبب العملية .
ودخلت أنا في غيبوبة لا أعلم متى صحوت منها،
ولسوء حالتي أشفق علي رأسي على غير عادته وطلب مني أن أنضم لهم لنشارك الرفاق الحرب
حتى أخرج من عزلتي هذه.
بعد أن بدت طبولها تدق بعنف بسبب تعثر المفاوضات بين الطرفين
لكني لم أرد عليه حينها على أن أفكر بالامر.
عبثت زوبعة صغيرة بورق الشجر الأصفر المتناثر في مساحة الحديقة وطافت بها بين جذوع الأشجار حتى انتهت إلى خارج السياج ،فتمطى السلوقي المبقع ونفض أنفه ليواصل نومه رغم البرد القارس .

تكررت زيارات ميليسيا لي بالحلم تدعوني إلى زيارة قبرها المجهول بالنسبة لي ..ليتني أهتدي إليه..فقد تغيرت كثيرا بالحلم وبدا تعلقي بها في الحلم يخفت لكنه حلم على أية حال .
وفي إحدى زيارتها لي دلتني على مكان قبرها وكانت تضحك مني حين أسالها فتجبيني بأنه قبو وليس قبر
لم افهم شيء ! لكني حتما سأستطلع الأمر
تحينت انسدال الظلام وانسللت إلى مرقد حبيبتي حاملا باقة توليبات لحب ميليسيا لها ، وحث بي الخفق سيره تتقدمني روحي بتوق وقاد وحين وصلت حرت اين هو قبر ميليسيا فقطع حيرتي همس ينادي : آدمز ،هنا.. هنا..تعال ، كان يشبه صوت ميليسيا .
ثم انفرجت أغصان كثيفة تغطي المكان ،فظننت لوهلة بأني في حلم ..لكنها ميليسيا بالفعل..تقف أمام بناء صغير بباب ينحدر إلى الأسفل تموهه خميلة خضراء مورقة لم أر مثلها في حياتي
– آه ..هل هو القبو الذي أخبرتني عنه ميليسا في الحلم ؟!
دنوت منها فأخذتني من يدي
وهي تبتسم ليتجلى على محياها بريق الأنوثة طاغيا
حتى وددت أن أحتضنها لكن الدهشة عقدت لساني وكياني من هول الموقف، فشعرت بخفة الأشياء وكأننا نطير معا نزولا إلى أسفل القبو
وصلت بي ميليسيا إلى مكان أكثر رحابة من قصرنا ، كانت تطوف بنا كائنات نورانية شفافة مشعة بدت وكأنها وصيفات في حضرة ميليسيا أجلستني إلى أريكة خضراء مخملية
وأخذتنا شجون الحديث مطولا أخبرتني ميليسيا أنها عادت كما تمنت انثى بكر بل زاد جمالها إشراقا ونورا وماآلمني أنه لم يعد بمقدورنا أن نتزوج لأنها صارت زوجا لأحد كائنات هذا العالم النوراني الشفاف ثم طافت بي في أرجاء بناء كبير بقباب وكأنه قصر تزينة حديقة وارفة نظرة بقطوف دانية زاهية أخبرتها أن تطلب من هذه الكائنات الشفافة أن تمنحني رأسا مستقلا لأمارس حياتي بحرية تامة لكن ميليسيا لم تحبذ الفكرة وطلبت مني أن أتصالح مع رأسي ، ونصير جسدا مكتملا بدلا من القطيعة التي نعيشها ووضعت يدها على قلبي فأمدتني بضوء وبطاقة وشعور حيوي غريب وغامر وكأنها زرعت روحا ماء بداخل جسدي

عادت الأمور على حدود بلدتنا إلى نصابها بعد التهدئة ،ثم مالبثت أن خرجت عن نطاقها بعد خرق الهدنة من قبل الطرف الآخر .
راقتني فكرة الانضمام للجيش خصوصا وأن رأسي يرى بأنه عبئا في حمله على الجندي المرافق باعتباره لايحمل جسدا وأقدام يتنقل عبرها بحرية وقررنا أن نتكامل أنا رأسي في هذه الحرب
لم يكن رأسي ليحمل بندقية أو يقاتل إلى جانب الجيش لكن بالمقابل جنب نظره الثاقب جيشنا الكثير من الهزائم لذا احتفظ به الجيش طوال هذه المدة من الخدمة.

هبت بلدتنا تلملم شتاتها من جديد بعد الفيضان الأخير وبدأت باستعادة عافيتها تدريجيا
دمر الفيضان الكثير من الأشياء الجميلة المحببة إلى قلبي كما جرف جزءا من كنيسة البلدة وطمر قبو ميليسيا فلم يعد له أثر، ولم تكن صدمة هذا الفقد موجعة بالقدر الكاف ربما لأن حزني تضاءل أمام تصبري تجاه الفاجعة أوكاد يوازيه لاستمراء قلبي الأسيان على تقبل مصائب الفقد المتلاحقة .

عاد دبيب بلدتنا بنشاط وثاب وبوتيرة متسارعة، فاتحة ذراعها للحياة أكثر من ذي قبل بعد وصول مساعدات الإعمار والإغاثة من أكثر من جهة
وخفق قلبي بإحساس غريب يخالجه حدس ينبىء بإشارات تراوحت مابين الذبذبات والشعور الواخز بالطمأنينة فكأن أقرب مايكون للنجوى حين تملكته حاسة عالية تتحد بروحه من جسم آخر ، وفعلا كان ذلك الشعور الوامض نجوى ميليسيا لقلبي أخبرتني خلالها أنها انتقلت إلى السماء اللازوردية حيث تسمى السماوات في هنا بأسماء الأحجار الكريمة ،
كان انتقالها إلى هناك بعد أن أحدث الفيضان دمارا هائلا بمقر إقامتها الأرضي قبل أن يطمره بالكامل.

انضممت ورأسي إلى الجيش
وتعرفت إلى الكثير من معالم هذا العالم المجهول بالنسبة لي، وخضعت لتدريبات مكثفة على كيفية استعمال السلاح إضافة إلى المهارات القتالية ..
– أنا الآن إنسان مكتمل ..
لم تفلح ميليسيا في ثنيي عن قراري هذا ،ودارت حربا ضروسا رغم عدم التكافىء بين القوتين إلا أننا خضناها ببسالة ، ومات الكثير من جنود قواتنا واضطر قائدنا للإستسلام لإنقاذ مايمكن إنقاذه ، إلا أن رأسي لم يلتفت لأوامر القائد وركب رأسه اليابس وظل يقاتل بجسدي بضراوة إلى أن وقع في الأسر
نقلت إلى سجن بعيد،
كان يشبه قصرنا في تصميمه لذا لم أشعر بالوحشة ، وعرفت لاحقا أنه كان قصر قديم لأحد المعارضين للحكومة تم اغتصابه عنوة ونفي صاحبه إلى جهة مجهولة
حملت رأسي نتيجة ماجرى
فتخاصمت معه وأبعدته عن جسدي ، واصيب حارس السجن بالجنون حين شاهدنا نتخاصم بهذه الهيئة ، عانيت كثيرا من رطوبة السجن والمعاملة التي لاقيتها هناك ،وتمت محاكمتنا والحكم علينا بالإعدام شنقا ،
فتصالحت حينها مع رأسي بعد بعد جفاء ،
وجاء يوم تنفيذ الحكم ،تم اقتيادي مكبلا إلى تلة قريبة من السجن نصبت عليها المشنقة ، كانت التلة شديدة الإنحدار إلى الغابة تتوسطها بحيرة صغيرة

ساعدني جندي عجوز بدا متعاطفا معي ، بلحية صفراء يشوبها البياض على الصعود إلى كرسي خشبي قديم
وحين استويت واقفا ركل جندي محاذيا لي الكرسي مقطبا جبينه بعنف قبل أن أكمل رسم الثالوث وهو يلعنني بهمهمات غير مفهومة ، فرفع الحبل الغليظ الأنشوطة وانفصل جسدي عن رأسي وهوى جسدي إلى الأرض فتبعه رأسي ومالبث رأسي أن تدحرج ناحية الغابة وتخفى بين الأحراش إلى أن اختبأ في تجويف سفلي بشجرة بلوط حمراء كبيرة ،تبعه جنديان لكنهما لم يفتشا عنه كفاية فعادا أدراجهما ،
سمعت أحدهم يقول لصاحبه يبدو أن الرأس اللعين سقط في البحيرة المحاذية سنترك الجثة هنا وليمة لوحوش الغابة ،لكن الجندي العجوز أشار لهم بدفنها ..
– هذا افضل ..
فامتثلوا لمشورته

ظل رأسي يتردد على قبري بحذر
آملا خروجي ،لكن هذا لم يحدث وظل وفيا لي يمكث بجانب قبري الساعات الطوال
قبل أن يعود إلى مخباءه في الغابة
طالت مدة مكوثي بقبري فيما لم يفقد رأسي الأمل وغزت التجاعيد وجهه والشيب مفرقه .

تمايلت التوليبات بأسى عندما هبت نسمة خفيفة من ناحية البحيرة واختفت حيوانات الغابة في ذلك اليوم على غير العادة فكان ذلك نذيرا لاندياح فيضان غاضب من جهة بلدتنا جاء لتخليص رفاتي من قبره .

هاهو رأسي يقف في هذه اللحظات الصعبة بجوار من انتظره طويلا بذهول واجم،
لكن المعادلة الآن قد تغيرت
..من يرثي من؟!
حام يعسوب على صفحة البركة ومضى لشأنه بعد أن انعكست صورة وجهي قبل أن تتلاشى تماما حين تماوجت صفحة الماء حتى أنني أنكرت تفاصيل ملامحة البائسة
جال رأسي بنظره إلى التوليبات على الرفات وصلى وهو ينتحب بحرقة ، ثم رفع بصره إلى السماء فهرعت السحابات تتباعد مفسحة لبصري التحليق في رحاب الملكوت ،ومن خلف السحاب ظهر وجه ميليسيا شاحبا يذوي خيل إلي أنه يناديني : آآ .. د .. مز ،
آ آ د مز .. قبل أن يتشتت متباعدا كنتف السحاب .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!