رقصةُ الطّائرِ الحالمِ/ بقلم :المنذر المرزوقي(تونس)

 

في القصر الحُسينيّ العتيق حديقةٌ واسعةٌ على الطّراز الفرنسيّ، حافظت على جمال الهندسة التي تجلّت في روعة التّقاسيم والتّناظر بين الممرّات وتوزّع الأحواض الدائريّة حول النّافورة الرّخاميّة الكبيرة المُواجهة للمدخل الرئيسيّ، ولباب القصر الأزرق الخشبيّ المُرصّع بالمسامير الحديديّة المُقبّبة السّوداء. لكن مع تواصل الإهمال، سنوات طويلةً، فقدت الحديقةُ وُرُودَها وأزهَارَها وعددا هامّا من أشجارها، فبدت شاحبةً مثل القصر ووجوه زوّاره والمُقيمين فيه والقائمين عليه.

وقد أحيط القصرُ بسور حجريّ فوقه سياجٌ من حديد ذي تزويق ايطاليّ، تخلّلته أغصان الأشجار العالية القريبة من السور. وقد انتصبت تحت الأشجار كراس حديديّةٌ وخشبيّةٌ جلس على أحدها مُقيمٌ شابٌّ، يستظل في فيء شجرة ليمون عتيقة، ساهمًا، حتّى فاجأتهُ تحيّةُ شيخ يشاركه ذات الكرسيّ. وحين لاذ الشّاب بالصّمت، قال الشيخ:

– نعم. أعرفُ. لا شيء يعجبك هنا.. لا شيء. لكن لا تترك هذا القرفَ الممزوج بالغربة والسّخط يمنعك من النظر حولك. رفع الشّاب رأسه كأنّما استجاب. نظر إلى واجهة ما كان قصرا ملكيّا، بطوابقه الثلاثة وبابه الخشبيّ ودرجه الرّخاميّ، وللأسدين على عتبته يحرسان المكان. ثمّ اخفض رأسه، فاختفت ملامحه وراء خصلات شعره.

فهم الشيخُ أنّ الشاب ذا الشعر الطويل المُجعّد ينصت إليه، لكنّه لا يرغبُ في الكلام. فأخذ يداعبُ أطراف لحيته البيضاء مبتسما، وهو ينظر إلى أشعّة الشمس الدائريّة المتسرّبة بين أوراق شجرة الليمون، والمتحرّكة بتؤُدةٍ على بلاط الممرِّ الحجريِّ الظليلِ. التفت الشّاب فجأة، ونظر إلى الشّيخ من وراء خصلات شعره الجعد وقال:

– تبدو مرتاحًا في هذا الجحيم البشريّ. أمّا أنا فلا يعنيني إن كان قصرا حُسينيا على الطراز الايطاليّ. ولا أهتمّ بمآل حديقته الفرنسيّة ولا بتاريخه العريق في الحكم والقهر. ما الذي يعنيه كلّ ذلك إن كنت أنا نفسي بلا حاضر ولا تاريخ أو ذاكرة؟

أجاب الشيخُ، دون أن يزيحَ بصرَه عن دوائر الضّوء المُتحرّكة أمامه:

– نعم. نعم أبدُو مرتاحا. أو، بتعبير أدقّ، لم أعد مُنزعجا مثلما كنتُ. ربّما اضطررتُ، بعد السّنين الطويلة هنا وهناك، أن استغرق في التّفاصيل الصغيرة واللحظة الرّاهنة. لم تعد رُوحي تحتمل بشرًا يزدادون قسوةً، كلّما ازدادوا سطحيّةً وجهلا.

– أمّا أنا فأريدُ أن أجري في رحابِ الأرض الواسعةِ.. أن أسعى تحت السّماء العالية، وفي الأحراش والسّهول. أن أصعد الهضاب والجبال. أن أنام في الكهوف واستحمّ في الأودية والعيون. أليس هذا حقّا طبيعيّا لطائرٍ راقصٍ مثلي؟ ثم اختفى وجهه الغاضب وراء خصلات شعره من جديد.

– لا تحزن يا بنيْ. فإنّ الناس يزدادون قسوة علينا وجهلا بنا، لأنهم يزدادون جهلا بأنفسهم وخوفا منها. ابتسم الشيخ لدوائر الضوء المتراقصة كأنّما يبسمُ لأطياف في الغيب، ثمّ قال: – حين شببتُ شاعرًا عاشقا، في مثل سنّك، كان النّاس أكثر فهمًا للعشّاق الحالمين، وأكثر رحمة بجُنونهم وأحلامهم. كنتُ أعيشُ مع أهلي في قرية واحيّة مُتخمة بأشجار الرّمان والعنب والنخيل. كنت أتركُ القرية بسوقها ودكاكينها ومسجدها وأزقّتها، لأعيش مع حيوانات الواحة وطيورها وحشراتها البديعة. كنت أنامُ واستفيقُ وأحضرُ وأغيبُ وأركضُ في السّهوب مثل خيل البراري، متى شئتُ.

كنتُ أتكلّمُ وأسكتُ وأصيحُ وأجري وأتخفّى بين دوالي العنب وأشجار الرّمان يومًا كاملاً، لألعبَ مع كائنات الغابة الخفيّة لُعبةَ الغميضةِ. ثمّ تغيّر النّاس كثيرا. ضاقوا ذرعًا بي وبأمثالي. ثمّ قاموا بتجميعنا في أقفاص مثل هذه، بأروقة متناظرة وغرف ضيّقة وجدران صارمة، كيْ ننضبط للرسم ونستقيم في الصفّ، حتّى لا نفسد ترتيب حياتهم الرّتيبة الخاوية. حاولتُ كثيرا أن أتفهّم خوفهم منّا. وبعد أن يئستُ من فهمهم لغةَ رُوحي العاشقة، صنعت من لغتي عالمي وحاورت بها الكائنات التي تشبهني وأقمتُ مملكتي في كون ذاتي.

– هل نحنُ حقّا مَرضى؟ هل تُجنّ الطيورُ الرّاقصةُ ويختبلُ العشّاق الحالمون؟ قال الشّاب، ثمّ انقشع إلى الخلف، فتجلّى وجهُهُ الحزينُ الحالمُ وأضاف: كثيرا ما تُراودني رغبة في العيش مع كائنات أخرى. كائنات ضوئيّةٌ شفّافةٌ لا أفهمُ لغتها ولا تفهمُ جُنوني. نكتفي بالنظر والإشارات والهمهمة.. نلوذُ بالصّمت. ثمّ ننسى كلّ شيء. فهل نحن مرضى حقّا؟

فهم الشيخُ شكوى الطائر الرّاقص، فقال:

– المجنونُ أوّل المُندهشين يا بُني.. وآخر المُنتصرين.. يصنعُ المعنى في فوضى الخراب.. ينصتُ للصمت الفصيح، ويصرخُ في وجه البذاءة. يربحُ المعاركَ الخاسرةَ ويقولُ شكرا للسّحاب الخُلّبِ.. لقد أنبتنا بذرتنا في الحقل اليباب. الأملُ صناعةُ الأقوياء يا ولدي. وحتّى تكون قويّا عليك أن تتعلّم التحليق. فنحنُ ضحايا لمرضَى آخرينَ. فلا تخشى هذا السّجن يا بُني. فهنا، في مقبرة الأحلام البشريّة، علينا أن نحلم. نعم، هُنا تمامًا، حيث أرادُوا لنا أن نموتَ يجبُ أن نحيا.

ابتسم الطائرُ وقال مُحدّقا في الشّيخِ ونفسهِ والمكانِ: – أهنا حيثُ أرادُوا نتفَ ريشي وكسرَ جناحيّ عليَّ أن أرقصَ؟ أمسك الشيخ بجناحيْ الطائرِ قائلا: نعم يا بنيّ. هنا تمامًا. فهيّا ُنحلّق يا صغيري عاليًا فوق هذه الأسوار.. بعيدًا عن هذه القُرى.. نُحوّم هناك حيث تريدُ الرُّوح.. هيّا نحلّق ونترك لهم أجسادَنا صناديقَ خاوية ودُمًى يُجربون فيها كلّ الحقن والعقاقير.. أو يرجُّوها بالكهرباء، حين يستعصي عليهم ترويضها.. هيّا تنفّس مليّا.. انظر إلى الشمس وكن ما تريدُ.

أغمض الشّابُ عينيه فاختفت تجاعيدُ وجهه وشعّت ابتسامتُهُ للشمسِ، ثمّ انشرحَ وخفَّ واقفا. فتحَ جناحيهِ وقشعَ رأسَه إلى الخلف قليلا، وأخذ يلفُّ حول نفسه ببطء، مُوقّعا بقدمه اليُمنى على الأرض كلّما أقفل الدائرة. ثم يصفّقُ بخفّةٍ ويشرّعُ يديه من جديد، باسطًا كفيه إلى السّماء كلَّ البسطِ. ثمّ يقبضُ على راحتيه ويطلقهُما، كأنّما يُمسك بالنُّور، ثمّ يذروهُ على البشر والمكان.

وأمّا الشيخُ فكان يتتبّعُ حركته مُنتشيا. يُحاورُهُ بالبصر والبصيرة، وبالتوقيع على صدره والتصفيق بكفيه. يتأمّلُ حركةَ جسده وخبطَ قدميه، مشدودًا إلى الهالةِ المُبهرةِ حول جسمهِ المطواعِ الخفيفِ. ثمّ تذكّر الآلاف من الأحرار والشعراء أمثاله الذين اقترفوا جريمة الحلم. فهطل رذاذٌ شفيفٌ على القصر والحديقة والأشجار، وعلى أجنحة الطائر المُشرّعة وخبط أقدامه على البلاط، وعلى لحية العاشق الحالم العتيق، فأضاءَ المكانُ بأنوارِ ألوانهِ الغامرةِ.

كان الزوّارُ على الكراسي وفي ممرّات الحديقة، يُتابعونَ حركةَ الأجسادِ ورقصةَ الألوان وتعانقَ الأرواح في سكينة شاملة. أخذهُم تناسقُ الحركات ورقّة التوقيع والتصعيد إلى لحظات انخطاف وذهول، قطعها عنهم اندفاعُ المُمرّضين المدجّجين بالحبال نحو الطائر الراقص ليقيّدوا جناحيه ويسجنوا روحه. غادر الزوّار مربكين وأُرجع المقيمون إلى حُجُراتهم. أطعمهُم الممرّضون حُبوبهم المُهدّئةَ والمنوّمةَ وحقنوهم بالإبر المخدّرة. وأمّا الشيخُ فقد استسلم للصعق الكهربائيّ، مُبتسما لرفاقه الحالمين الأحرار، لأنّ الرّاقصَ الحالمَ قد طار إلى الأبد. ففي القمرة 22 من الممرّ 10 لم يجد الأطباءُ والممرضون إلا جسدا على شكله يرتدي مثل ثيابه، يحملُ في دفتر التسجيل الرّقم الرتبيّ 19 – 67.

بعد سنين مديدة، انتبه الزّوارُ وبعضُ العابرين بالمكان، إلى أنّ نزلاء القصر كانوا يُطلّون من شبابيك قمراتهم على الحديقة، كلّما نزل الرّذاذُ. فقد كانوا يسمعون توقيعًا بالأكفّ والأقدام ينبعث من ممرّات الحديقة.. ثمّ ينصتون إلى أصوات رفرفة أجنحة نسريّة تخبط بقوّة، ثمّ تحلّق عاليًا. وحين تدرك الذّرى تغتسل بالغمام.. ثمّ تنزل ندًى شفيفًا على أرض عطشَى، أبدا، للحبّ والرحمة.

 

تونس  في  18 أكتوبر 2021.

أهدي هذه القصّة إلى روح الرجل الأسود سليم مرزوق، أو الجنرال سليم، الذي قضّى 38 عاما في مصحّة للأمراض العقليّة، بسبب رفضه للميز العنصري في تونس في ستينات القرن العشرين، ثمّ رفض مغادرتها بعد الثورة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!