عالم جي جي/ بقلم:صوفيا الهدار( اليمن)

رفضت المشي في صغري، فقد كنت مصرا على تقليدها، الزحف على بطني بدا لي شيئا ممتعا.
ارتعب والداي، وازداد خوفهما أن يعيقني عنادي عن ممارسة حياتي بشكل طبيعي، فقد ولدت طبيعيا، بعكسها، وقبل أن أصبح مدركا، حبوت، وبدأت ساقاي تحملاني، ولكن عندما وعيت للطريقة التي تتحرك بها شقيقتي، ورأيت كيف أن والداي يضطران لحملها، قررت تقليدها.
أرهقت والداي بذلك، ولم يتركا حيلة لإقناعي بالسير على قدمي إلا وقاما بها، أغروني بالألعاب والحلويات، فكنت أراوغ، وندخل في تفاوض، ألعاب وشوكولاته مقابل أن أخطو بقدمي عدة خطوات، وبعدما أنال ما أريده أعود من جديد، كلفتني هذه التصرفات الكثير، فكثيرا ما يفقد والداي صبرهما وينهالان علي ضربا.
لقد كان خوفهما من تكرار إعاقة شقيقتي كبيرا، فلما جئت سليما اطمأنا،  ولكن سلوكي أقلقهما كثيرا، فسببت لهما بتصرفاتي هذه الكثير من الضغوط والهلع، خاصة عندما أقلد حركاتها، وطريقة كلامها غير المفهومة. أما شقيقتي فقد كانت تفرح عندما أشاركها طريقة مشيها مثل دودة على الأرض، وكانت ترتسم على وجهها علامات الاستغراب عندما ترى والداي يعنفانني ويمنعانني من فعل ذلك.
أخيراً وحسب وصية أحد الأطباء، قررا تجاهلي، كانا لا يجيبان إذا حدثتهما بلسان معوج، حتى أستسلم  وأفصح قولي. ويتركان الطعام والألعاب على الطاولة، فكنت أضطر للوقوف والسير إلى هناك لأحصل على ما أريده.
مع الوقت لم يعد الشخير والغرغرة والإيماءات تستهويني، فانطلق لساني، ولم يعد الزحف على البطن يغريني، ووجدت في الركض والقفز متعة لا حدود لها، أخذتني قدماي بعيدا عن عالم شقيقتي جيهان، جي جي كما نسميها.
نسيت هوايتي في تتبع حركة أقدام من في البيت، و تأمل شكل رخام الأرض، حتى أني نسيت موقع البقعة التي  تشبه الضفدع، وتلك التي لها خرطوم، فقدت ذكريات المكان  الذي طالما التصقت به، نسيت برودة الرخام، وتعافى ساعداي من جروح الاحتكاك بالأرض.
تغيرت علاقتي بجي جي ونظرتي لها، بدأت أنظر إليها كقطة أليفة في المنزل، لكنها عنيدة، ترفض الطعام في أوقات كثيرة، فتتعب أمي، كثيرة البكاء، دائمة المرض.
كبرت وكبر لدي شعور  بأن جي جي عبئا على أسرتنا، عرفت أن والدتي تركت وظيفتها عندما أنجبتها، فبهذه الإعاقة لا يمكن تركها في أي حضانة، ولا يمكن لأي شخص أن يتحمل عناء رعايتها. مرضها الدائم أرهق جيب أبي، فاضطر للعمل وقتا إضافيا.
بسببها لم أكن أرى والدي كثيرا، وبسببها حرمت من أشياء كثيرة كنت أحلم أن أحصل عليها، وبسببها لم نتمكن من الخروج في رحلات عائلية وبسبب وجودها  لم تكن أمي تحضر  مناسباتتي الخاصة في المدرسة.
وبسببها أيضا لم أعد أدعو أصدقائي  إلى المنزل، فقد أصابهم الخوف عندما رأوها أول مرة، خاصة عندما حاولت الاقتراب من أقدامهم زاحفة، يسيل لعابها.
أحيانا كنت أشعر أنها إنسان مثلنا لكنه محبوس في ذلك الجسد، فأشعر نحوها بالأسف، ولكني أشعر في أوقات كثيرة  أنها شيء زائد في هذه الحياة، بل ربما شيئا مزعجا  فأجدني ساخطا عليها.
كنت أحسب أن شعوري نحوها يخفى على أحد، ولكنها كانت كمن يقرأ دواخلي، فكانت تنظر إلى نظرة اعتذار. أما والدتي فقد كان تقلقها مشاعري تلك، فتحاول دائما أن تقربني من جي جي، لأفهمها أكثر، فهي تصر على أنها  جميلة جدا، وتؤمن أنها ذكية جدا،  لدرجة أنني أشعر أنها تحبها أكثر مني.
والدي  قبل ذهابه للعمل يودعني بوصيته المكررة: انتبه لجي جي.
يضع علي هذا الحمل ويذهب، فيغيب يوما كاملاً، وأحيانا عدة أيام، ثم يعود لي بتربيتة على الكتف، ولها بسيل من القبل.
في إحدى أيام غيابه خارج المدينة، وعندما كنت في الحادية عشر، اشتدت الحمى بجي جي، صادف يومها المباراة النهائية لكرة القدم التي تشارك فيها مدرستي مع مدرسة أخرى، كان ذهابي ضروريا فقد كنت كابتن الفريق وكنت أحلم بتحقيق الفوز  مع زملائي. لكن أمي فضلت جي جي علي، وأصرت أن أذهب معها إلى المستشفى، فجي جي الآن في الرابعة عشر ويصعب على أمي تدبر الأمر وحدها.
لم أكره جي جي في حياتي كما كرهتها ذلك اليوم، لم أشفق على حالتها السيئة، بل أني سألت نفسي، لماذا لا تموت؟ ألا يموت الكثير من المرضى في المستشفيات؟ لماذا لا تموت طالما لا تستطيع أن تكون مثلنا؟ لماذا لا تموت وتكف عن تنغيص حياتي؟
بقينا يومها في المستشفى إلى ما بعد العصر، كانت جي جي تحت الرعاية الطبية. في المشفى رأيت معلمي مصادفة، فقد جاء لزيارة قريب له هناك، وعلمت منه بفوز فريقنا، شعرت حينها بحسرة على نفسي.
لم تمت جي جي ذلك اليوم، لأنها عنيدة، عدنا إلى البيت فحالتها بدت مستقرة.
في اليوم التالي فوجئت بتكريمي في المدرسة من قبل المدير والمعلمين، ذاعوا اسمي في طابور المدرسة، ألبسوني ميدالية بشريط ملون أسوة بزملائي أعضاء الفريق رغم عدم مشاركتي. ثم كرمني المدير ودعاني بالبطل لأني كنت إلى جانب أختي في المشفى، فألبسني ميدالية أخرى وقال كلمة لم أستطع نسيانها أبدا:
للبطولة ميادين شتى.
ارتجفت حينها، وبكيت، كان شعور عظيم لم أجربه في حياتي، ولكن شعور بالخزي في داخلي كان أعظم.
صفق الجميع بحرارة، احتضنتني معلمتي،  هتف رفاقي،  ولأول مرة ابتسمت زميلتي مي في وجهي.
كنت يومها نجم المدرسة، الجميع  مهتم بالحديث واللعب معي، الجميع يغبطني، حتى أني سمعت أحدهم يقول أنه يتمنى أن يكون مثلي.
في طريق عودتي، كنت أفكر في جي جي، جي جي التي وهبتني يوما عظيما في حياتي، ولأول مرة بدأت أشعر كم هي إنسانة جميلة. تذكرت كيف تزحف على الأرض باحثة عن أغراضي التي أفقدها، وكانت دائما ما تجدها، تذكرت  عندما أتأخر عن المدرسة كيف تقترب من  قدمي وتحاول مساعدتي في عقد خيوط حذائي بيديها المرتعشة.
عندما عدت كان نواح أمي يصل إلى الشارع،  شعرت بالخوف، انقبض قلبي، ركضت نحو البيت، كان الباب مفتوحا على غير العادة،  وجوه شتى يعج  بها البيت، منها ما  عرفت ومنها ما حاولت تذكرها ، كانت عيونهم تنظر إلي بإشفاق.
أدركت أنها لابد جي جي، ربما أختارت أن تعاقبني، توقعت أن الحمى عاودتها من جديد، ربما استجيب لدعائي، ولم يفلتها الموت هذه المرة. شعرت حينها بطعنة في قلبي، بردت أطرافي، وارتعدت ساقاي، صرخ صوت في داخلي: جي جي.
جرجرت نفسي التي صرت أكرهها  إلى حيث صوت أمي.
رأيت وجه أمي الباكي، ونظرتها المفزوعة  نحوي، والكلمات العالقة بين شفتيها، أجلت نظري في الغرفة، أبحث عن جي جي.
كانت جي جي مستلقية على فراش في الأرض، تحتضن أبي الذي رقد في ثياب الموت.
توقف كل شيء في عقلي، ولم أفهم ما المشاعر التي اختلطت في داخلي حينها.
لقد توفي والدي بحادث سيارة في ذلك اليوم،  شعرت أنه قرر أن يحمل هو  عني هذه المرة، يعلم أبي أن  عذاب الضمير كان سيكسر ظهري،  فقرر أن يعقد صفقة مع الموت، يذهب هو وتبقى جي جي، ليهب لي  الفرصة لأكون إنسانا وبطلا حقيقيا كما تمناني.
اليوم أكتب قصتي هذه وأنا مستلقٍ على الأرض، جي جي إلى جواري، تراقب شفتي المرتعشة، تسترق النظر إلى عيني الدامعة.
أشيح بوجهي، تنظر إلى هاتفي، ولكنني أخفيه عنها  وكأنها تعرف القراءة.
تسحبه من يدي، تقلب بيديها المرتعشتين  معرض الصور، تبحث عن صورة تجمعنا بوالدي قبل سنوات، تدفعها إلى شفتي، ثم إلى صدري، ثم تقبلها، وتحضنها كما تفعل أمي.
تقترب مني أكثر ، تضع رأسها على صدري، كما كانت تفعل مع أبي، أحتضنها إلى قلبي، لأرى من تلك الزاوية عالم جي جي.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!