عُودٌ.. وشُرفة / بقلم :إياس الخطيب

وضعَ المفتاحَ في يدي قائلاً: لا أريدُكَ أن تتأخر عليَّ في دفعِ الأجرة, في بدايةِ كُلِّ شهر تضعُ النُّقودَ في يدي, وأنا أكونُ مُمتنَّاً لك, وإيَّاكَ أن تفتعلَ المشاكل معَ الجيران, فالجميعُ يعلمُ أنِّي لا أؤجّرُ سوى (الأوادم), وإيَّاكَ إهدارَ الماء, ولا تترك الأضواءَ مضيئةً في النَّهار ولا بعدَ أن تنام, و..

كُنْتُ أهزُّ رأسي مُعبِّراً عن موافقتي لكُلِّ كلمَةٍ ينطُقُ بها, استلمْتُ الغرفةَ القابعةَ في الطَّابقِ الأرضي, بينما بقيتْ كلماتُهُ تدورُ في فلكِ مسامعي: إيَّاك.. وإيَّاك.. وإيَّاك..

جلسْتُ خلفَ طاولتي, تابعْتُ قراءتي في كتابٍ يتكلَّمُ عن بيتهوفن, عبارةٌ كانتْ تقول: بيتهوفن أبدعَ أجملَ مقطوعاتِه الموسيقيَّة و.. وفي هذه اللحظة علا صُراخٌ في الحي قطعَ نهمَ قراءتي, وضعْتُ الكتابَ جانباً, ونهضْتُ مُستطلعاً الأمرَ, سرقْتُ النَّظرَ منَ النَّافذةِ المُقيَّدةِ بقضبانٍ حديديّة, لكنَّ المعركةَ كانتْ على وشكِ الانتهاء عندما أطلَّتْ فتاةٌ جميلةُ الملامح وصرخَتْ بالصّبيين الصَّغيرين بأن يكفّا عنِ الشِّجار, سمَّرْتُ النَّظرَ بها, رمقتْني بنظرةٍ خاطفة, أدارَتْ ظهرَها الّذي كشفَ عن شعرٍ أسودٍ ناعمٍ طويل, واختفَت.. بينما كانتْ تجلسُ فتاةٌ أخرى بدَتْ أصغرَ سنِّاً, تغازلُ بيديها ضفائرَها الشَّقراء, لم تعرِ انتباهاً لما حدثَ في الحيِّ قبلَ قليل..

وازنْتُ جلستي, فتحْتُ درفتيَّ النَّافذةِ إلى أقصاهما, أمسكْتُ العُودَ وبدأتُ العزف, كانتْ نظراتي مُصوَّبةً نحوَ الأعلى, وأصابعي تُطلِقُ العنانَ لألحانٍ لا شك وأنَّها وصلتْها الآن عندما أرخَتْ يديها عن شعرِها الأشقر, مالَتْ برأسِها إلى حفَّةِ الشُّرفة, وأصغتِ السَّمع, وأيقنْتُ حينَها بأنِّي بدأتُ بكسبِ الجولةِ الأولى.. بقيْتُ كذلِكَ لأكثرِ من نصفِ ساعة, وهِي على حالِها, شعرْتُ بأنَّها تسترقُ النَّظراتِ إليَّ بينَ الفينةِ والأخرى, وابتسامةٌ جذلى رُسمَتْ على وجهِها الأبيض, وكأنَّ النَّغماتِ التي كانتْ تخرجُ من عودي, قبلةٌ غازلَتْ شفتيها.. أنهيتُ جولتي الأولى بغبطةِ المُنتصر,  وضعْتُ العُودَ جانباً, استلقيتُ على السَّريرِ الحديدي, وأحلامٌ كفراشاتٍ ملوَّنة بدأت بزيارةِ حديقةِ أحلامي المُخضوضرة, بينما تركْتُها تغفو على حافّةِ الشُّرفة تحلُمُ بما أحلُم..

مرَّ يومي الأوَّل هكذا, وتكرَّرَ ذلكَ في اليومِ الثّاني, والثّالث, والرَّابع.. أصبحْتُ أعزفُ لها صباحاً, ومساءً, وكم كُنْتُ أتوقُ لأعزِفَ لها ليلاً تحتَ ضوءِ القمرِ الفضِّي, لكنِّي لا أنسى ما حصلَ ذلكَ اليوم, عندما أقبلَ صوبي رجلٌ سمينٌ, شارباهُ غليظان, وبعقَ في وجهي: (بدنا نّام يا تيس, إذا بعد بسمع صوت هالطَّبل بدّي كسرو فوق راسك).. ولم أعُدْ أعزِفُ لها ليلاً, إلاّ أنَّ عُيونَنا كانتْ تُغازِلُ بعضَها البعض لكن… دُونَ موسيقى..

شعرْتُ برابطةٍ إلهيَّةٍ بدأتْ تربطُني بها, وكذلِكَ هِيَ.. بريقُ عينيها كان يُفصِحُ عمَّا في قلبِها الدَّافئ, ويفضحُ مشاعرَ طارَتْ إليَّ كعصفورٍ أزرقٍ يلمعُ تحتَ أشعةِ شمسِ تمُّوز, وبعدَها لازمَ العُودُ أصابعي, ولم تعُدْ هِيَ تُغادرُ الشُّرفة, وكم تمنَّيْتُ لو تسقطُ الشُّرفةُ بينَ يديَّ, وأحملُها بينَ ذراعيَّ, ويقابلُ وجهُها وجهي, وأهمسُ: أعشقُكِ.. وعودي كذلك.. يعشُقك..

جسورٌ من الأحلامِ والأمنياتِ مدَدْتُها بين غُرفتي وشرفتِها الحاضنةِ لها, بدأتُ أغارُ من تلكَ الشُّرفة, كانَ قلبي يتلهفُ كُلَّما مرَّتْ نسمةٌ وغازلَتْ وجنتيها.. في تلكَ الليلة, كانَ القمرُ مُكتملاً, أنارَ وجهَها الأبيض, وجعلَني أمعِنُ النَّظرَ ببريقِ عينينِ خضراوين, وشعرٍ أشقرٍ كانَ يلمعُ تحت شلالاتِ ضوئِهِ الأبيض, جداولٌ مِنَ الحُبِّ بدأتْ تربطُني بها, وأنهارٌ من الأحلامِ كانتْ تُراودُني في كُلِّ يوم, وأصابعي ما انفكَّتْ تعزفُ بشغفٍ.. وتعزف, وكأنَّ حياتَنا صارَتْ روضةً من الوردِ والقمرِ والموسيقى..

وفي يومٍ كُنتُ أعزفُ لها, عادَتْ تلكَ الفتاةُ ذاتُ الشَّعرِ الأسود لتطُلَّ مُجدَّداً, أومأتْ إليَّ كي أقابلَها عند بابِ المنزل, عرفْتُ على الفورِ بأنَّها اختُها, رميتُ ابتسامةً مُفعمةً بالحُبِّ لصاحبةِ الضَّفائرِ الشَّقراء, وخرجْتُ ألتقي بالفتاةِ التي كانتْ تنتظرُني, مدَّتْ يدَها وصافحتْني, كانتْ معالِمُ الحُزنِ ترتسمُ في عينيها عندما بادرتْني الكلامَ قائِلةً: لا أعرِفُ كيفَ أتقدَّمُ لكَ بالشُّكر لكُلِّ ما فعلتَهُ وتفعلُه, لقد استطعْتَ أن تُخرِجَ أختي مِنَ الحالةِ التي كانتْ تعيشُها, أنا أرقبُكُما مِنذُ اليومِ الأوَّلِ عندما أمسكْتَ عُودَكَ وبدأتَ تعزف, وقلبي يغتبطُ سعادةً وحُبوراً عندما ألحظُها تبتسمُ لكَ وتغازلُكَ بعينيها..

قاطعْتُها: أرجوكِ اختصري, فلا أريدُ أن تسمعَ حديثَنا وتسيءَ الظَّنَّ بنا..

قالَتْ لي على عجل كسهمٍ فضحَ عُريَ السَّماء: لكنَّ أختي صمَّاء..لا تسمع.. ألا تعرفُ ذلك؟!

لحظةٌ منَ الصَّمتِ سادَتْ, وقشعريرةٌ غزتْ عُروقي فجأةً, همَمْتُ بعدَها إلى الدَّاخل, فتحْتُ الكتابَ وأكملْتُ القراءة: بيتهوفن أبدعَ أجملَ مقطوعاتِهِ الموسيقيَّة وهو أصم.. لا يسمع..

ومنذُ ذلِكَ اليوم أصبحْتُ أعزفُ لها في كُلِّ وقت, صباحاً, ومساءً, وحتى ليلاً, فما عادَ أحدٌ يُزعِجُنا ونحنُ نُغنِّي ونعزفُ في بيتِنا المُشترك..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!