كرَّاسة الثمانيني/ بقلم : تغريد فياض

 

يصحو “سالم” من قيلولة بعد الظهر, ليتوجَّه مباشرة من كوخه الخشبي إلى شاطئ البحر، كان الكوخ قريباً من الشاطئ، بين عِدَّة قوارب قديمة محطَّمة.

يغسل الرجل الثمانيني، وجهه وروحه بماء البحر، مع كل شروق وغروب، ويبقى هناك يراقب الشمس، وهى تصعد من البحر أو تهبط إليه، ثم يعود إلى كوخه ليكمل تدوين مذكراته التي بدأ كتابتها منذ عشرين عاماً، كان حريصًا على أن يتذكَّر كل التفاصيل والأحداث، والأشخاص الذين مرُّوا بحياته، سواء أسعدوه أم آلموه.

كان “سالم” قادر على تذكُّر أدقّ التفاصيل، حتى تلك التي حدثَتْ في الماضي البعيد، طفولته، مراهقته وشبابه، إلا أنه لم يستطع تذكُّر العشرين سنة الأخيرة من حياته، والسبب، أو الشخص، الذي جاء به إلى هذا المكان. بالرغم من ذلك، كان سعيدًا جداً، ويشعر أن تلك الأشياء البعيدة نابعة من أحلامه فقط، تداهمه أحيانًا تلك الرغبة المحمومة ليعرف أين كان يعيش قبل أن يأتى إلى هذا الشاطئ، وكيف حصل على هذا الكوخ.

كانت حياة “سالم” مليئة بالأحداث والمناسبات على هذا الشاطئ, فكثيراً ما يأتى المصطافون ومعهم أغراضهم ليشاركوه التمتُّع بالرمال الجميلة، والمياه الصافية، وكان هو يفرح كثيرًا بوجود الأطفال، فيتسابق معهم لجمع الأصداف والقواقع البحرية، يحتفظ ببعضها ويقايضُ بعضها بالطعام من المصطافين، يلعب مع الأولاد، وينظِّم بينهم مباريات يشترك فيها، فى الوقت الذى تقوم فيه السيدات بتقديم أصناف الطعام له, كونه يمنح أولادهنّ أوقاتًا سعيدة، ويهتم بهم، ربما حتى أنقذ بعضهم من الغرق دون أن يشعر الأهل بذلك، كانت له تلك الأسرار الصغيرة مع الأطفال.

أكثر من ذلك، عقدَ الرجل الثمانيني صداقات مع عدد من الأطفال والصبية، يقضي معهم أوقاتًا جميلة ومرحة دون الانتباه إلى الفارق الكبير فى العمر، كان هو نفسه يندهش لقدرته على عقد تلك الصداقات بسهولة مع الصغار، ولا يستطيع ذلك مع الكبار.

اعتاد الصبية والبنات أصدقاء “سالم” زيارته في كوخه، وكان هو كريمًا جدًا معهم, وقد لاحظَ أحد الأولاد أن هناك كراسة يضعها العمّ “سالم” دائمًا على طاولته الصغيرة، وبجوارها قلم، كأنه يكتب فيها أو يقرأ، أو الاثنين معًا، لكنه، العم “سالم”، كان يغلقها بمجرد دخولهم، ثم يُديرُ ظهره إليهم ويُخبئها فى مكان ما بين أغراضه، الأمر الذى كان يثير فضول الصبىّ، وخيالاته (رجل عجوز، بحر، شاطئ، كوخ، كراسة غامضة) ما هذا؟.

قرَّرَ الصبي أن يراقب العمّ “سالم” من النافذة الوحيدة للكوخ، كان الثمانينى يفتحها فى بعض الأوقات، وخلال تلك الأوقات راقبه الصبىّ، ولاحظَ أنه يكتب طوال تواجده فى الكوخ تقريبًا، يكتب دون توقف، ثم يُخبئ كراسته ويخرج للشاطئ، ولأصدقائه الصغار.

وفي يوم حانت فرصة الصبىّ لدخول الكوخ والحصول على الكراسة لمعرفة سر العمّ “سالم”, فقد جاءت مجموعة من الأولاد والبنات صباحًا وطلبوا من العمّ “سالم” الذهاب معهم لتناول الغداء على الشاطئ, ومساعدتهم في شَىّ السمك الذي اصطاده بعض آبائهم.

كان الصبى يعرف أنه ليس للكوخ قفل أو مفتاح، فقط يجذب الرجل الثمانينى الباب خلفه، فليس هناك ما يخشى سرقته، “ولكن هناك الكراسة الغامضة”، فكر الصبىّ.

دخل الصبىُّ الكوخ، وفتَّشَ فى النقطة التى رأى صديقَه الكبير يُخبئ فيها كراسته، عثر عليها، كان غلافها مرسوم بطيور ترفرف فوق بحر مُمتد، فَتَحها الصبىّ، سقط القلم من بين صفحاتها، التقطه، كان خاليًا من الحبر، ابتسمَ الصبىّ، وتوقَّعَ أن العمّ “سالم” قد انتهى من كتابة كل ما أراد كتابته (لم يلاحظ أن جوف القلم كان خاليًا من أىّ أثر للحبر، لم يكن هناك حبر فى أىّ يوم بالأساس) بدأ يُقَلِّبُ صفحات الكراسة، الصفحة الأولى، الثانية، العاشرة، وحتى الصفحة قبل الأخيرة، كانت كلها خالية من أيَّة كلمة، فقط، وفى الصفحة الأخيرة، وجدَ الصبىُّ جملة واحدة، مكتوبة بخطّ جميل، واضح : “أكتب كل تلك السنوات لأنسى”.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!