ما لم يُقل في (الطريق من إيلات)..!/ بقلم : عمرو الرديني

“مُهداة إلى: اللواء/ نبيل عبد الوهاب، بطل العملية (إيلات)..”

 

 

أستشعرُ خِفَّة وزني كما كنت دائمًا أستشعر خِفَّة ظلي.. كنتم دائمًا ما تخبروني بذلك.. أتذْكُر ذلك يا صديقي؟ أتذْكُر في جلسات سَمرنا –وما أكثرها– حين كنت أُلقي عليكم النكات؟ سنوات مرَّت ثقيلة.. يُلقي فيها العدو القنابل، وأُلقي أنا بالنِكات.. وهل كنَّا نملك غيرها؟

حين كنت أُقلِّد لكم الصول “مِعتمِد” فـي مشيته، وضحكته، وحين نتندَّر على “مينا” الذي استدعوه يوم الصباحية، قبل أنْ يُكمل أداء واجبه المقدس.. كنت وأنت قائدي تتمرَّغ على الأرض من هيستريا الضحك.. كما كنت تتمرَّغ في طفولتك من القهر، والحزن لاستشهاد أخيك الأكبر في العُدوان الثلاثي.. أخيرًا سأقابله.. سأحظى بمقابلة الضابط “طلعت” الذي كان سببًا ودافعًا لالتحاقك بالبحرية، بعد أن استُشهد على يد القوات الإنجليزية، وهو بالمدمِّرة (دمياط 2)..

سأخبره أنك كنت دومًا أخًا وصديقًا، والآن ستصبح منقذي، وبطلنا… رغم هدوئي وسكوني التام ستنقذني.. ستنقذ نجاح عملية تمنيناها كثيرًا، وحلمنا بها لسنوات.. تلك العملية التي بذلنا من أجلها العرق والجهد، لتصبح نورًا ساطعًا للأجيال القادمة..

أرى الآن نتاج ما صنعناه: تلك النيران المشتعلة هناك هي أجمل عندي من الألعاب النارية التي يطلقونها في الإحتفالات.. لأول مرة ينطفيء جزء من غليان قلبي.. ما أجمل المنظر الآن على الشاطيء الآخر.. كم أتمنَّى أنْ تمتد النيران فتلتهم جميع قواعدهم، ووساخاتهم..

أُشفق عليك من طولِ المسافة، وبُعد الطريق.. أربعة عشر كيلو مترًا لا يؤنسك فيهم سوَى دموعك.. لكنك نبيلاً كما هو إسمك، وبطلاً لا تقل بسالة عن أبطال الحواديت التي كانت تتغنى بها جدتي وأنا طفل صغير في قريتنا.. أذكر ذلك جيدًا: كنت ألتف حولها أنا وأختي –التي ستظل تغمرها برعايتك– وتنجذب هي لأميرة البحور، بينما أُسحَر أنا بـ”أبو زيد الهلالي”، و”السندباد”..

أعلم أنك مثل أبطالي، وسيصعب عليك أن تتركني لهم.. قد يمثلوا بي، قد يغيِّروا الحقائق كعادتهم، ويقولون أنهم هم المنتصرون.. سيعتبرونني أسيرًا، وستُفسد أنت عليهم أن يخرجوا على الدنيا بمانشتات صحفهم الكاذبة بأنهم أحبطوا ضربتنا لهم، وتعرف أيضًا ماذا: إنه أصعب شيء… سيدفنوني عندهم، لأُكمل الرحلة غريبًا.. كما كنت في الحياة مُنهكًا ومظلومًا..

أتصوَّر أمي المسكينة عند عِلمها بغربتي.. أراها أمام باب منزلنا الصغير بملابسها السوداء التي أقسمت ألا تنزعها إلا حين ننتقم.. أسمع أنينها المكتوم، وأشعر بقلبها المكلوم، وأكاد ألمس جلدها الناشف كشجرة صبار، وأبي.. أبي الصابر المُحتسِب.. ذلك العابد الزاهد تكاد مسبحته أن تسجل له مليونيّ استغفار، وحمدٍ وثناء.. لن يقيم لي شادر عزاء، ولن تطفيء الدموع نيرانهم..

لكنك مُنقذي.. قائدي وأخي، وصديقي.. زميل الحُلم.. ورفيق السلاح، والنجاح.. ستأخذني معك في تلك المياه الباردة برودة أعدائنا، وإن كلَّفك ذلك إستعارة أنفاس فوق أنفاسك، واستدانة قوةٍ على قوتك.. ستتخدل ذراعاك، وتتيبس عضلاتك، ولن يقف معك الماء..

صدقني أحاول أن أكون خفيفًا كما كنت في الحياة، فلطالما عصفتْ بي الضوائق لكني كنت أستحي أن أُثقل عليك، أو على غيرك.. بل كنت رغم ذلك أقتصد من راتبي لأدخل البهجة على أهلي..

أتعرف ما يثقل جسدي الآن؟ إنه ما تبقَّى من شعورٍ بالعجز.. إحساس باليأس عرفناه جميعًا، وما زال يغلِّف حياتنا بالذل رغم نجاحاتنا الصغيرة المتباعدة، والمتفاوتة الدرجات.. بدايةً من (رأس العش)، وحتى ليلتنا المباركة تلك.. لكننا لن نرضى إلا بنصرٍ كبيرٍ.. نصرٌ مبينٌ ، وأراه قريبًا قُرب ذلك الشاطيء الصديق الذي تبحر بنا نحوه..

أعتقد الآن -بينما تتردد في أذني أغنية (بين شطين وميه) تلك الأغنية التي كانت كلمة السر، وانطلاقة شرارة البدء- بأننا قد أوشكنا على الوصول.. مرَّت ساعات طويلة، وبزغ من فوقنا النهار.. ولا أعرف كيف أشكرك؟

كان بإمكانك أن تتركني هناك.. لم يكن ليلومك أحد، فالعملية قد نجحت، ودمّرنا (إيلات)، وتخلُّفي هو حظي العاثر، أو لعله هدية السماء.. لكنك آبيت إلا أن تكون بطلاً حقيقيًا.. كما عهدتُ من قبل كل أبطال الحواديت.

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!