من(67)ياأفندم / بقلم : السيد حمزة

السيد حمزة

من(67)ياأفندم

فى الوسط من تلك البلاد الخرافية , بين رمال من أرواح , وتلال من لحم , وصخور من عظم , فى المنطقة المحصورة بين القرية الحطبية , المكونة من عدة أكواخ تشبه الجحور, لوقوعها بين الكثبان الرملية الكثيفة المتفرّقة , والتلال الصخرية المتوحشة , فلا تبين سوى فتحات الأكواخ المعتمة شرقاً , وسرية الحدود غرباً , يسعى ذلك ” العسكرى ” الذى حكى لى الناظرعنه الكثير , وعن مغامراته المضحكة , فوق تلك التلال والكثنان , وكثيراً ما حكى لى عن تلك الليلة , التى فوجىء فيها بباب الاستراحة البدائية , يطرق بشدّة , طرقات خوف وهلع شديدين عنيفة , كاد ينخلع قلبا الباب والناظر معاً , من الطرقات القوية السريعة , ففتح الباب مذعوراً , إذ بضابط برتبة ” مقدّم ” , وجندى يقفان أمامه يرتجفان , تتلعثم الكلمات بين شفتيهما , تبرق عيناهما الجاحظتين من شدّة الفزع , وتلمع فى الظلام الدامس , أدخلهما , وأعدّ لهما كوبين من الشاى , بعد أن هدّأ من روعهما , وأجلسهما . حكى له الضابط عن سبب ذعره وهلعه , قائلاً :

_  كنت أمر على ” النقاط ” المنتشرة على الطريق , بصحبة هذا الجندى سائق السيارة . فى نور السيارة الممتد , بدا لنا من بعيد أن جندياً , يقف على جانب الطريق , فوق الدّشمة القريبة من هنا , عند مطلع التل فى أول القرية , من جهة السرية , أمرت سائقى أن يتوقف بجانبه , حتى نأخذه معنا , ونوصّله مأربه , توقّفت السيارة ” الجيب ” بجواره , فسألته فى شدّة وحزم الرجل العسكرى :

_   أنت .. يا عسكرى .. واقف هنا من إمته ؟

ردّ فى هدوء شديد :

_   من   ” 67 ” يا أفندم .

فزعت وتذكّرت , فأمرت السائق .. أن يسرع قائلاً :

_  اجر .. اجر .. اجر ..يا دفعه .. فهبط الغبى من السيارة , وانطلق يعدو فى اتجاه هذا المبنى القميىء , الذى ينفلت منه شعاع من نور واهن , قفزت مكانه , وأمسكت عجلة القيادة , وحرّكت عصا ” الفتيس ” , وفررت هلعاً .

ضحكت كثيراً , حتى اغرورقت عيناى , لهذه الرواية الغريبة , ولم أصدّق أى حرف فيها , وقلت للناظر ساخراً :

_  يا رجل دعك من هذه الخرافات , أتدس الخوف فى قلبى ؟!

حتى جاءت تلك الليلة , التى ذهبت فيها أنا والناظر, إلى سرية الحدود , كى نسلّم على قائد السرية , بعد عودته من إجازته الميدانية , ونعطيه الأعشاب , التى أحضرها له الناظر, من البدو لعلاج السعال . انطلقنا سيراً على الأقدام , فوق الشريط الأسود , كان الناظر يقفز عالياً , ثم ينظر تحت قدميه , فيجد بعض الحصوات , هى التى اصطدمت بقدميه , إثر زحف نعاله الجرار فوق الإسفلت , فيخالها عقارب أو حشرات جبلية مؤذية , بعد مسيرة الساعة من المدرسة , وصلنا السرية , رحّب بنا الرجل , وجلسنا نتسامر , ونحن نتناول الشاى , ثم تناولنا العشاء , الذى أعدّ خِصّيصاً لنا , ثم احتسينا الشاى ثانية ,  وبدأت بعد ذلك مباراة الأولمبياد الساخنة , بين الناظر وقائد السرية , فى لعب الطاولة , التى انتهت بفوز الناظر, بعدما صال النرد وجال تارة مع هذا , وأخرى مع ذاك .

استأذنا منصرفيْن , القمر تخنقه السحابات الثقيلة الكثيفة , فى ليل الشتاء الطخواء , موجات العتمة تلطم عيوننا , حتى أنك لا تستطيع رؤية كفّك ولو وضعته أمام عينيك . خيالات تتقافز فى عشوائية , تخترقنا , كنا نتحدّث فى موضوعات شتّى , ونحن نسحب الطريق بخطواتنا , حتى رأيته شاخصاً .. منتصباً , فوق الدشمة أعلى التل , لم أنتبه فى بادىء الأمر , ولم أتخيّل أو يخطر لى ببال أنه هو, قلت فى نفسى ” هى لوحة إرشادية منتصبة على حافة الطريق ” , كنا قد اقتربنا , وملامحه تزداد وضوحاً , وظهرت تقاسيم جسده النحيل , سألتُ الناظر مرتاباً :

_  ألا ترى أى شىء أمامك ؟!

فأجاب فى توجّس :

_  تقريباً لوحة إرشادية .. ولّا يمكن عسكرى ” 67 ”

انخرطنا فى الضحك , وسرعان ما غيّرنا الحديث عنه , وتحدّثنا عن وجبة العشاء اللذيذة الدسمة , التى تناولناها فى السرية , اقتربنا أكثر . كان واقفاً فوق الدّشمة نعم , وكان واضعاً يديه على كتفيه , فى شكل متقاطع , وقبل أن ندركه ببضع خطوات , قال من فوق منصّته :

_  آى أنا ..  بتاع ” 67 ”

فرددت عليه , ولا أدرى مالذى جذبنى إليه , وجعلنى أحدّثه قائلاً :

_  تاخد سيجارة .

قال فى تؤدة , وهدوء بارد :

_  لا .. ما بَدَخّنْش .

ضحكت بصوت عال , وكان صدى ضحكاتى , يتردد فى الفضاء البعيد ,

التفتُّ إلى الناظر , وقلتُ :

_  دا .. مابيد خّنــْ .

لم أجد الناظر بجوارى , وجدته أسفل مطلع التل , يهرول مسرعاً فى إتجاه القرية , تعجّبت لأننى لم أحس بعدوه من جوارى !! وهو السمين ذو الكرش المتدلّى حتى ركبتيه . ارتجفت .. وسرت فى جسدى قشّعريرة مفاجئة , شرعت فى الجرى من أمامه , كى ألحق بالناظر , الذى اقترب من المدرسة , ابتدرنى بهدوء رتيب قائلاً :

_  لا تجر , لا تكن كذلك الفيل الآدمى جبان , عقله تارة فى بطنه , وأخرى بين فخذيه .                                                     تحرّكت الكلمات فى ذهنى , وما أدراه بهذا الأمر, فالناظر دائماً فكّه لا يتوقّف عن المضغ , أو الثرثرة الخبيثة ” تمالكت أعصابى , ونظرت إلى أعلى مُلمْلِمَاً الحروف , بين شفتىّ هامساً :

_   سمعت عنك الكثير , ولم أصدّق .. من أنت ؟!!

_   أنا عسكرى ” 67 ”

أطلقت صوتاً هائلاً كالفحيح , ينبعث من حلقى , بعد أن لفحتْنى نسمةٌ قارسة البرودة , وقد تحوّل هو إلى جسم هيولى من العتمة الصارخة , الشديدة السواد , يفترش جزء من أعلى الدشمة , قلت بصوت متهدّج , وأنا أحدّق فيه , حتى أتمكن من تحديد شكل له :

_  هل هذا رقمك العسكرى ؟؟؟ أم رقم وحدتك ؟ .. فرقتك ؟ .. لواؤك ؟!

لملم نفسه , وانتفض مستطيلاً , فى هالة عظيمة سوداء إلى أعلى , وقال كمن يكظم غيظه :

_  احتمالان .. أن تكون قد نسيت .. أو أنك غبى .. إن ذلك الرقم محفور فى الذاكرة , التى يبدو أنها فُقِدَت أو ماتت . ذكرى أليمة منقوشة بدمى على هذه الأرض , لكن من ينس , وأى ذاكرة تموت , ويتوارى معها ذلك الجرح الغائر فى العقول , وذلك الحزن القابع فى القلوب , من لم يعد إلى أمه التى ماتت , بعد أن ذرفت عيونها الدمع بك

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!