نـــــاديـــــــة الأنـــــــــواء / بقلم: إبتسام الخميري

تنهّدت الصّعداء. استقامت في الفراش المحرق لها. ثمّ أخذت منه سيجارة. ودّت لو تحرق كلّ المشاعر المكتنزة بداخلها. اعتدل بجانبها. تناول عود الكبريت. أراد أن يشعل لها السيجارة. في البدء رفضت و مع إصراره تركته يفعل. همس لها و هي تبحر في دخّان السيجار الأول:

– ماذا يحدث؟ أوّل مرّة أراك تدخّنين، ما الخطب؟؟

–  …

– إذن، سنشعل معا سجائر هذه الليلة.

و… أبحرت في رسوم مختلفة مع دخّان السّجائر، لم تكن قادرة على فعل أيّ شيء، رأتها عاجزة

و مهانة. نعم. مهانة.

لم تكن نادية سوى رمز الأنفة و الكبر أمام الجميع. ظلّت على الدّوام فرسا جامحا لا يأبه سوى لنداءات العقل و الفكر. و الآن، على التوّ، تجرّدها الأحداث من عرشها المرتفع على الدوام.

دام الصمت بينهما طويلا. كانت الساعة الثانية صباحا. كانت ليلة مقمرة لكنّ  الظّلام غزى كلّ أرجائها الحالمة. لم تكن السّجائر لتنعم عليها إلاّ ببعض الاضطراب الفكري. راحت مدامعها تنفر منها عنوة. نعم. ناحت كثيرا في صمت مطبقا. و الخيالات ترقص أمامها بلا مناظر بائنة. فقط كلمات متناثرة هنا و هناك. هزّها الحنين لذلك اللقاء الأوّل. منذ سنة و بعض الأيّام..

ودّت لو تركب سلّما زمنيّا يعيدها لذلك اللقاء عساها تمحيه:

– ما رأيك لو نلتقي بعد ساعة؟؟

– آسفة. مرّة أخرى.

و مضت بعد أن أمدّته برقم هاتفها. و تتالت لقاءاتهما و تكرّرت حتى بدت عاجزة على الخروج بمفردها دونه. غزى فكرها إذن؟؟

نادية صلبة على الدّوام. لا تعرف للمشاعر مكانة و لا للحلم إطارا. هكذا كانت قبل أن تلتقيه.

و حين التقته حملها تيّار جارف إلى الهاوية. تماما كما النّيازك المضيئة كانت لقاءاتهما رائعة…

ذات مرّة غمغمت له بصوت مرتبك:

– حسنا، سنمضي معا. لكن أرجوك احترم كبريائي.

أردف قائلا:

– هذا مؤكّد. أنا أحتاجك مرآة أفراحي الذائبة.

و أبحرت معه… كانت مرآة صافية تعكس كلّ المشاهد بصدق و كما هي. لم تخف شيئا عنه. هكذا دأبت على الصدق.. و ظنّته كذلك حتّى..

– نادية، أحتاجك. كوني الوجه الجميل في حياتي البائسة.

– نعم.

و تسرّب في شرايينها دما دافقا و لم تتفطّن. سنة و بعض الأيّام مرّت … مع دخّان السّجائر و هو يرتقب هسيسها و لم تفعل.

كانت سئمت القول:

– أرجوك احترم علاقتنا. اعلم أنّي أحتاجك كما احتياجك لي تماما. لكنّ كبريائي أهمّ.

ذات يوم ممطر مرعد، أخبرها أنه سيستضيف صديقة له. تبسّمت بكبر و همست:” أنت جدّ كريم”.

غادرها تاركا نزيفا عميقا و جرحا يدميها. عوت. صرخت. و ظلّت وحيدة. كلا. بل كانت أسئلة قد ولدت مع ذلك الخبر: ” لماذا أبكي؟ لما أنوح؟؟”  ارتطمت الأسئلة بحقيقة جدّ مخزية في نظرها.

أغمضت عينيها بكلتا يديها كأنّها تخجل من أمر ما. لم تشأ أن تصرخ في وجهه لكنّها صرخت أمام المرآة: ” لم أدماني لقاءه بأخرى؟؟”

ناحت طويلا للبحر الذي كان ثالثهما طوال الفترة التي جمعت بينهما… و ما استطاعت البوح.

كرمه كان ذبحا لها. كانت تنزف دما و هو يخبرها:

– ما الضّيم أن أستقبلها في منزلي. أمينة فتاة فقيرة. هي طالبة بكليّة منّوبة قسم إيطالية. لم تتحصّل على سكن جامعي، رأيت من واجبي مساعدتها حتّى…

تذكر مع نفاث السّجائر أنّها لم تملك أحقّية التلفّظ بأيّ حرف. جدّ جارحا لها. و جدّ كريما معها. يستضيف ابنة الجامعة و يطرد رسمها عنه.

جادت السّماء بالكثير من الأمطار… لشدّ ما تعشق المشي تحتها حتّى تتبلّل تماما… الشوارع شبه فارغة. أوقفت السيّارة في الطريق العام. سارت على القدمين، عسى الأمطار تغسل أحزانها و ضياعها….

عبرت شوارع تونس العاصمة، باب الجزيرة، شارع شارل دي قول، نهج مرسيليا، ثمّ رأت لافتة مرسوم عليها عبارات، تقدّمت مثقلة الخطى. تجرّ أحلامها جرّا “عساها تنقض البعض منها!

انتظرت نادية قليلا أن تشير عليها الممرّضة ” ألا سيّدتي تفضّلي دورك.”

غمغمت بأغوارها: “انتهى دوري”.

ظلّت صامتة برهة أمام الطبيب و قد فشل علي دفعها على الكلام… أخيرا نبست و بصوت مختنق:

– أرجوك، أريد التخلّص من هذا الطفل.

– لكن سيّدتي، ما بك؟؟ لماذا؟ لقد انتظرته لسنوات، هل أستطيع معرفة السبب؟؟

اغرورقت في المدامع و لم تجد سببا واضحا… هي ذاتها تجهل السبب، فجأة صرخت:

– نعم. أمينة. وحدها قد تكون القادرة و أنا لا يمكنني.

قارب السّيجار على الانطفاء و هي ما تزال غارقة في مدامعها و هو مستلقي بجانبها يدخّن. همس:

– أطفئي سيجارك.

و بحركة لا إرادية وضعت بقايا السيجار على باطن يدها اليسرى. صرخ في وجهها:” ما هذا؟؟” لكنّ نادية لن تتفطّن له. طوال زمن تسرّب في شرايينها و ما درت! طوال زمن قصير أرهقها بصبيانيّته

و ما بكت! طوال زمن ظلّت عظيمة المشاعر و الآن على التوّ، مع نفاث آخر نفس في السّيجار تراها مغتمّة المشاعر، طفل قضي عليه، و فؤاد جرح و نزف و ما تكلّم..

تأمّلت وجهه مليّا. رأته جدّ بارع في تأليف قصصا و حكايات… و رأتها جدّ ساذجة إذ غرقت في عشقه و ما تفطّنت…

انتهى السّيجار و كفّت مدامع “نادية” و ما حفت قدماها… تبحث عمّا يلهيها و ينسيها ألمها. شيئان حفرا بذاكرتها بل هما اسمان:” أمينة” و الهوائي الطّباع..

عسى تجد ذاتها يوما فتصرخ:” أنا أعشقك يا أبله”.

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!