الحزم الدلالية والمبالغة التهكمية في ديوانأثقل من جبل يتمشّى للشاعر محمد البديوي

بقلم : د.عادل ضرغام
في ديوانه (أثقل من جبل يتمشّى) يشتغل محمد البديوي على ثيمات أو توجهات عديدة، ولعل أهمها يتمثل في ثيمة الاغتراب الذي تشكل نتيجة للفقد والهزائم على مستويات عديدة، ولا يتوقف الاغتراب في النصوص الشعرية عند حدود الاغتراب المكاني وصناعة نسق مقاوم من خلال تأسيس ذاكرة حية مستمرة، بل يتعدّى إلى غربة روحية وجودية في نصوص ليست قليلة. وإذا كانت الغربة مكانية أو وجودية فإن نتائجها تتجلى في إحداث شعور بالاختلاف في قصائد الديوان، ولهذا نجد أن هناك تبئبرا وتركيزا واضحا على فكرة النبوة، وما يتجاوب معها من الحلم بإمكانية الفعل والتغيير.
في هذا الديوان على صغر حجمه تتعدد مستويات الفقد، وهذا الفقد يولّد روحا معذّبة، ويتأسس ذلك الفقد كما تجلّى في نصوص الديوان من تلاشي الآمال الكبرى التي آمنت بها الذات وبإمكانية وجودها وتحققها، سواء على المستوى الفردي في تجليات الفرد الذاتي، أو على المستوى الجمعي، في تأمل الحال التي انتهت إليها الثورة، وما ارتبط بها من آمال كبرى. وفيه تبدو- نتيجة لذلك- حالة السأم واضحة، وذلك من خلال الإشارات التي تكشف عن الإبدالات العديدة التي صنعتها تلك الحالة، وفي تصوير هذه الإبدالات ينسرب النص الشعري إلى صور أقرب إلى العجائبية أو الغرائبية، وكأنه- أي النص الشعري- بهذا التوجه يشير إلى غرابة النتيجة، فيعريها من واقعيتها بهذا التضخيم العجائبي بوصفها وجودا واستمرارا لشيء يندّ عن التصور الواقعي والاحتمال والتفسير.
تتجلى فكرة النبوة في قصائد عديدة، خاصة في القصائد التي ترتبط بتأطير حدود الشاعر، وهي في ذلك الإطار تأتي مملوءة بالقدرة على الفعل، ومشحونة بالقداسة والاختلاف، وهي فكرة رومانسية في الأساس، وإن أخذت مناحي كثيرة، خاصة عند سعدي يوسف، فلم يعد الشاعر في تشكيله مملوءا بالقداسة، بقدر ارتباطه بفكرة الصراع مع الواقع على تعدد أشكاله. وتجلت فكرة النبوة والفاعلية في قصائد الثورة، سواء كانت مرتبطة بالثورة على أنها إحداث لخلق جديد، وبداية جديدة، أو في تصوير الحاكم حين يتعاظم على وجوده البشري فيأتي ملتحما بالنبوة والألوهية، وإن كان ذلك التصوير يأخذ مسوحا من السخرية والتهكم والانتقاص.
تظهر في نصوص الديوان بشكل لافت مسحة غنائية، تطغى في بعض النصوص، وتبدو خافتة في نصوص أخرى، وهي في الأساس انتصار للذات ولعالمها الخاص في مقابل العالم، وانتصار للفردية والواحدية في مقابل التعدد، هي نوع من اليقين بفرادة الرؤية، واختلاف المقاربة. وربما تتعدد الآراء في مقاربة هذه الغنائية وأسبابها، هل يرتبط الأمر بالبداية وطزاجة الرؤية؟ أم أن الأمر يتعلق بالآمال الكبرى، وتصوّر القدرة والإيمان بتحقيقها؟ أم هي وسيلة من وسائل الاستقواء بتأسيس عالمه الخاص بعيدا عن الخارج؟ خاصة أن نصوص الديوان تكشف عن وضع خاص (للنافذة) أو (الشباك)، فهي بدلا من انفتاحها على الخارج بوصفها وسيلة اتصال لمعاينة الضوء، منفتحة على الداخل لمعاينة الظلام والعواء المتراكم. فالغنائية في الديوان ملمح أساسي، وتبرير وجودها على هذا النحو المتواتر في النصوص على اختلاف درجة وجودها من نص لآخر، يرتبط بمحاولة تأسيس خطاب خاص يؤسس حضوره من خلال هذا الملمح للكشف عن الانسجام.
الحزم الدلالية والثيمات
تتعدد في الديوان الثيمات والحزم الدلالية، ويأتي في مقدمة هذه الثيمات ثيمة الاغتراب التي يمكن أن تكون الثيمة الأساس في توليد وتكوين الثيمات الأخرى المرتبطة بها، فهي تتجلى وكأنها الخلفية التي تشكل الكون الشعري في الديوان، فالقارئ يدركها مع كل السمات الأخرى بوصفها مسببة لها وناتجة عنها في الآن ذاته، وأي تناول للثيمات الأخرى تناول وتكريس لحضورها. في بعض النصوص هناك تجلّ لهذا الاغتراب، ونرى الذات في محاولاتها المضنية للوصول إلى حالة انسجام جزئي يهدهد غربة الروح.
في نص (المهاجر) تتشكل غربة الفرد أو الذات داخل حضور المجموع، وتحاول الذات إقامة اتصال مع الخارج من خلال الاستناد إلى بعض الوسائل الناجعة في ذلك، فحين يقول (رفعت ضحكتي الرقيعة-شمّني الرجل الغريب- فلم يميّز غير رائحة البخور-فسرقت بعض هدوئه- ووقفت أحكي للجميع عن المهاجر) يشعر المتلقي أن الرائحة- وهي رائحة وثيقة الصلة بالوطن- تؤدي دورها في خلخلة وإزالة هذه الحال من الاغتراب، وخلق مساحة من التواصل مع المجموع من خلال فعل الحكي، فالحكي اتصال، وخروج من الذات إلى المجموع وانغماس فيه. فالحكي- بفعل الرائحة التي أزالت الغربة- يعدّ نوعا من الاتصال والمشاركة، وإقامة جسور للحوار، ووجود دال المهاجر في العنوان وفي نهاية النص يكشف عن مشروعية التناول، خاصة إذا تمّ استحضار فعل الإنهاك في بداية النص.
وإذا كانت الغربة مهيمنة في نصوص الديوان بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن لها تأثيرا في وجود ثيمات أخرى متعلقة بها، وبمواجهة الذات لنفسها، خاصة حين يرتبط الأمر بصورة الشاعر أو الظل، ويصبح التساؤل عن تداخل المساحات بين الظل/الشاعر والاغتراب مشروعا. ففي نصه (مرضي لا يعرفه غيري) تتداخل مدارات التداخل والانفصال بين الظل والإنسان، كما ورد في نصوص قديمة جهيرة الصوت لهذا التوجه الكتابي، بداية من تكرار آلياتها ومساحات تصويرها عند شعراء كثيرين، وتتجلى مساحات التداخل والمشاركة كما يقول النص (مرضي أعرفه-يعرفني- نتقاسم بعض الأشياء المشتركة:- نفس الفرشة- والساعة- والهاتف- والنظارة). فهذا الاقتباس يعيد المتلقي حتما إلى نص سعدي يوسف في ديوانه (الأخضر بن يوسف ومشاغله) حيث تتكاتف مجموعة من الجزئيات للتعبير عن الثنائية داخل الجسد، حيث يبدو الإنسان مرتبطا بحدود التواصل الاجتماعي، والآخر يتجلى بعيدا بما يقوم به من أفعال.
وإذا كانت مساحات التداخل بين نص البديوي ونص سعدي يوسف كبيرة، كما ظهر في الجزئية السابقة، فإن ذلك يظهر في جزئيات أخرى، مثل التعبير عن الجزئيات المشتركة، أو تأثيره وحضوره في لحظة الدفء بينه وبين فتاته في قوله (أحيانا يقترض قميصي- يمسك كف فتاتي-يمنحها الذروة- ثم يبص ويغمز)، أو في الصور الكاشفة عن الصراع والهيمنة (أحيانا يقترض ذراعي- يمنحها شكل السيف ويقتلني-مرضي مجنون لا أعرفه- لا يعرفني)، ومن خلال هذا الصراع لإثبات الفاعلية تتشكل القداسة والهيمنة.
وبالرغم من هذا التماس الواضح في جزئيات عديدة مع نص سعدي يوسف إلا أن هناك إضاءات لمناح شعرية، وصور بها الكثير من الجدة، مثل اعتبار الشعر مرضا في انفتاحه على البعد عن الطريق المعبدة والمؤسسة بسلوك عام خاضع لسلطة النسق، إلى مساحة للخروج والتجذر في نسق مباين في قوله (أحيانا لا يبصرني- يعطيني سببا لأفوت بعض الصلوات- ويعطيني وقتا-وفتاة نرقص في منتصف الليل ونغلي). ويمكن تلقي هذا النص بالرغم من المنحى المعرفي الخاص بالصراع الذات بالظل أو الشاعر في إطار فاعلية الغياب. فالغياب في هذا النص بوصفه آلية سردية يعطي مساحة أكبر وحضورا، ويسدل صورة غير عادية لهذا الظل، لأن الغياب ضد آلية المتكلم التي تؤسس مساحة للانحياز، فالغياب تأمل موضوعي ضد سطوة التكلم والذات.
وتأخذ هذه الثيمة شكلا آخر في نص (كي أنتبه)، ففيه تتم عملية الاتصال بين الكيانين من خلال صناعة سياق التداخل والاكتمال، فحين يتوقف المتلقي عند حلول أو صناعة الظلام نهارا، يشعر ببدايات الاستعداد للتحوّل، وبداية فعل الطفو والطيران، فيتاح له الطيران، ويقابل امرأة تغيّر من طبيعته، وكأن ذلك فعل من أفعال التجهيز للتحول من سياق إلى سياق آخر، يصبح فيه مبصرا، والإبصار أو البصيرة مساو للشعر وقدرته، ومن ثمّ يلح فعل القداسة واضحا. يكتسب الشاعر/الظل في هذا النص قدرته في الخروج عن المألوف، وتلحّ قداسته من الختم بعد التجهيز، يقول النص (قالت لي امرأة سأرش وجهك بالتراب- لكي ترى ما يراه المبصرون- فلا تقدم أي شيء لا يليق بقدرة الشيطان- ولا تحاول أن تزوّر ختمك- الآن انتبه-أعط الخلائق حقها).
بوجود الشيطان، والإشارة إلى الختم تتأكد مشروعية للمقاربة والتناول، ويمكن من خلالهما تبرير القدرة الفاعلة في السطر الأخير. لكن في نصّ آخر يتم التعبير عن هذه الثيمة بشكل أكثر هدوءا، ويقل العنف الموسيقي والإيقاعي، ويغيب الالتحام بأصوات الآخرين التي يمكن أن تشكل قيدا وتكبيلا لتجلي الظاهرة الفنية، على نحو ما يمكن أن نجد في قصيدة (الخفي)، حيث ترتبط بمعاينة ومقاربة ذلك الكائن الذي تجلّى بشكل مباشر في نصيه السابقين، وبشكل يكشف عن إشارة وحيدة في نصه (كذبت على ضميري) حين تتشكل مساحة من ميلاد الشاعر أو الظل في ارتباطه بامرأة نموذج أو مثال، في قوله (كانت عندي عقدتان- ذهابي للسبيل-ورهبتي ممن يعيش ولا أراه).
ففي هذه النص يشعر القارئ أن بساطته لا تنفي طزاجته وأصالته، وأن الصور المجدولة من خلال ضمير الغياب الذي يكوّن هالة ووجودا مغايرا، تؤسس لنفسها وجودا دلاليا داخل الإطار المعرفي. ففي قوله (يقبض على الضحكة بإصبع- وعلى الطريق بملقاط- يهتف للجحيم- للشياطين-ولا يذكر القتلة إلا بكل خير). فهي صور بسيطة لكنها فاعلة في صناعة الاختلاف للظل، وتشكيله والإحساس به، من خلال عرض مظاهر وجوده، وابتعاده عن الحسي الملموس، بالإضافة إلى مراحل تكوّنه وولادته ونموّه، وانتهاء بفاعليته التي تعطيه قدرة لافتة تندّ عن الطبيعي والمنطقي، في تغييره محطة الإذاعة بإيماءة، وعقارب الساعة بنظرة، وفي تغيير النهار إلى ليل، وهي صورة أثيرة لدى الشاعر يبصرها المتلقي في نصوص أخرى، وثيقة الصلة بالمنحى المعرفي الخاص بتشكيل قدرة واختلاف الظل أو الشاعر.
ومن الثيمات التي ترتبط بثيمة الغربة والفقد، وتشكل جزءا أو سببا من الإحساس بالاغتراب ثيمة المرأة النموذج أو المثال، وهي تلحّ في نصوص الديوان مزدانة بالطفولة، وهذا يشدها إلى البراءة أولا، وإلى ابتعادها عن التحديد الزمني العادي مثل البشر، فلا يعتورها أو يصيبها ما يصيب البشر العاديين. ففي نصوص (إصبعها تمسك الريح)، و (هل تخبرنا الريح بمأوى؟)، و(نورا) يتكشّف للقارئ أن هذا الترتيب المتوالي ليس عاريا من الدلالة والقيمة، لأنها بهذا التجاور صنعت إطارا للمثال الأنثوي وحركته ووجوده الحي وتحولات دلالالته، ومساحة فاعليته التي لا تتأثر بمرور الزمن، فيستمر على قداسته، وعلى طفولته التي لا تشيخ.
القارئ للنصوص الثلاثة سوف يكتشف أنها متكاملة تبدأ من الميلاد والمعرفة، فالنص الأول (إصبعها تمسك بالريح) يرتد بنا إلى البدايات الأولى وبدايات الخلق وأسطورة نصف الكرة التي تبحث عن نصفها الآخر. فذكر الشيوخ الصوفيين، والشيخ الذي يترقّب ليس عاريا من الدلالة في إسدال مشروعية لهذا الفهم، بالإضافة إلى ارتباطها بالريح وخروجها عن المألوف، في مقابلها الطفل الذي يتحرّك بالريح، فيبدأ اللقاء ويتجلى الاكتمال (يمرّ بطيئا ولد يحمل في عينيه الريح- الريح هنا- والريح هنا- يلتقيان ويقتتلان- كان الشارع يبدأ من قدميه- فصار الشارع يبدأ من عينيها).
وانتهاء هذا النص بلفظة الريح التي جاءت في عنوانه، ووجودها في عنوان النص التالي (هل تخبرنا الريح بمأوى؟) يؤشر إلى الفقد والنقصان بعد الاكتمال، من خلال فعل التذكر الذي يبدأ به المقطع الأول، فهناك صورة للكفّ الذي يتجلى في فنجان القهوة، والوشم الذي يظلل الجبين، والعرق الذي يطفو لحظة العودة إلى أماكن الذاكرة، وكل ذلك يمثل محاولات لتأسيس حالة الاكتمال الأولى في النص السابق. أما في النص الثالث (نورا) فيتشكل لتلك المرأة/النموذج بفعل عمليات الارتداد والتذكر فاعلية أكبر، وديمومة وجود ملازم، فتغادر ماديتها وتلتحم بالفكرة والمثال والجوهر العميق للشعر، من خلال توجيه النظر إلى جزئيات، تتجلى- في حدود منطق النص الشعري- بوصفها منطلقات أساسية للشعرية، مثل مقاربته وشعوره بجروح الناس، والنائمين المشردين على الرصيف والجائعين.
تأتي الثيمة الأخيرة في ثيمة الثورة، بداية من الإحساس بالميلاد الجديد في تولّدها وانتهاء بالاغتراب الروحي الذي يرافق نهايتها. ففي نص (ماذا ينقصني؟) يؤسس النص توازيا بين البشر والطير والحياة في مقابل الكاذبين والأفاكين والأضرحة، فالثورة تأتي من خلال طائر حرّ لم يستجب لقول الكاذبين عن الحرية واستحالة وجودها. وإقامة التبدلات أو الإحالات بين الطير والبشر له وجود لافت في تلقي النص، خاصة أن الطيور في كثير من الخرافات والأساطير تقع في مساحة وسطى بين البشر والعوالم الإلهية وفوق الطبيعية، ففي قصص الخلق القديمة هناك إشارة إلى أنه بعد انتهاء العماء كان الإله الأول، وقد ظهر على هيئة طائر.
وفي ظل هذه العودة إلى الأساطير القديمة تتجلى الثورة بوصفها بداية جديدة، واستعادة للحرية التي كانت وستظل حلما يحاول البشر الوصول إلى تحقيقه. فالثورة في النص قيامة وميلاد، تتجلى في الابتعاد عن خطاب (الكاذبين) و(الأفاكين)، ويضاف إليهما روائح الموتى للإشارة إلى الماضي، فكلها دوال تعبر عن الموت في ظل منطق الثورة. فالطير/ الثورة/ الشعب يبحث عن بداية جديدة، بداية موازية لأساطير الخلق الأولى، يقول النص الشعري (كان الطير/ يحاول أن يفرد ضحكته في وجه الشمس- يتقلّد زي نبي- يمشي في خيلاء- ويرقص … – هل ينقصني شيء لأكون إلها- فأنا ابن الحرية).
فاعلية الغياب والمبالغة التهكمية
في الديوان استناد إلى آليات فنية لتأسيس وبناء الشعرية، ولعل أهمها يتمثل في حضور الغياب في نصوص كثيرة ليمارس دوره في تجلية المراقبة والتمثيل بعيدا عن صوت الذات الذي لا يتجلى في ظل الغياب بشكل مباشر، وإنما من خلال التسرب الذي يشعر به المتلقي داخل هيمنة الغياب. في نص (في منتصف الليل) هناك وجهان لا يتجليان إلا في ظل هيمنة ضمير الغائب في كشفه عن وجهين: الأول منهما الوجه الذي يلصقه في فترة العمل، كأنه قناع مصنوع، ويرتبط بالوسامة والذكاء وفق محددات السياق والتواصل النمطي داخل إطار ما. وإلصاق هذا الوجه أو القناع يغيّب الذاتي والفردي من خلال هذ التسييج المصنوع.
ولكن تقنية الغياب تفتح الباب لهذا الوجه المتواري الكاشف عن حرية الفعل، دون محددات سابقة التجهيز، وهي أفعال تبدأ من تطويح الساعة والبذلة، مرورا بجريه في منتصف الشارع، وانتهاء بخطبته في البار عن الدين أو القهوة أو الخونة أو الأزياء. ولكن دال الموت الذي يتكرر مع الأقسام الثلاثة الموزعة السابقة ينقلنا من الغربة المكانية إلى الغربة الوجودية المحسومة بالنقصان والنهاية. فأفعال الحرية الذاتية التي تأتي ضد الآلية التي يفرق منها، لم تفلح في زحزحة الاغتراب المكاني، بل أحالته إلى غربة وجودية أشد وطأة وتأثيرا.
ونصوص محمد البديوي معظمها نصوص قصيرة، لا مساحة فيها للفائض اللفظي، وهناك نصوص كثيرة تنتهج عملية التصفية اللفظية، فلا يتبقى إلا ألفاظ في موضعها، فالقصر آلية وعي بحدود القصيدة في بنيتها المكتنزة، وهي غالبا بنية محددة بإطار فكري وحيد، في رصدها لحالة أو لفعل أو لحدث للسارد في لحظة من لحظات المراقبة والمساءلة. ففي النص السابق لا حضور للذات بشكل مباشر، ولكنْ هناك حضور للذات في موضع الرصد، وليس هناك أصدق من أن تقدم الذات مقاربة لنفسها، وهي منفصلة عنها. وهذا يتيح الفرصة للوجه المتواري غير الرسمي أن يتجلى كاشفا عن حريته بعيدا عن الوجه الملصق الذي تضعه الذات اتساقا مع سياق عام، أو ارتباطا بآلية مهيمنة تفرض أطرها على الجميع.
استخدام ضمير الغياب في النص الشعري يكشف عن الجانب المقموع، ويعرّي المخبوء الباطني المترسب الذي لا يظهر بسهولة، وهذا مباين لاستخدام ضمير المخاطب ضميرا ساردا في نصوص أخرى. فالخطاب الشعري في نصه (البيت يضيق عليك) ليس خطاب تعرية أو كشف أو انفصال كما رأينا في سرد الغياب، وإنما خطاب توحّد ومشاركة، وكأن ضمير المخاطب- نظرا لوجود مخاطبة الذات- يوجد نوعا من المشاركة. النص يمكن تلقيه في إطار مساحة الاغتراب جهيرة الوجود في الديوان. ففي بداية النص هناك استناد إلى الذكرى، ليس بوصفها عودة للماضي، ولكن بوصفها أداة من أدوات الاستقواء.
يستوجب هطول هذه الذكرى أشياء كاشفة لا تثبت أمام مواجهة الاغتراب، خاصة إذا كان النص يكشف عن حجم الاغتراب في مقابل أدوات التخلص منها مثل (السيف النحيف جدا)، و(الثوب المثقوب)، ومن ثم تأتي العودة إلى الذاكرة، ومن خلال الأفعال المحددة التي تتجمع بالرغم من الفجوات الزمنية، مثل تزويق الساحة أو إطعام الفقراء أو نثر الحب للطير يبدأ فعل الاستقواء، ولكنها أيضا لا تفلح في مسح شعور الاغتراب، فالذاكرة في منطق النص ليست جراب الحاوي. فضمير الخطاب هنا يؤسس لفعل المشاركة والتوحد نحو مقاومة الإحساس بالغربة.
ثمة آلية تلجأ إليها بعض النصوص الشعرية، خاصة حين يتعلق الأمر بنسق السلطة التي تتعاظم على محدوديتها البشرية، فلا يتوجه النص الشعري نحو الانتقاص منها بشكل مباشر، وإنما يتوجه نحو إطار تعظيمي أكثر من المتوقع وأكثر من المعهود، فالنص لا يستند إلى نفي هذا التعاظم في فعل الانتقاص والتشويه، وإنما يستند إلى فعل التعظيم المبالغ فيه، بشكل يفوق ما تتوقعه السلطة، وتهفو إليه، فكل الصور غير المنطقية، وغير المعقولة تمارس دورها في إضفاء نوع من السخرية والتهكم اللذين يتسربان تدريجيا إلى النص الشعري.
ولكن آلية السخرية والانتقاص المرتبط بالمبالغة، تستوجب فضاء بنائيا يؤسس وجودها، من خلال الصور المقابلة التي تتوازى مع هذا التعظيم، فحين يقول الشاعر (في عيد ميلادك المجيد يا مولاي-آسف عيدنا المجيد- يصمت الشعر والشجر-يتسلل العشّاق إلى أوكارهم بلا روح- فالحنين كله وجهك الكريم) ندرك أن هذا التصوير المبالغ فيه يتشكل داخله ملمح انتقاصي، لأنه علو وارتفاع يتأسس في حضور صور كاشفة عن الموت، في كل من الصمت، وغياب روح العشّاق، وفقد الكلمات لفاعليتها. يتأسس هذا الملمح الانتقاصي والتشويه بالرغم من التعظيم المبالغ فيه في نهاية النص في قوله (أما البحر فيتشكل على هيئة معبد- أرواح الموتى تتشكل- في خضوع- صورة لوجهك الكريم- الذي لا يمسسه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
ومن التوجه الخاص بالسطر الأخير، يتشكل ملمح القداسة المبالغ فيه، وذلك من خلال إسدال صفات الإله على صاحب أية سلطة، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في نص (لماذا؟)، ففي هذا النص ثمة محاولة لإحداث زحزحة وتشكيل مساحة كبرى من التداخل بين الخطاب المقدس والخطاب الشعري، تحيل صاحب السلطة أو الحاكم من خلال هذه الزحزحة إلى شبيه بالإله، ويتحول الشعب إلى عبيد، من خلال ألفاظ مثل السعي والهرولة والركوع والسجود، والتقرب شبرا فباعا، والذكر في ملأ. فهي نصوص تستقوي بالمبالغة للوصول إلى الانتقاص والتهكم والتشويه.
في نصوص أخرى من الديوان نجد أن هناك انفتاحا على العجائبي والغريب، ففي بعض النصوص – بالرغم من بساطة التركيب الشعري- هناك صور وثيقة الصلة بالعوالم السريالية، تقتضي وقفة طويلة من المتلقي لتأملها وتأويلها. فقصيدة (إلى الفراغ)- بالرغم من تقسيمها التركيبي المنظّم من الجزئي إلى الكلي بداية من النافذة إلى الغرفة وانتهاء بالشقة مع إثبات ياء الملكية للأخيرة- يكشف بناؤها الشعري عن رؤى كابوسية، فالنافذة في سقوطها على المارين تحدثهم عن العفن والبومة النائمة والأصوات البذيئة والنساء السكارى. وفي قفزة الغرفة إلى الشقة المجاورة هناك كشف عن غياب طفلة، وحضور لعنة تأكل العيون.
وينفتح التأويل ويتعدد لدلالة الطفلة التي تتأسس لها دلالة إيجابية، خاصة في مقابل ظواهر لعنتها المرتبطة بصور سلبية، من خلال الماء الذي يفيض من دورات المياه، ويلعقه البشر. وتأتي القفزة الأخيرة (تقفز شقتي) لتؤسس تمددا للعنة السلبية السابقة من خلال صورة تلتحم بالعجائبي والسريالي، في تحذيرها من العصائر المعلبة التي تأتي من رجل لم يستحم من عام. قد يرى بعض القراء في النص أبعادا أكبر من البعد الذاتي الفردي، ولكنّ هناك ألفاظا تحتم وتؤكد مشروعية التلقي القائم على معاينة الاغتراب الذاتي، وذلك من خلال السطر الأخير (يقفز قلبي إلى الفراغ)، بالإضافة إلى التوازي أو التناظر بين الجزئي والكتلة الكلية، المرتبطة بياء المتكلم، وتكرار (اللعينة)، و(اللعنة) التي تركتها الطفلة، والتقابل بين القفزات الثلاث التي تشكل الإطار المحيط بالذات والقفزة الأخيرة إلى الفراغ بوصفها ردة فعل الذات لمجابهة هذا الفراغ المطبق، يدلل على ذلك أن النافذة والشباك في هذا الديوان لها وظيفة انفتاح على الداخل، وليس إلى الخارج، ففي نص (موسيقى يعزفها معتقلون) يقول (شباكك مفتوح داخل صدرك).
وهذه الصورة- أي النافذة التي تنفتح على الداخل- تدفعنا إلى تأمل بعض الصور اللافتة في نصوص الديوان خاصة الصور العديدة للموت، وللقبو المصنوع للذات، ففي نصه (لأن الموت يسكنني)، هناك اشتغال على الفكرة الدارجة الخاصة بمرافقة الموت للإنسان بداية من لحظة مولده. ولكن الشاعر قدمها في إطار قائم على التوازي بين سياقين بينهما الكثير من المناورة، سياق يتحرك نحو النقصان، وسياق يتحرّك نحو الاكتمال، يقول النص (كأن الموت يكبر كل يوم-سوف يكبر كل يوم- سوف ينفش ريشه- ويعيد ترتيب الملامح- لأن الموت يلعب- سوف يكسر ها هنا جسدا- ويقصف ها هنا).
وفي صور أخرى نجد النص الشعري يستند إلى بساطة تركيبية في تأسيس وبناء صوره، ولكن هذه البساطة لا تنفي أن يكون هناك دلالات معرفية كثيرة تتولّد من هذه البساطة، خاصة إذا كانت الصورة اللافتة تعتمد في أحيان ليست قليلة على المفارقة التي تجعلنا نعيد تأمل النص وفق منطق علاقات جديدة، يتباين مع ما قدمته السطور الأولى الكاشفة والموجهة لصناعة المفارقة، فحين يقول النص الشعري (وحيد بما فيه الكفاية) (لم أعان بما يكفي في طفولتي- كل ما في الأمر- أن القسوة صنعت من جلدي حذاء- وأن البيوت القديمة طبعت خشونتها في الحلق- وأن الشياطين التي عاشت على سقف غرفتي- ما زالت تزورني في الغربة)، ندرك أن المفارقة تؤسس علاقات جديدة، تتعاظم وتتجاوز النفي الذي ورد في السطر الأول، فالمفارقة هنا تؤسس ببساطتها تلقيا لا يبنى وفق معطيات حسية، ولكن وفق معطيات باطنية ترتبط بالإطار الفكري الأساسي الذي يؤسس وجوده المتواري والفاقع في كل نصوص الديوان.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!