الرواية العراقية بعد العام 2003 (العنف كمحرك للواقع الخيالي) / بقلم : محمد حيّاوي

يتأثر الأدب عموماً بحركة التاريخ، والمجتمعات الخاملة الخالية من التناقضات هي مجتمعات غير روائية، وحيث تجد الطبقية والتنوع العرقي والصراعات في المجتمعات تجد الرواية، أنظر إلى أدب أميركا اللاتينية على سبيل المثال، لكن الأدب بطبعه متأن ويلزمه تخمير الأحداث والتناقضات في وجدانه، وربما الرواية أسرع أجناس الأدب هضماً وتمحيصاً وقدرة على استلهام الأحداث الكبيرة والمتغيرات الاجتماعية.

 

يعتقد إمبرتو إيكو بأن ثمّة وفرةً من الروايات المكرسةِ للحبّ وأن الوقت قد حان لشرحِ الكراهية، التي هي شعورٌ منتشرٌ أكثر من الحب (وإلا ما كان هناكَ حروبٌ أو جرائم أو سلوكٌ عنصري). الحب علاقةٌ انتقائية (أنا أحبك وأنت تحبني وبقيةُ العالم مستثنىً من هذا الشعور)، في حين أن الكراهية عامة، اجتماعية: يمكن لجماعةٍ من الناس أن تكره أخرى، لذلك يطلبُ الدكتاتوريون من أتباعهم الكراهية (لا الحُب)، ليحفظوا شملهم.

 

لقد قُدر للرواية العراقية الجديدة استلهام المتغير الكبير الذي حدث في اعقاب الاحتلال الأمريكي وما نتج عنه من هزات ارتدادية عميقة في المجتمع العراقي، بعد ان ازدادت تجربتها ونضجت أدواتها الفنية اثناء العقدين الماضيين، لكن تبقى التجارب الأكثر إيغالاً في استلهام حالة العنف في الرواية العراقية ما بعد العام 2003 محدودة، على الرغم من أنّها تحاول تأسيس واقعية جديدة تستند إلى الواقع العراقي في زمن العنف، أو ما يشبه الواقعية الفانتازية التي تحاول ان تُعبر عن تعقيدات الحالة العراقية، بعد أن أصبح العنف ـ الموت ـ نسقاً مهيمناً في التعبير عن ازمة الإنسان العراقي، وفضاءً دلالياً للشروخ الدينية والنفسية والسياسية، لتتحول الرواية العراقية ما بعد العام 2003 إلى سردية موجعة للتعبير عن الذات العراقية المسحوقة بالعنف والأسى والخوف من المستقبل المجهول.

وانطلاقاً من هذا التأسيس نجحت الكثير من الروايات في استجلاء الأوضاع والصراعات النفسية وانعكاساتها على العلاقات الاجتماعية من دون السقوط بالتقريرية واللغة المباشرة ووصف تقطيع الرؤوس والتمثيل بالجثث وغيرها من الصور التي اصبحت ملازمة للواقع، بينما ابتكرت روايات أخرى أشكالاً تتناسق وموضوعة العنف والاضطهاد الديني والخطف والقتل على الهوية.

لقد تحول الموت إلى فضاء دلالي ومركز ثقل السرد الفجائعي نتيجة للانكسار النفسي، لقد جعل هذا التحول من الرواية العراقية الجديدة المكتوبة بعد العام 2003 رواية حرب من دون وعي منها أو من الروائي ذاته.

لقد تحولت ثيمة العنف في الرواية العراقية الجديدة إلى لازمة سردية تحتل الجسد السردي كلهتقريباً، بعد ان اندحرت موضوعات الحب التي امتزجت بدورها في الثيمات الرئيسة للرواية واًصبحت النسيج الذي يشدّها، وهي في الغالب مستندة إلى الواقع العراقي الجديد الذي يتجاوز الخيال في تفصيلاته المحيّرة.

يقول الكاتب راي براد بيري “أكتب عما تعرفه” واضعاً بواسطة هذه الكلمات الثلاث، قاعدة صارمة للكتابة من وجهة نظره، وما عرفناه ـ كجيل من الكتّاب ـ هو العنف والموت والتشرّد، منذ امتلكنا  وعينا الأدبي. فمن حرب إلى حرب، ومن حصار إلى حصار، ومن تشرد في المنافي إلى تشردٍ امتدت تجربتنا المؤلمة.

وفي المحصلة لا نستطيع، بأي حال من الأحوال، فصل العنف كمحرّك للفعل المخيلاتي عن الرواية العراقية، لاسيما تلك التي كُتبت بعد العام 2003، حتّى تحولت إلى سمة شبه ثابتة لها، وبما أن الرواية هي مرآة عاكسة لمجتمعها، ومعادل موضوعي له، أو هكذا يصفها البعض على الأقل، فلا يمكن لها الابتعاد عن هذا الواقع ـ الخيالي ـأو الانفصال عنه. سوى أنّنا لا نستطيع وضع جميع ما كتب من روايات بعد العام 2003 في سلّة واحدة، والتجارب التي تتطابق مع هذا التوصيف أعلاه تبقى محدودة للغاية، لكنّها مهمة ومؤثرة ومُؤسسة لموجة روائية جديدة في المستقبل.

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!