العلاقات الدلالية في قصيدة طالت ليلتي للشاعرة السورية لياس زرزور

بقلم الناقد: سعيد محتال المغرب

الغاية من الدراسة هو إبراز الوظائف الأساسية التي من شأنها توضيح وتمييز العلاقات والأدوار الدلالية بين المقاطع المتعددة والمتنوعة شكلا، المكونة للقصيدة بالكامل دون الخوض في التفاصيل الجزئية الدقيقة .
فالعلاقات الدلالية كما هو معلوم لها دور كبير في تماسك النص وانسجام وحداته (1)
ونحن هنا لسنا في البحث عن علاقة الكلمة مع غيرها من الكلمات كما خاضت في ذلك لسانيات النص خلال القرن العشرين، والتي وظفت العديد من العلاقات الدلالية للربط بين المفاهيم التي من شأنها الكشف عن انسجام النص بين جمله وفقراته، متجاوزة بذلك لسانيات الجملة للوصول الى رحابة النص وشساعة فضاءاته، للوقوف على دلالة النصوص والبنية التي تحكمها. فكانت لسانيات النص تركز اهتمامها في البحث عن تماسك النص من خلال تتبع الروابط والادوات التي تساهم في بناء النص، ولكن نود أن نسلك أيضا طريق المفسرين والبلاغيين الذين سعوا الى كشف الانسجام بين آيات وسور القرآن الكريم، ليس فقط بين الجمل ولكن بين المقاطع كما هو واضح من خلال مجهودات جلال الدين السيوطي المتجلية في كتابه ” تناسق الدرر في تناسب السور” معتمدا على كشف التماسك والترابط الدلالي بين النصوص القرآنية، بمعنى آخر سنسلك طريق الكشف عن العلاقات القائمة بين مقاطع النص متعددة القوافي التي شكلت في النهاية وشاحا شعريا فنيا (2) .
والذي جعلنا نسلك هذا الطريق هو الكيفية التي كتبت بها الشاعرة قصيدة طالت ليلتي.. حيث سلكت في ذلك طريقة كتابة الموشحات الأندلسية، مع الحفاظ على روح القصيدة العربية القديمة من خلال استعمال أحد بحورها الشهيرة ألا وهو بحر الرمل.
وقد حاولت الشاعرة معارضة موشح ابن الخطيب جادك الغيث . ولسان الدين بن الخطيب في قصيدته حاول ان يبرز حنينه لتلك الأزمان والأيام التي قضاها في غرناطة ” زمان الوصل، متحسرا على مرورها بسرعة..
أصل كلمة الموشحات:
كلمة موشح أو الموشحة مشتقة من الوشاح، وهي كما يقول صاحب لسان العرب نقلاً عن الجوهري في صحاحه: ” حلية ذات خيطين يسلك في أحدهما اللؤلؤ، وفي الآخر الجوهر، أو هو جلد عريض مرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها”. والثوب الموشح هو الثوب المزين.
فالفكرة إذن هي فكرة التجميل المنوع المعتمد على التقابل، من خلال تعدد القوافي والأوزان، دون الإخلال بالإيقاع العام للقصيدة.
وهذا ما لمسناه بشكل ملحوظ في قصيدة ” ليلتي طالت ” للشاعرة السورية ليلاس زرزور
سارت على خطى الشاعر العربي القديم، إذ لم تكن الشاعرة في حاجة الى إرهاق نفسها باختيار عنوان للنص، بل تمت تسمية القصيدة بمطلعها على غرار الاولين، وهذا النوع من العناوين قد لا يعطي للقارئ انطباعا كليا وفكرة عامة عن مضمونها عكس القصيدة العربية الحديثة التي أولت للعنوان اهتماما خاصا.
لكن هذا لا يمنع من خوض بعض القول في تفاصيله، مادام يوحي لنا ببعض الدلالات العامة للنص.
العنوان يحمل طابع الشوق زمانيا من خلال استعمال فعل طال زمن الماضي الذي ألم بنفسية الشاعرة من خلال إضافة ياء المتكلم للفاعل ليلة ، هذا ما يدفعنا الى تساؤل عن سبب طولها ، ومن وراء ذلك .
اللَيْلَة اسم مؤنث مذكره لَيْل يجمع جمع تكسير غير قياسي على لَيَالِ.

يطلق الليل على الزمن، يقولون: هو ضد النهار وخلافه اليوم بمعنى النَهَار. وهذا التفسير عند جل أهل اللغة، وقد اتفقوا مع أهل الفقه في وقت الابتداء وهو غروب الشمس، لكن وقع الاختلاف في تحديد مدة انتهاء الليل، أهو طلوع الشمس أم الفجر الصادق
جاء الليل في القرآن الكريم بمعناه اللغوي الذي: هو ما يعقب النهار من الظلام؛ من غروب الشمس إلى طلوعها أو إلى طلوع الفجر. (3).
وغالبا ما تأتي كلمة ليل نكرة في القرآن الكريم ، فهي غير معينة وغير محددة ،
” سبحان الذي أسرى بعبده ليلا” ، فقد يقصد بها التقليل ( جزء من الليل) وإن اتت كلمة الليل معرفة فهي تدل على التمام والزمن المخصص لليل.
عكس كلمة ليلة، التي أتت دائما مخصصة ومعينة رغم أنها نكرة، لكنها عرفت بالاضافة..
ليلة مباركة [ الدخان / 03]،
ليلة القدر [القدر/1]،
ثلاثين ليلة [الأعراف/142]،
وليال عشر [الفجر/1 – 2]،
ثلاث ليال سويا [مريم/10].
فعندما تقول الشاعرة ليلتي فهي مخصصة أضيفت إلى ياء المتكلم، إذ تتحدث عن ليلة كاملة محددة بل أسندتها إلى فعل ماض طال للدلالة على الاستمرارية والامتداد، رغم انها ليلة واحدة لكنها كانت ليلة استثنائية:

ليلَتي طالتْ على جَمْرِ النَوى
ليتَكَ الآنَ مَعي يامُـؤنسي

غابَ نَجـمُ الليلِ والقلبُ اكتَوى
فأضاءَتْ نارُ شَوقٍ مَجْلسي

طال انتظار الشاعرة حتى اكتوى قلبها بنار البعد والفراق في الوقت الذي نجد فيه مَن مِن شأنه أن يؤنس وحدتها وينسيها جفاء البعد قد تمادى غيابه، مستعملة الفعل الناقص ليت الذي من دلالاته استحالة تحقق الفعل المطلوب، مستعينة بياء النداء على البعيد ( يا مؤنسي ) الغائب عن انظارها : غاب نجم الليل ، مما تسبب في امتداد زمن الليلة الطويلة والتي زادت القلب احتراقا وتمزقا، فكان مصيرها أن عوضت هذا الغياب غير المبرر الاستضاءة بنار الشوق ، والمكان صار معلوما ( مجلسي) فالأمر يخص أقرب الناس إلى قلبها ( مؤنسي )( الحبيب) كما هو مذكور في النص، دون ان تحدثنا عن سبب البعد والفراق أهو جفاء أم شيء آخر طالغربة مثلا، حتى إن الوصال بات مستحيلا ( ليت )، مما زاد من معاناة الأسى وكثرة الشوق.
الإنسان بطبعه كائن اجتماعي فهو بحاجة إلى الاتصال مع غيره، وإلى من يؤنسه.
المقطع بالكامل يبين الحالة النفسية التي تعيشها الشاعرة، سيطرة أفعال الماضي، ألم البعد والفراق، حرقة الحنين والرغبة في الوصال.
وهذا ما يظهر من خلال علاقة التضاد الواردة في مطلع النص، فالعلاقات الضدية واضحة بين زمن مضىى، وزمن حاضر: يامؤنسي، فالنداء كما هو معلوم طلب الإقبال
وزمن كله حرقة وحسرة على الفراق
طال الليل / قصر النهار
المؤنس / الوحدة
غاب نجم / اضاءت النار
ياء التكلم / كاف المخاطب
جاءت على شكل تقابلات جعلت من نار الشوق تزداد اشتعالا،
وتستمر الشاعرة في استخضار الحديث عن الليلة المعلومة التي طال ترقبها, لتظهر اكثر تجليا ووضوحا، فالذي زاد الجراح والمعاناة هو قدوم ليلة العيد:

ليلَةُ العيدِ يُحَلّيها اللِّقا
فَتعالَ اليومَ فيها نَسْهَرُ

وَسَيَغدو الليلُ فينا مُشْرِقا
فأنا الشَمسُ وأنتَ القَمَرُ

بينَ قَلبينا اشتياقٌ نَطَقا
وَدَعانا في الهَوى ننْصَهِرُ

تخصيص الليلة بليلة العيد مع الغياب والفراق سيزيد من حدة الالم والتوتر، فالذي يجعل ليلة العيد تمر بسلام هو اللقاء بين الأهل والاحباب، وهو الذي يعطي للعيد طعم الاحتفاء والفرح ، الشيء الذي دفع الشاعرة ان تطلب من مؤنسها القدوم يوم العيد مستعملة فعل الامر ، من باب طلب فعل القدوم حتى يكون للسهر معنى ، ويجعل الليل مشرقا مضاء بنوريهما، مما ولد معان وصور شعرية ذات علاقة التلازم، يكمل كل منهما الآخر:
تعال نسهر
الليل فينا
انا الشمس وأنت القمر
بين قلبينا
ننصهر
فالتقابلات تحولت فجأة إلى اندماج وانصهار :
لقاء فسهر فانصهار الرابط بين الجميع هو النون الدالة على الجماعة، بدل الحديث عن الذات كما في السابق، فالشاعرة ومؤنسها المنتظر يشكلان وحدة متلازمة يكمل كل طرف الآخر، كما أنهما لا ينفكان عن بعضهما البعض، إذا ذهب هذا جاء الآخر والعكس كذلك، ما دام الشوق يملأ قلبيهما معا، فكل واحد مشتاق للآخر.
ومع كون العلاقة بينهما علاقة أنس فالتلازم بينهما من حيث التتابع والتعاقب ( أنا الشمس وأنت القمر)، فهل اختيار هذين اللفظين جاء من باب الانتساب النوعي بحكم الشاعرة انثى والمؤنس ذكر ، أم في ذلك نوع من الأفضلية والأولوية بحكم للشمس فضل على القمر !؟.،
كما أن الشمس يأتي معها النهار ، والقمر يأتي معه الليل. فيكون ذلك بسبب انفصال وتباعد مؤقت فرضته ظروف معينة.
كما يبقى سبب الابتعاد مجهولا لحد الساعة، ومسكوتا عنه

نحنُ في الحُبِّ على حَـدٍّ سَوا
هالَةَ النُورِ كلانا نَكتَسي

ذابتِ الرُوحُ وَقلبي قد ذَوى
فأعِدْها ياحَياةَ الأنفُسِ

عودة الى الإيقاع الصوتي بنفس العروض والضرب الواردين في المقطع الاول، لكن هذه المرة استعملت الشاعرة ضمير المتكلم نحن بدل ضمير المتكلم أنا، لتوضح لنا أن كليهما أي الشاعرة ومن تراه ممكنا ان يؤنس وحدتها، ويعيد إليها بسمتها في علاقة حب تجمع بين الطرفين ومنذ امد بعيد.
كما استعملت كلمة النور هنا وهي من الألفاظ المقابلة للفظة الظلام، فالنور عكس الظلمة، وأتي به هنا من باب التذكير ان الظلمة التي حلت بها الليلة والتي أضاءتها بكثافة نار الشوق ما هي إلا فترة قصيرة وستزول إذا ما استجاب الحبيب إلى طلبها، فاستمرارية الحب وعدم ذبوله رهين بعودة العلاقة كما كانت سابقا، وقد لعب النداء دورا كبيرا في لمّ فقرات النص، فلم يعد الحبيب مجرد مؤنس ( يا حياة الأنفس) ، بل هو حياتها وعمرها، وهذا ما ستستحضره الشاعرة في المقطع الجديد وبإيقاع يحمل معه الجديد:

لكَ زَهْـرُ الرَوضِ غَنّى وانحنى
يامَلاكي ياحَياتي يا أنا

ليتَني ألقاكَ ياكُلَّ المُنى
ليزولَ الوَجْـدُ منّي وَالعَنا

لو خَيالٌ منكَ ياعُمري دَنا
يملأُ الرُوحَ سُروراً وَسَنا

المكان على استعداد تام لاستقبال المؤنس حتى لا يشعر بالضجر استحضار جميل لمجموعة من النصوص التي تتناص مع هذا الشطر الذي فاح عطرا وجمالا ، منها على سبيل المثال لا الحصر
فاح زهر الروض فاشتاق الهزار لابن سهل الأندلسي
زهرُ الروض بنتُ دمعِ الغمام لابن هانئ الأندلسي
تصوير شعري بديع لزهر الروض الذي ابدى سعادته وتواضعه لاستقبال الحبيب ( لكَ زَهْـرُ الرَوضِ غَنّى وانحنى )
مع إعادة تكرار اسلوب النداء لأكثر من مرة بل على طول النص والمنادى هو نفسه ولكن بصفات ودلالات مختلفة :
يا مؤنسي
ياحَياةَ الأنفُسِ
يامَلاكي
ياحَياتي
يا أنا
عرف العلماء أسلوب النداء بأنه أسلوب لغوي بلاغيّ في اللغة العربية يهدف منه المتكلم إلى طلب إقبال المنادى أو جذب انتباهه عن طريق مناداته باسمه أو بصفة من صفاته، أو استدعائه لأمر أو طلب ما، والهدف من استخدامه هو جذب انتباه الشخص المنادي أو طلب جوابه
وتعتبر ” يا النداء ” الأداة الأشمل والأعم من باقي الأدوات الأخرى، إذ تستخدم لنداء البعيد حقيقة أو حكماً ، وقد ينادى بها القريب توكيداً ” ( 4).

كما يستخدم أسلوب النداء للدلالة على مكانة المنادى الرفيعة، و للتمني في كثير من الأحيان،
فمكانة المخاطب بادية للعيان فهو ليس بمؤنس فقط بل هو القلب النابض الذي يحرك مشاعر الشاعرة وأحاسيسها، إذ لا فرق بينه وبينها ( يا أنا ) وقد تحدثنا سابقا عن الذوبان والانصهار الحاصل بينهما.
وبذلك استطاعت الشاعرة ان تجلب مسامع المتلقي حتى لا يظن أن الامر مجرد تمن بل بدونه لا معنى للحياة ..
لذا يتبين لنا أن التكرار ليس مجرد ترديد لكلمة معينة ، أو لعبارة ما ، إنما هو وسيلة لغوية تنبض بإحساس الشاعرة المتجدد وعاطفتها المتدفقة كل حين، لا يشغل بالها سوى اللقاء المرتقب قبل انقضاء الظلام ؛ حيث يرتبط التكرار بالحالة الشعورية الملحة على الشاعرة قبل أن يرتبط بأي غرض آخر، كما يبرز مدى تعلق الشاعرة بمن تناديه طول الوقت دون ملل أو كلل
، فالشاعرة كررت الصيغة الندائية ( يا ) عدة مرات وستجدد إعادته لمرات أخرى الشيء الذي يجعل المنادى المحور الاساسي الذي يتولد منه معاني النصمن بدايته الى منتهاه..
ومن هنا فإن أداة النداء ( يا) اصبحت الأداة الفاعلة في ضم مقاطع النص وتوحيد معانيها ، وفي نفس الوقت الاداة التي تقرب او تبعد المخاطب عن الشاعرة ..
مما يشير الى أهمية المنادى واستحواذه على بؤرة تفكير الشاعرة وتعلقها به ، فقد ترك ذلك في نفسية الشاعرة أثراً بالغاً..
ﺍﻟﺘﻮﻛﻴﺪ بالنداء فيه إﻟﺤﺎﺡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ، وﺇﺑﺮﺍﺯ اﻫﻤﻴﺔ المخاطب من حيث المعنى.
أما من حيث ﺍﻟﻤﺒﻨﻰ فقد ساهم في ﺍﻟﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﻓﻘﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﺺ، كما ساهم في تثبيت إيقاعه الداخلي ، مما يشعر الأذن بالانسجام والتوافق والقبول (5).
لتعود بنا الشاعرة ثانية إلى الحديث عن ليلتها التي طال زمانها، حتى الليل نفسه فقد صبره من شدة الانتظار، يشخص بذلك الجو العام الذي يسيطر على المكان ، كله ظلام ولا أثر لأي طيف :

ذَهَبَ الليلُ كَصَبري وانطَوى
دُونَ طَيفٍ قادمٍ في الغَلَسِ

وَعلى فَقْدِكَ والبُعْـدِ انزَوى
غُصْنُ عُمْـري شاكياً من يَبَسِ

مما خيم جو الشكوى والظلمة على المقطع، موظفة كلمات عميقة عمق جرحها، أضافت عليها لمسة الجناس الناقص لتبين من خلال ذلك الحالة النفسية والمعنوية التي تمر بها هذه الليلة : ( انطوى – انزوى ) ( الغلس – اليبس)
دون ان ننسى التنبيه الى التشخيص الجيد من خلال صور شعرية بديعة( ذهب الليل) ( انطوى الليل) ( … طيف قادم ) ( انزوى البعد) ( غصن العمر) نلاحظ كيف ان الازمنة والامكنة تأثرت بفقد الحبيب..، تخفي الشاعرة من وراء ذلك عتابها الضمني، وهذا نتج عنه إيقاع صوتي يتماشى مع النواح والبكاء، مستعلمة اساليب إنشائية جديدة من تعجب وندبة، بدل النداء لتبين لنا ما فعل الشوق بقلبها :

مالقَلبي كُلّما ناحَ الحَمامْ
أوقَدَ الشوقَ بمِحْراب الضُلوعْ

كيفَ بَدرُ الليلِ يَخْفيهِ الغَمامْ
عنْ عُيوني وَهْيَ غَرقى بالدُموعْ

يالَرُوحي من تَباريح السِقامْ
قد أُذيبَتْ في النَوى ذَوبَ الشُموعْ

وهذا لم يمنعها من الاسترسال في توظيف أساليب بلاغية كما السابق خصوصا جناس ناقص ( حمام – غمام – سقام ) ( عيون – دموع – شموع – ضلوع ) وكناية وتسخيص، ففي الوقت الذي كانت في السابق تنادي علانية على الحبيب نجدها أمام هذا الجو المشحون بالعيون الغرقى في بحر الدموع تلوم من كان وراء اختفائه عن انظارها، وسبب كل هذا الجراح.

قربيَ الماءُ وقَلبي ماارتوى
فَبَكتْ حالي عُيونُ النَرجسِ

كَمُريدِ الشَمسِ مانالَ سوى
في المَرايا ضَوءَها المُنعَكِسِ

عودة مرة أخرى قلبها اليبس،
فلا شيء يروي ضمأ عشقها، او يعوضها نقص الحبيب،
أنسنة زهرة النرجس في هذه اللحظة، وبكاؤها لحال الشاعرة جد مناسب مع سياق الكلام، يتناص مع الاسطورة اليونانية نركسوس ابن سيليسيوس، الذي تمكن العشق في النهاية من قلبه ، فقد كانت صورة حبيبته لا تفارق خياله كلما اقترب من البركة، وبسبب ذلك سيتحول إلى زهرة النرجس بعد موته حين قفز في نافورة رأى فيها انعكاس صورة ظنها حبيبته ليذوق بذلك ألم تجاهل مشاعر الآخرين (6)، غير ان الشاعرة وظفت الاسطورة بعيدا عن نرجسية نركسوس، لذا استعملت الشمس كرمز بديل للبركة لزيادة تعميق أثر الجرح وألم البعد اللذين عانت منهما إيكو بسبب فرط حبها لنركسوس، حتى ماتت من شدة السقم والألم.

لكَ قلبي طارَ من بينِ الحَشا
حينَ جالَ الشوقُ بينَ الأضلُعِ

فانتَهى عندَكَ والنبضُ انتَشى
فَسرُوري إنْ تَكُنْ أنتَ مَعي

كمْ كَتَمتُ العشقَ لكنْ قد وَشى
جَفنُ عَيني بمَسيلِ الأدْمُعِ

من فرط الشوق طار قلب الشاعرة وحلق بعيدا تاركا جسدها عرضة للضياع ( سيطرة افعال الماضي: طار- جال- انتهى- انتشى كتم- وشى ) ، حضور الجناس الناقص بكثافة أيضا، حالة من عدم الاستقرار : طار – جال ، تفكير الشاعرة دائما منشغل بالآخر( فَسرُوري إنْ تَكُنْ أنتَ مَعي).
ضمير المتكلم حاضر بقوة خلال كل المقاطع
(تاء المتكلم، ياء المتكلم، أنا، نحن، “نا” ..)،
الشيء الذي يؤكد على تمركز القصيدة حول الذات والتي تعددت دلالات حضورها بين اعتزاز وافتخار وتأنيب للضمير ، الشيء الذي أعطى لدلالات النص تعددا فنيا ونفسيا من خلال اتحاد تارة وانفصال تارة أخرى:

وأنا أزجُرُ قلباً ماارعَوى
صَهلَ الشوقُ بهِ كالفَرَسِ

كُلّما أشكو تباريحَ الجَوى
قالَ لي تَفديكِ رُوحي احتَرسي

أَسَرَتْ عيناكَ قلبي إنّما
أنتَ أحلى دَهشَـةٍ يا آسري

وهذا المقطع يؤكد فعلا مدى الترابط الحاصل بين الذات الشاعرة والذات الغارقة في الشوق من خلال حوار داخلي بينها وبين قلبها الأسير، كلمة الشوق باتت محور القصيدة تكررت لعدة مرات، مما جعلها أسيرة لحبها القوي الذي يأبى الفطام.
ولاشيء يمكن فك أسر قلبها سوى التحليق عاليا:

بِجَناحِ الحُبِّ طِرْنا للسَما
نُذهِلُ الشَمسَ بعشقٍ ساحرِ

نَسْبقُ الخَطْوَ وَنَمْضي قُدُما
نَحوَ سـرٍّ مُدْهشٍ في خاطري

ولو على مستوى المجاز ( بِجَناحِ الحُبِّ طِرْنا للسَما).
تلاحم تام بين قلب الشاعرة المفتون بأسيرها، حب تضاهي به كوكب العشاق، فلا شيء يضاهي عشقهما المدهش

لّفَّ خَيطُ النُورِِ حَولي والتَوى
وَرَماني برياضِ السُندُسِ

وَملاكُ النُورِ للنَجْـمِ رَوى
صَفْوَ عشقٍ طاهرٍ من دَنَسِ

منه اي الشوق تستمد نور حياتها الذي يخيم على مكانها الغارق في وحل دنس الظلام ، وزيف المشاعر، إنه النور الذي يجعل القلب تصفو سريرته، ويطفو اريج الصمت؛

أجملُ الأيّامِ مَرّتْ وانقَضَتْ
ليتَ عَهْـدَ الوصلِ فينا وَقَفا

ذكرياتٌ كلّما قد أومَضَتْ
زِدْتُ من نارِ اشتياقي لَهَفا

فالليالي ياحبيبي إنْ مَضَتْ
تسرُقُ العُمْـرَ فَنُبدي الأسَفا

ليذكرنا بأجمل الايام التي عاشتها الشاعر زمن الوصال، والتي تتمنى لو توقفت عند تلك اللحظة، فكلما حلت ذكراها اشتعل قلبها نارا وحنينا، وهل من الممكن عودة زمن الوصال المنقضي ، فلا يبقى سوى الشوق والتأسف.
ليلة طالت فاوقدت وجع الحنين إلى ليال تتمنى الشاعر لو أنها لم تنقض..
ولتتأكد من قسوة الشوق اقرأ قولها:

خُذْ فُؤادي كي ترى ماقد حوى
من غَرامٍ فاقَ حَـدَّ الهَوَسِ

واسمُكَ الحُلْوُ يُغنّيهِ الهَوى
بشَهيقي وَارتدادِ النَفَسِ

خاتمة لخصت فيها الشاعرة كل ما حوى القلب من ألم الهوى الذي وصل حد الهوس، والذي لا يكاد يفارق مخيلتها مع كل شهقة نفس، فلا شيء ينسيها لذة الفراق سوى فراق الحياة.

خلاصة القول
القصيدة التي تتجاذب فيها عدة قوافي وأصوات بين مد وجزر تعبر عن حالة نفسية عابرة (ليلة ) أيقظت في الشاعرة :
الشعور بالذات (الرغبة في الأنس)
الشعور بالحنين ( الإحساس بالغربة)
وقد كانت الشاعرة على وعي تام بهاتين المحطتين، فاستطاعت بذلك أن تشكل نصها على طراز الموشحات الغنية بالتنوع الصوتي والدلالي
الثنائيات الضدية حاضرة على مستوى الشكل:
الصوت
الكلمة
القافية
الجملة
وعلى مستوى الموضوع:
القرب والبعد
الأنس والشوق
الحضور والغياب
الأمل واليأس

كل هذا ساهم في ترصيع النص، وتزيين وشاح القصيدة المرصع بالعديد من الأساليب البيانية والبديعية كالجناس والتشبيه والاستعارة والكناية ، وكذا تعدد الأساليب النحوية كالجمل الخبرية والانشائية، الإسمية والفعلية، مما أعطى للنص جماليات عدة ، وسمات فن الموشحات القائم على التنوع الصوتي والتعدد الشكلي والتقارب الدلالي. كل هذا الزخم أعطى للنص تناسقا فريدا وتمازجا غنائيا يتناسب ورشاقة البحر الشعري الذي بني عليه النص، والمتميز برقته وتتابع تفعيلاته، الشيء الذي جعلك تشعر وكأنك تمتطي سفينة العشق دون ان تشعر بتموجات البحر المتدفقة حسب الأجواء العامة القصيدة.
سعيد محتال
المغرب
(1) أهمية العلاقات الدلالية في تحقيق تماسك النصالشعري العربي المعاصر، مجلة موازين، العدد 01 ، المجلد 04 الصفحة 41.
(2) نفس المصدر السابق وبتصرف كبير ص: 42.
(3) مختار الصحاح، الرازي، ص 287.
(4) ابن هشام ، مغني اللبيب مع حاشية الشيخ محمد الأمير ، 2/ 41 ، دار إحياء الكتب العربية.
(5) الإيقاع الداخلي في قصيدة الحرب ، دكتور عبد الرضا علي ، بحث مقدم إلى مهرجان إربد العاشر ، 1984م.
(6) وكيبيديا، بتصرف.

ليلتي طالت
ليلَتي طالتْ على جَمْرِ النَوى
ليتَكَ الآنَ مَعي يا مُـؤنسي
غابَ نَجـمُ الليلِ والقلبُ اكتَوى
فأضاءَتْ نارُ شَوقٍ مَجْلسي

ليلَةُ العيدِ يُحَلّيها اللِّقا
فَتعالَ اليومَ فيها نَسْهَرُ
وَسَيَغدو الليلُ فينا مُشْرِقا
فأنا الشَمسُ وأنتَ القَمَرُ
بينَ قَلبينا اشتياقٌ نَطَقا
وَدَعانا في الهَوى ننْصَهِرُ

نحنُ في الحُبِّ على حَـدٍّ سَوا
هالَةَ النُورِ كلانا نَكتَسي
ذابتِ الرُوحُ وَقلبي قد ذَوى
فأعِدْها ياحَياةَ الأنفُسِ

لكَ زَهْـرُ الرَوضِ غَنّى وانحنى
يامَلاكي ياحَياتي يا أنا
ليتَني ألقاكَ ياكُلَّ المُنى
ليزولَ الوَجْـدُ منّي وَالعَنا
لو خَيالٌ منكَ ياعُمري دَنا
يملأُ الرُوحَ سُروراً وَسَنا

ذَ هَبَ الليلُ كَصَبري وانطَوى
دُونَ طَيفٍ قادمٍ في الغَلَسِ
وَعلى فَقْدِكَ والبُعْـدِ انزَوى
غُصْنُ عُمْـري شاكياً من يَبَسِ

ما لقَلبي كُلّما ناحَ الحَمامْ
أوقَدَ الشوقَ بمِحْراب الضُلوعْ
كيفَ بَدرُ الليلِ يَخْفيهِ الغَمامْ
عنْ عُيوني وَهْيَ غَرقى بالدُموعْ
يالَرُوحي من تَباريح السِقامْ
قد أُذيبَتْ في النَوى ذَوبَ الشُموعْ

قربيَ الماءُ وقَلبي ماارتوى
فَبَكتْ حالي عُيونُ النَرجسِ
كَمُريدِ الشَمسِ مانالَ سوى
في المَرايا ضِيا مُنعَكِسِ

لكَ قلبي طارَ من بينِ الحَشا
حينَ جالَ الشوقُ بينَ الأضلُعِ
فانتَهى عندَكَ والنبضُ انتَشى
فَسرُوري إنْ تَكُنْ أنتَ مَعي
كمْ كَتَمتُ العشقَ لكنْ قد وَشى
جَفنُ عَيني بمَسيلِ الأدْمُعِ

وأنا أزجُرُ قلباً ماارعَوى
صَهلَ الشوقُ بهِ كالفَرَسِ
كُلّما أشكو تباريحَ الجَوى
قالَ لي تَفديكِ رُوحي احتَرسي
أَسَرَتْ عيناكَ قلبي إنّما
أنتَ أحلى دَهشَـةٍ يا آسري

بِجَناحِ الحُبِّ طِرْنا للسَما
نُذهِلُ الشَمسَ بعشقٍ ساحرِ
نَسْبقُ الخَطْوَ وَنَمْضي قُدُما
نَحوَ سـرٍّ مُدْهشٍ في خاطري

لّفَّ خَيطُ النُورِِ حَولي والتَوى
وَرَماني برياضِ السُندُسِ
وَملاكُ النُورِ للنَجْـمِ رَوى
صَفْوَ عشقٍ طاهرٍ من دَنَسِ

أجملُ الأيّامِ مَرّتْ وانقَضَتْ
ليتَ عَهْـدَ الوصلِ فينا وَقَفا
ذكرياتٌ كلّما قد أومَضَتْ
زِدْتُ من نارِ اشتياقي لَهَفا
فالليالي ياحبيبي إنْ مَضَتْ
تسرُقُ العُمْـرَ فَنُبدي الأسَفا

خُذْ فُؤادي كي ترى ماقد حوى
من غَرامٍ فاقَ حَـدَّ الهَوَسِ
واسمُكَ الحُلْوُ يُغنّيهِ الهَوى
بشَهيقي وَارتدادِ النَفَسِ
لياس زرزور
سوريا

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!