لصحيفة آفاق حرة:
(الق ق ج) و غموض الكتابة
بقلم. د. ميمون مسلك
ترى ما سرّ الغموض الذي يلفّ نصوصا عديدة من جنس (الق ق ج) ؟
أعترف أنّني أقرأ أحيانا نصوصا لا أفهمها إطلاقا. كنت فيما مضى ألوم نفسي و تقصيري و بخاصّة لمّا يكون القاص باسم و قلم سيّال..و لكن مع توالي المُتابعة و الاطلاع..تبين لي
أنّ المسألة فيها نظر.
الغموض في السّرديات عموما، و في (الق ق ج ) يعود لعدّة اعتبارات، معظمها تخصّ القاص. فهو مصدر غموض النّص، لأنّه مبدعه.
نتفق بادئ ذي بدء أنّ الغموض الفنّي أمر ضروري، و خاصية فنية لا محيد عنها، منعا لانحلال النّص، و ترهله، و وضوحه، و استحالته إلى لقطة خبرية تقريرية. إلاّ أنّ الأمر ليس بالسّهولة التي يتوقعها البعض. فمُمارسة الغموض الفنّي، قد تنزلق بالكاتب إلى متاهة الابْهام دون وعي و تبصّر. و شتّان بين هذا و ذاك ..
فالغموض الفنّي الذي أساسه اللّغة المكثّفة (condensation)، وضروب البلاغة المُختلفة.. يُمكن حلّ شفرته، و الوصول إلى حقيقته، أو تمثّلها على الأقل عن طريق الفهم و التّأويل. بينما الإبهام ظلام في ظلام..و انْغلاق سريالي مُطبق. أمّا مَسألة الفهم، فتبقى رَجمًا بالغيب، و تكهنات، و اسْقاطات تثيرعدم الثّقة، و القلق، و الانصراف عن النّص، بضجر و ضيق…
فكيف يتأتي الغموض في النّص القصصي؟
1 ــ قد يعود الأمرُ لعدم اتّضاح الفكرة في ذهن القاص. فلا يُمكن أن يرسل رسالة فحواها ضباب في ذهنه، أو لنقول فكرة قلقة مُشوشة تلحّ عليه ..
2 ــ قد يعتقد القاص خطأً أنَّ الغموض هو الأساس في بناء النّص القصصي، لأنّه يسمح بتعدّد القراءات. فيبالغُ و لا يُراعي ترك علامات دالة (les indices)، من حيث يدري أو لا يدري، فيقع الخلط في الكتابة، و يتعذّر الفهم.
3 ــ قد يخشى القاص الوقوع في بَساطة اللّغة و الأسلوب، و انكشاف دلالة النّص بسرعة، مما يحطّ من قيمته: الدّلالية و الفنّية.. فيعمدُ القاص إلى الغموض..
4 ــ قد يُمارس القاص الحذف، خوفًا من الاطالة، و حِرصًا على حجم و قصر النّص، فيلجأ إلى المقاربة الاختزالية (Réductionnisme)، فيقعُ في المحظور.إذ لا يترك أثرًا يدلّ على الفكرة، فبأتي النّص جُملاً من المَعميات، و الألْغاز.فينعدمُ التوافق، و يتنافرُ الانْسجام الدّاخلي (cohérence interne). فلا تجانس و لا ملاءمة ..
5 ــ قد يختلط الأمرُ على القاص فبدل الحكي، يكتبُ الشّذرة،(Aphorisme ) وهي تهويمات فكرية رؤيوية..عن غير علم. و بخاصّة أنّ الشّذرة في حجم (الق ق ج) و تقاسِمها بعضَ الخَصائص،عدا الحكي.
6 ــ قد يكون القاص غير متمكن من اللّغة، أو يأتي بصيغ تعسفية، فيخونه التّعبير، بحيث تكون الفكرة في ذهنه لا في النّص المكتوب. و السّبب في ذلك اضطراب الأسلوب، وعدم العناية باللّغة.
7 ــ قد يوظف القاص الرّمز المَحلي المحدود الانتشار. أو يختار رمزًا ليعبر عن فكرة، أو حدث، أو شخص .. و لكن الرّمز لا يمثل المَرموز..و كأنّه رمز من أجل الرّمز
8 ــ قد ينطلق القاص بأنّ كلّ نص قابل للتّأويل..غير أنَّ كثيرًا من النّصوص يَعتريها ابهامٌ مطلق، و كأنّها كُتبتْ بلغةٍ انقرضتْ ،أو لم يكنْ لها ذِكر من قبل.
9 ــ قد يكون الغموض من طبع القاص، هو نفسه شخصية غامضة: نفسيا، و سلوكيا، و رؤيويا.. فلا يُنتظرُ منه ما يُفَسَّر أو يُؤوَّل..
10 ــ و قد يكون مصدر الغموض المتلقي نفسه ، لضالة ثقافته، وفقرِ رصيده المَعرفي، و قصوره في التَّحليل، و التَّأويل..فيعزب عنه فهم النّص .
11 ــ و من مَظاهر الغموضِ أيضًا أنّ المتلقي أصبحَ في عَجلة من أمره.يريدُ من القراءة الأولى فهم النّص، و يجهلُ أنَّ (الق ق ج) تعمدُ إلى التّراكيبِ الشّمولية،التي تحتملُ التَّأويل، فيجدُ النّصّ غامضًا.
12 ــ المُفارقة: تضاد سلوكي، أو مَعرفي..قد يُساءُ توظيفها منَ القاص، أو يُساء فهمها من المُتلقي، و في الحالتين يَنبغي إدراكُ أنَّ المفارقةَ تَنْشئةُ مَعنى آخر قد لا يَذكره النّص.
و عموما بقدر ما هو الغموض الفنّي خاصية مرغوبة في (الق ق ج)، و في كل السرديات و الفنون الأخرى..إلا أن التعامل معها يتطلب مهارة، و تنبّها.. تجنّبا للإبهام و فقدان النّص لخطابه، و إثارته الفنّية……
…..
مراكش. المملكة المغربية