بورتري (قمر مرتقي)/بقلم:حسن بيريش

قمر مرتقي
قلب في طَيّهِ نِعَمُ الشعر وقلم في خبئه إغواء الحُبّ

 

(1)
دواخلها رهيفة،
تحاكي نعومة قصيدها.
قصيدها قارورة من ضوع،
تشبه عطور سرها.
في سريرتها يلمع كثير من الطيب، مثلما تبرق يدها الحانية، المنانة. لو قمت بتشريح فحوى ظاهرها، ينجلي لك ثر باطنها. هي خبء يشي بعلانية، وسمع يصدر عن رؤية.
قلب في طَيّهِ
نِعَمُ الشعر،
وقلم في طَيّ جوانحه
يمرح إغواء الحُبّ.
لا تكَتِمُ حُبّاً يشعلها حد اللفظ، ولا تشعل كتمانا يؤول بها حد المعنى. في منتصف الغواية، تقف حارسة على تسرب المداد من شقوق الورق. وبذلك، هي تقطف ناضج القول، وتصطاد طرائد الوقت، وتسهو في أوج الشمس !
“يشدني سفر كلامه
إلى منتهاه،
يجعل اسمي
كتابا يؤويني”.

(2)
“أنا القلم الذي
حرك المراكب فوق الموج
في دجى عبراتي،
أنا الصوت المدوي،
لما يعانق الليل أحرف كتاباتي” !
مُحاطَة بخَافِت صَوْتِها، بجهير ترتيلها، مُكلّلة بالشّوق المدّجّج بٱيات الذات المشبوبة، تجيء قمر إلى الكتابة. ومشمول برواء أنفاس نصوصها، مشرئب صوب أعالي حبرها، ومنزوع الفتيل في أرخبيلات قلبها، أذهب أنا نحو التأويل.
إذن، عليها أن تمتد، رحيبا، في تموجات رهافتها الأخاذة، كي يظل وريف نزيفها على قيد الانهطال. وعَلَيَّ أن أسير، طويلا، فوق حبال صوتها، كي أبقى ضالعا في همسها.
“سأكتب اسمك
فوق ورق قلبي،
سأدفن أشواقي
في رحم أفكاري”.
هي قمر، تتزيا بضوء يتسرب من خفايا التوق في نصها، ربما كي تدرك الحد الفاصل، المخاتل، بين ماض تخلع حداده، وٱت يرتدي فرح قصيدها عَلَى ناصية المجاز.
“مضى وولى
فأين مني ملمسه؟
شهد مصفى عسله منك أرشفه
يسري في جسدي نارا تحرقه
سرعان ما يخمد لهيبها
لما الوصل مني أدناه
حبيب لي عشقته
فرحت أغازل قلبي فيه
وذبت في شجن هواه”.

(3)
“لأجلك قطعت البحر
لأبحث عن سفينتي
في بحر عينيك”.
على مدى ساعات حوافل، وأنَا أتَمَرّنُ عَلى السباحة في بحيرة من نار، أخذتني إليها قمر مرتقي، دون أن تحدد لي خريطة بها أدرك مصير يدي الضالعة في مخيالها. لا مرشد لي سوى ثراء الضّيَاعِ اللذيذ في غياهب الشّوق !
كي أقترب
من قمر،
يجب أن أبتعد
عن مرتقي.
سيدة المسافات هي، وثرية الأقاصي، عبرها تكون طاعنة في الكلم، جاهرة بمنسوب التوق، منذورة للتجلي في الخفاء. ثم لا جناح عليها، إن هي ارتدت فساتين جنون القول، أو إن هي عَلى الأرائِكِ الوَثِيرَة للنص المتقد أجلست لياليها.
“قوي صوته،
يوقظ كل إحساس مدو،
كأنه صوت الرعد في الأنفاس”.

(4)
“أتسألني، لماذا عاد الصباح
أحن إلي،
أم أنه من نفسه ولى وراح ؟
يسائلني ظله سؤالا، مع نسيمه الفواح
ويقول لي،
هل من وصال إلى قلبك ليرتاح ؟”.
لَاشَيْءَ يَدُلُّ عَلَيَّ، وأنا أرتديها الٱن، سوى جواب يراود سؤالها، ومعان تلبس نظارات إخفائها، وضوع عطور معبأة في قوارير المحال، وما فاض من أنسام قصيد يغادر مقاماته في المتون، كي يلاحق هبوب هوامشه.
إنها، هذه الأنثى
الممهورة بوهج الوجد،
تكتب عبر فؤاد
ميمم شطر قبلة الهيام.
كما تقرأ عبر ميعاد
مأهول بحُشاشة الوقت !
لذا، أجدني أقارب متنها من خلال ثنائية: قارئة تتقصى براق العبارة، لحظة تأججها في لجج العتمات، وكاتبة تتولى تسيير مواجع الجملة، إبان انبثاقها المشتهى في عراء الضوء. ثم لا فرق، هنا، بين يراع ينتحب، وعبرات تنشرح !
“جعلتك عمرا لعمري،
لما تَرَدَّى قتيلا بين يديك” !

(5)
“لا جرح إلا
لمن به ألم”.
حين باحت قمر: “خرج الخريف من وكره”، انشحنت أنا بكل توترات اللحظة، وجدتني أهمس في أذن حرفها: خرج المداد من محبسه. وما هي إلا ثوان، حتى سمعتها تصيح ملء بهاء هو من شيم أرومتها: “النور ٱت، مهما جَنَّ الظلام”. وها هي تصغي إلي: القصيد مصير لياليك أينما كان نهارك !
“اسم توسد
القلب
لما خطه
القلم”.
دوما أتخيلها، وأنا منهمك في تلقي أطياف من شعرها، تقول للغتها، إبان سريان الكلمة في لطائف المعنى، وساعة الخلوة مع أوجاع النص: “وَاحَرّ قَلْباهُ” !
كأنها في المتنبي تمتد، عبر ريحه تعلو، بجمر ذاتيته تشتعل، وفي عذاب قصيده تتألم. قمر تحب أن تسطع في سماء أبي الطيب، حيث تعثر على بغيتها: مداعبة نجوم معتمة تنوس بين دمع اللغة، وحبور المخيال.

(6)
اللغة التي تمتحن قمر مرتقي، عبرها، قدرتها على تكليم ذات شبوبها، ذات هواجسها، تبدو لك بسيطة لفرط خداعها، بينما هي خادعة لفرط تفشي بساطتها.
أوليس هي من جعلت اللغة:
“تمشي على ضلوعي” ؟!
أليس يراعها من خاطب القراء:
“جعلت لهم قلبي جسرا” ؟!
ثم ماذا ؟
شاعرتنا تمارس (اللجوء العاطفي) إلى أرق ما في المعجم من مفردات مبللة بالأشواق، كلمات مأنوسة بالرواء، ومعان تجهر بتعدد ثري في التعاطي والتأويل.
في أحايين كثيرة، غزيرة، تتراءى لي هذه المبدعة وكأنها في حوار هامس مع عباراتها. حيث لا تعمد هي إلى انتقاء الكلمة في أول النص، بل تسري في أتون الدوال إبان العتبة ما قبل الأخيرة لأحاسيسها الرابضة في مهب السطر.
حين تستيقظ كل الظواهر بداخلي
“تهت في زحام
الكلمات،
وضعت في أزقة
العبارات”.
(7)
النص، عندها، كما يتبدى فيها، ويتجلى عندي، جموح صوب متاه الأنا، جنوح نحو فلوات الدخائل، ما هو “سقف وأبواب، ونوافذ وحيطان، وأعمدة هنا وهناك، وإسمنت وبنيان”. وهنا، رسما وتحديدا، تنجلي ينابيعها النضاحة.
تكتب قمر مرتقي
ودواتها متسلحة بانسكاب المشاعر،
وليس بجمود القواعد.
من هنا،
هذه غنائية الرهافة
التي تتوشح بها نصوصها الناصعة.
وأتخيلها رافعة يدها، تخاطبني من وراء ستار القصيد، وهي ملأى بأعقاب الإلهام، مشحوذة بوعثاء الحرف، قائلة لي، أو لها، سيان عندي، وعندها:
يا حسن،
حين يتحرش النهار
ببياض أوراقي الظمأى،
يأتيني الري
بتوقيت الهمس في ليالي اللمس !

(8)
“حين تستيقظ
كل الظواهر بداخلي”.
تلقي الشعر ببراعة تحيلني على زمن الإنشاد الجهير. ثمة في صوتها، وهي تتغنى بالمعنى، لا بالكلمة، كثير من الشجن، ثم غزير من الحس، فوابل من نغم تراه قبل أن تحسه، ويكلمك قبل أن تصغي إليه.
كل الأحاسيس تستفيق داخل ذبذبات صوتها، وهي تتقصى جوامع التأثير، كما لو أنها تكتب بفمها، لا بقلمها، وتخلق نصا من حبر، من صوت، ومن أثير.
“أقبل الليل،
وانفجرت ذراته بداخلي”.

(9)
“القلم الحر هو الذي
يمتطي ظهر السحاب
لينزل تحث أقدام الثريا”.
لا شيء يغوي عمرها غيره: هذا القلم الذي وهبته لياليها وكل أصباحها. حد أنها، هذه الموارة بالإشراق، إذا لم تكتب، إذا لم تبدع، مع إطلالة الشعاع الأول، تنتكس فيها الصبوات، وتعدو صوب ما يعيدها إلى جادة جنون الكلمة، وكلمة الجنون. ثم لا حد أبدا للصباح الذي يهبها نفسه من أول مراودة !
“أقول في حبنا شعرا
وأنثره عبر أريج صدرك نثرا
وأمضي قدما فيه
لا أبالي لا نهيا ولا أمرا”.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!