تأملات شاعر في قصيدة (رسالة إليّ) للشاعرة أميمة يوسف/ بقلم محمد العياف العموش

آفاق حُــــرة 

يُدركُ المتفرّدونَ من الشعراء والشواعرِ أنّ بحرَ القصيدةِ لا يخضعُ للاختيار منْ قِبَلِ الشاعر / الشاعرة ، بمعنی : لا يوجدُ شاعرٌ أو شاعرة حقيقيّ يقرِّرُ أنّهُ سيكتبُ على هذا البحر أو ذاك ، اللهمّ إلا في المجاراة أو النقائض .

وإذا اتّفقنا على الذي جاء أعلاهُ فقد يثورُ تساؤلٌ : لماذا يمتطي الشاعرُ / الشاعرةُ هذا البحرَ الشعريَّ في قصيدةٍ ما دونَ بحرٍ آخر ؟!

وأجيبُ – وهذا رأيٌ شخصيٌّ يحتملُ الصوابَ والصوابَ – أنّ الحالةَ النفسيةَ للشاعر / الشاعرة ، وكذلك ما يختمرُ في اللاوعيّ من موضوعِ القصيدة هو الذي يختارُ البحرَ ، وكما يُدركُ خبراءُ الشعر من الشعراء والشواعر وربما كثيرٌ من النقّاد أنّ لكلّ بحرٍ مزاياه التي ينفردُ بها عن غيرهِ ، فالوافرُ يضيقُ بالشاعر / أو الشاعرة عن الفخر ، ولذلك يصهلُ حصانُ الطويلِ استعداداً للطرادِ في براري الفخر والمدح .

سُقتُ هذه المقدمة لألِجَ إلى قصيدةِ  ( رسالةٌ إليّ ) للشاعرة المبدعة أميمة يوسف ، وأجزمُ أنّ بحر البسيط هو الذي راودَها عن هذه القصيدة ، فوحدَهُ القادرُ على احتمال وحَملِ موضوع القصيدة ومشاعرها ، حيثُ امتزجَ الحزنُ والكبرياءُ والانكسارُ والوجعُ فكان عجينةً لا يُطيقها إلا فُرنُ ( البسيط )

ولأنّ  ( العنوانُ عتبةُ النصّ ) فمنها يدلفُ القارئُ إلى النصّ ، ويسترشدُ بها في مجاهلهِ ، ويستضيء بها في الولوجِ إلى  مكنونات الشاعر / الشاعرة إلا أنّ العنوان هنا ( رسالةٌ إليّ ) جاءَ مُخاتلاً بعض الشيء ، وهذه المخاتلةُ مقصودةٌ ، وكأنّ الشاعرة تزعمُ أنّها تكتبُ لحبيبٍ وهميّ أو أنّها اتّحدتْ بهذا الحبيب حتى صارا شيئاً واحداً ، وهذا نَفَسٌ صوفيٌّ بامتياز .

رسالة إليّ

ضاع   الطريقُ  فلا   لومٌ  ولا   عتبُ

لما  بكى  الشّعرُ  حتى   هدّهُ   التعبُ

ابتدأ المطلعُ بلفظة ( ضاعَ ) وهذا حكمٌ نهائيّ جاء في المقدّمة لإنهاءِ أيّ محاولةٍ للصلح أو العودة ، وجاء التأكيدُ على ذلك ب لا لومٌ ولا عَتَبُ ، وثمة فرقٌ في اللغة بين اللوم والعتاب ، فاللوم يكون على ضررٍ تسبّبَ به المَلوم لنفسهِ أو غيرهِ ، بينما العتاب يرتبطُ بمن بيننا وبينه محبّة ورابط .

إذن لا لومَ ينفعُ ولا عتاب ، فقد بكی الشعرُ حتى هدّهُ التعبُ ، والحقيقة أنّ بكاء الشعر يكون بما حملَ من حنينٍ وشوقٍ ورجاء قبل أن يضيع الطريقُ .

مطلعٌ مدهش ، لولا أنني أری أنّ لفظة هدّهُ وكذلك التعبُ أطفأتْ قليلاً من وهج المطلع .

ماذا لو كان المطلعُ هكذا :

ضاع الطريقُ ، فلا لومٌ ولا عتبُ

وكلُّ بوصلةٍ في التّيهِ تنتحبُ

قد   قلتُها   وثقوبُ   الروح   يجدلها

حزنٌ  غزا  القلب  والأضلاع  تنتحبُ

بيتٌ عميقٌ الألم ، ينفطر به قلبُ المتلقي ، وزاد عمق الألم تركيبة ( ثقوب الروح ) انتحاب الأضلاع ، لكنّ ( حزنٌ عزا القلب ) نزلتْ قليلاً عن المستوی الفاره َ للبيت ، وكذلك لفظة ( يجدلها ) فثقوب الروح يلائمها النفخُ وليس الجَدلُ .

كم من جبال الأسى مرت على كبدي

والشيب  يغزو  فؤادي  والمنى  تثبُ

لكنه    الليل    يأبى     أن     يفارقنا

والنور   منهزم   أودت   به   الحُجُبُ

صراعٌ لا ينتهي ، بين جبال الأسی التي تتحرّك على كبد الشاعرة والأماني التي تثبُ ، وهنا تناصٌّ جميلٌ مع الآية الكريمة (وتری الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب )

إنّ الشعراءَ يقفون دائماً على الأعراف ، فلا همْ يستسلمون للوجع المرير والخيبات الكبيرة ، ولا أحلامهم وأمانيّهم تملّ من الوثوب إلى عيونهم لتطلّ على العالم .

وعلاقة الشاعرة بالليل ك علاقة جميع الشعراء والشاعرات ، إمّا محرابٌ للسكون والهدوء أو موقدٌ للأشواق والحنين ، وكلّ له نصيبٌ من كليهما .

مساكين أهلُ الجوی والعشق ، قلوبهم أرقّ من قطرة ندی بِكر على خدّ وردةَ في فجرٍ تشرينيّ .

ما كادتِ الشاعرة تقرر ب ضاع الطريق فلا لوم ولا عتبُ

حتى ختمت ب :

إني  على  العهد  ما  طال   الفراق  بنا

زادي   أنيني   ونهر    الحلم    مغتربُ

ربما كان خيالاً ، وهماً ، أمنيةً ، حقيقةً …. لكنه كان شعراً فاخراً وعشقاً غامراً بلا شك!

ويبقى في القصيدة الكثير مما تقوله اليدان المرتعشتان والعينان الدامعتان..

رسالة إليّ

ضاع   الطريقُ  فلا   لومٌ  ولا   عتبُ

لما  بكى  الشّعرُ  حتى   هدّهُ   التعبُ

قد   قلتُها   وثقوبُ   الروح   يجدلها

حزنٌ  غزا  القلب  والأضلاع  تنتحبُ

كم من جبال الأسى مرت على كبدي

والشيب  يغزو  فؤادي  والمنى  تثبُ

لكنه    الليل    يأبى     أن     يفارقنا

والنور   منهزم   أودت   به   الحُجُبُ

في    حضنِ    قصّتنا    نامت    مسرتنا

والبسمة اختبأت  لمّا  اختفى   السببُ

حتى    قصائدنا   مذ    تاه     بارقها

ما  عاد   يفرحها   رقص   ولا   خببُ

سأجعل   الآه   تنغيمًا   على   شفتي

لو   بسمتين  فبحر  الشعر   مضطربُ

هزي   إليك   بجذع   الشوق    واثقة

من  نخلة الروح  كم يسّاقط   الرطبُ

واجني   المحبة   ما  أشهاه من   ثمر

تفاحة   فاقها   في   حلوها     العنبُ

واستمطري  من  عيون  الغيم   أمنية

تهمي  بها  الريح  أو تأتي بها  السحبُ

رسائل    الوجد    ما    أندى    تدفقها

فاض  البريد   بها   والغيث    منسكبُ

فلتكتبي     بمداد      العين       أغنية

لحن   الوفاء    بها    يجتاحه   الطّربُ

إني  على  العهد  ما  طال   الفراق  بنا

زادي   أنيني   ونهر    الحلم    مغتربُ

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!