دراسة إبداعية لرواية ” ما زلت أبحث عن أبي “

لصحيفة آفاق حرة

 

بيداء بين التفريط الأسري والعلاقة مع الآخر

دراسة إبداعية لرواية ” ما زلت أبحث عن أبي

الروائية ابتسام شاكوش

إعداد د. تيسير السعيدين

( ما زلت أبحث عن أبي) واحدة من بين الكثير من نتاجات الكاتبة الإبداعية في مجالي الرواية والقصة القصيرة، الكاتبة ابتسام شاكوش ، ولابتسام ابنة اللاذقية عشر من المجموعات القصصية، ومثلها في الرواية، وهو نتاج يدل على فكر حاضر في المشهد الحياتي اليومي والعام معا وغزارة في الإنتاج .

مضمون” ما زلت أبحث عن أبي ” فتعالج قضية اجتماعية أسرية منتشرة بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية، ولعل المجتمع العربي السوري ليس بدعا منها ، أمّا العنوان الذي وسمتها به فيضعنا أمام تصور أولي عام عن موضوعها، ألا وهو ” ما يمثله الأب من دور محوري ومركزي وحساس جدا في حياة الأبناء :ذكورا كانوا أو إناثا على حد سواء، وما يحدثه غيابه عنهم من نقص فعلي في مختلف جوانب حياتهم” .

ومن الجدير بالذكر هنا، أن الأب حاضر في الأدب العربي الحديث نثرا وشعرا بشكل لافت ، ويدل على ذلك الكثير من الدراسات العلمية التي أقيمت حول تمثيلات الأب في الرواية النسوية العربية مثلا  للدكتورة ليندا عبيد ،ومثلها تمثيلات الأب في الشعر العربي الحديث للدكتور سلطان الزغول.

وبما أن العنوان في رواية الكاتبة شاكوش يحمل فعل البحث ، فهناك إذن غياب ، وهناك في المقابل سعي للعثور على مفقود، وبالمضي قدما في متن الرواية نجد شخصية البطلة فيها الفتاة ( بيداء )، وهي من تمارس فعل البحث هذا عن أبيها؛ فالرواية تعرض لنا حالة قلما نجدها في الأعمال الأدبية التي تتناول علاقة المرأة بالرجل، ففي حين أن الكثير من هذه الأعمال تنصرف إلى تلك العلاقة العاطفية وما يعتريها من مشاكل ومعيقات :حبا وخيانة وإخلاصا وغدرا، نجد أن ابتسام شاكوش انصرفت في روايتها إلى علاقة الفتاة بالرجل أبا لا حبيبا أو زوجا، وعلى الرغم من أنها حاولت بذكاء من خلال مضيها في عرض تعلق البطلة بأستاذها ( رشاد ) وعمق محبتها له ،وتتبعها لتصرفاته وحضوره وغيابه ،فقد استطاعت أن تخدع القارئ بصرف ذهنه إلى توقع علاقة غرامية بين الفتاة وأستاذها ، تأتي لتكسر أفق هذا التوقع بالكشف عن حقيقة مشاعر هذه الفتاة تجاه هذا الأستاذ وحقيقة اهتمامها به بأنه من باب تعويض ذلك النقص الذي تشعر به، بسبب غياب والدها عنها وعن أسرتها فترة طويلة بسبب العمل خارج البلاد ، ذلك النقص المتعلق بفقد الرعاية والاهتمام ،وفقد العطف والحنان ،وفقد الأب الصديق الذي من شأنه أن يشكل منظومة حماية قوية لابنته من الأخطار المجتمعية المحيطة بها.

وحين نعرف أن بطلة الرواية من تلك الفئات التي تواجه نوعا ما من الرفض الاجتماعي بسبب حول في عينيها، فإننا ندرك عمق ما تحس به من مأساة ، وحاجتها إلى أبيها ليدفع عنها أو يخفف بعض ما تواجهه، وإذا ما عرفنا أيضا أن الرفض الأسري كان من الأم ، في ظل غياب أبيها المتواصل عن البيت وسفره الدائم بعيدا عنها ،أشد ألما عليها من ذلك الرفض المجتمعي ، فإننا نفهم جنوحها للبحث عن معادل لأبيها فيمن حولها من الأشخاص، ولعل أستاذها كان هو الأقرب إلى تلك الصورة التي ترسمها في مخيلتها عن أبيها ، فكان هو ملاذ مشاعرها وموطن بحثها الذي وجدت فيه ما افتقدته في عائلتها ، من الرعاية والاهتمام والاحتواء.

لقد أجادت الكاتبة حقا في طرح هذه القضية عبر تقنيات السرد المتعددة التي وظفتها، ولعل من أبرزها المراوحة بين راو خارجي عليم ، وراو داخلي مباشر متمثل بالبطلة نفسها. وتقنية الاسترجاع أو ما يعرف ( بالفلاش باك )، والمراوحة عبر هذه التقنية ما بين حاضر الشخصية ولحظتها الآنية ، وما بين ماضيها وذكرياتها ، وهو ما أضفى على الرواية مزيدا من الدهشة وأعمل عقل القارئ في الكشف والربط والتعليل والتسويغ، ومن ثم فإن القارئ هنا أصبح كاتبا آخر للرواية مشاركا في حبكها وسبك احداثها وتداعياتها، وذلك مما يضفي متعة في عملية التلقي ، حين يشعر القارئ انه مشارك في الفعل الروائي ، عدا عن متعة الفراءة نفسها.

وأما حديث النفس (المونولوج الداخلي ) فكان بارزا جدا في الرواية وهو ما كشف عن نفسية البطلة وما تفكر فيه وكيف تشعر تجاه الأشياء والآخرين، في المقابل فقد كان هناك ( الديالوج )أو الحوار الخارجي الذي  من أهم وظائفه عرض ما تفكر به الشخصيات بصوت عال وفي هذه الرواية كان الحوار الخارجي أساسيا ومهما في دفع القصة إلى الأمام وتطوير الحدث.

وأخيرا فإن رواية  ” ما زلت أبحث عن أبي ” هي رواية اجتماعية بامتياز، إذ انبثقت من لب المجتمع حين عرضت من خلال قصة الشخصية البطلة العديد من القصص الأخرى فالأم المهملة لبيتها وابنتها ، والمشغولة دائما بزياراتها ودروسها الطويلة التي لا تنتهي  ، والخجلة من حول عيني ابنتها، والابن المنحرف بتأثير التفكك الأسري، ومجتمع النساء القائم على النميمة والغيبة، ممثلا بأم عبد الله ، وما حولها من النساء التي من بينهن أم ( بيداء ) نفسها ، وتحتوي كل ذلك قصة هذا الحب الذي كان الطرف الأول ” بيداء” الباحثة عن الأب المفقود، بينما كان الطرف الآخر ” الأستاذ رشاد” يبحث فيه عن المرأة الحبيبة أو الخليلة أو الصديقة أو الخدينة ، وهو ما أنهى قصة الشخصية البطلة بخيبة أمل كبيرة أعادها إلى نقطة البداية في بحثها عن أبيها بعد أن اعتقدت نفسها أنها قد وجدته .

إن بيداء بهذا الاسم الصحراوي الذي يعكس ما في نفسها من جفاف عاطفي أبوي وأسري واجتماعي هي مثال لكثير من الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية، ممن يبحثن في الحب لا عن الشريك وحسب ، بل عن حاجات كثيرة مهمة وأساسية لاستقرار النفس واتزانها عاطفيا ، لا سيما وإن كن يعانين من مشكلة ما في الشكل،  تسبب لهن الإحراج أمام المجتمع.

أشكر الكاتبة على هذه الرواية الجميلة ، وأرجو لها مزيدا من الإبداع والتميز في طرح القضايا التي تمس الحياة الواقعية التي تحياها مجتمعاتنا العربية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

 

 

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!