عمر العمودي في محاولة للتوازن/بقلم:كمال محمود علي اليماني

بين يدي اليوم كتاب بعنوان ( يحاول التوازن على أيام تترنح) ، وهو من كتابات الأديب عمر محمد العمودي ، ومن إصدارات دار مدارك للنشر في السعودية للعام 2023م ، العنوان يبدأ بالفعل المضارع (يحاول) ، يتبعه مفعول به هو (التوازن) ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ، فمن هو هذا؟ أهو المؤلف ذاته؟ أم هو الكتاب وما اشتمل عليه من نصوص ؟ أم هو أمر ما لاهذا ولا ذاك؛ كالعمر مثلا ، والفاعل المستتر هذا يحاول التوازن على أيام تترنح ؛ فإحالة الترنح هنا ليست عليه هو- فهو كما يبدو ثابت الخطى- غير أن الأيام التي يعبرها هي التي تترنح ، فالعتب على الأيام إذاً لا عليه ، وهو أيضا يحاول التوازن بحثا عن اليقين كما جاء في نص ( معركة اليقين ) إذ يقول:
أسخّر كل جهودي
كي لا أفقد عرش اتزاني
وأسقط.
غلاف الكتاب حوى العنوان واسم الكاتب فقط ، وغاب عنه التجنيس، وبسؤالي الشاعر عن ذلك أجابني بأن هذه هي سياسة الدار، وهي سياسة لا أجد مبررا لها ، وعلى العموم، فإن النصوص جاءت منثورة حتى أنها تتبدى للكثيرين جملة من الخواطر ، لكنني – بعد قراءتي لها- فضّلت أن أضع الكتاب ضمن دواوين الشعر النثري، فالخواطر في العادة تأتي عفو الخاطر ، وهي أقرب للرسائل والمقالات والخطب القصيرة ذات البداية والوسط والخاتمة ، وتحمل في ثناياها فكرة يريد كاتبها إيصالها للقارىء، أما نصوص العمودي فهي أبعد ماتكون عن ذلك ، فالاشتغال الشعري فيها واضح جدا من خلال كثرة الأساليب البلاغية والانزياحات والصور والأخيلة ، وكذا البناء الهندسي الموزع هنا وهناك.
حوى الديوان 55 نصا، وتخللته بعض الومضات، وبالنظر إلى الحقل الدلالي لعناوين النصوص نجد الشاعر يتأرجح بين القوة والضعف، والأمل واليأس ، والنجاح والفشل ، فهناك عناوين تحمل طاقة إيجابية ، وأخرى تحمل طاقة سلبية ، فهناك مثلا: رغبة بالوجود ،صفو ، سأكون ، معركة اليقين ، ثبات، ماراثون الحياة ، أركض لأبقى ، شلال، وأكسير الحياة.
وعلى الجانب الآخر نجد: تقلص ، سواد، غضب خافت، صرخة، إطار فارغ، فشل يتجدد، بكاء مؤجل، رتابة وغيرها .
ونصوص الديوان يمكن وضعها في دائرة البوح الذاتي ، وهي بالمجمل نصوص وجدانية ذاتية، وفيها تكرار ملحوظ للضمير أنا ، وللضمير المستتر تقديره أنا ، كالأفعال: أنصب، أكتب، لا أعرف، أحب ، أدقق وغيرها الكثير والكثير ، وحضرت ياء الخاصية أيضا بشكل لافت كقوله: يامعناي ، يامجراي ،داخلي لايسعني ،ترافقني ،إنقاذي.
كما حضر الضميران المنفصلان أنتَ ، وأنتِ ، وكاف المخاطب بصورة متقطعة .
في الديوان العديد من الانزياحات الدلالية ( الأساليب البلاغيىة )، منها قوله:
*ويطفىء ملامحك الساحرة .
*لأنني دفتر يمشي باهتا.
*تقلمين مخالب عالمي.
*وأنا الذي حطمت مرايا عديدة للحياة.
*كأنك تلتحفين غيمة .
ويكاد الديوان يخلو من الانزياحات التركيبية ( من تقديم وتأخير .. حذف الخ).
ومن المظاهر الأسلوبية المستخدمة في نصوصه لجوءه إلى التكرار بما يمنح النصوص دفقات من إيقاعات وتنغيمات تتساوق مع المعاني الدلالية لها.
ففي نص ( وحيدٌ .. ونافذة وحيدة) نظرا للطاقة السلبية المكتنزة فيه نجد حرف النفي (لم) قد تكرر سبع مرات.
وفي نص ( سأكون) بما يحمل من طاقة إيجابية وإصرار على المضي،نجد أن الفعل المضارع( سأكون) يتكرر ثمان مرات مسبوقا بسين المستقبل ؛ بما يؤكد دلالة النص وإصرار الشاعر على المضي قدما في طريق التمرد وإثبات الذات، يقول:
سأكون قلبا ينسى غايته
نصا يحاول دوما التمرد على فكرته
سأكون شيئا آخر عدا أن أكون أنا!

وفي نص ( أركض لأبقى) تكرر الفعل المضارع (أركض) ثلاث عشرة مرة ، والعنوان يحمل الفعل أبقى تسبقه لام التعليلية ؛ لذا فقد تكررت مفردة لأنّ في النص سبع مرات .
ويعمد في نص ( شتاء أبدي)إلى استخدام أسلوب التكرار مصاحبا للبناء الهندسي ( وهي تقنية بصرية )الدال على التصاعدية، حيث يقول:
هناك من يتبعكِ دائماً
حين تمشين ، يكون ورائكِ
حين تلتفتين ترينه يتطاول بظله
حين تقفين، يتوقف القلق من خلفكِ
أن أحداً مايلاحقكِ،ولاتسمعين إلا لهاثاً

وعلى العكس يكون البناء الهندسي الدال على التنازلية في قوله:
أفكر بالضحكات التي حبستها أخبار سيئة
وبالأحلام التي لم يبلغها أحد
والأمنيات التي ظلت بعيدة
والرجاءات التي ماتت
في أفواهنا.

ولقد حفلت النصوص بالكثير من التكرار الحرفي علاوة على تكرار الكلمات ، مثل تكراره لحرف السين المهموس في قوله ضمن نص (نهاية لاتقاوم ):
الرصاصُ ، السكاكينُ، واستخدام الحديد
وسحقي بسيارة مسرعة،
ليست خيارات مناسبة لي.

وفي نص ( تقلص) يتكرر حرف الخاء في قوله:
با امرأة
اكتشفت بغتة، بعدها أنك في الخارج
تاركة أثرا خلفك في كل خطوة
قبل بلوغ الباب الموارب
مخلبا…
مخلبا…
ألا يحدث هذا التكرار في أذن القارىء تنغيمات موسيقية تضفي على النص من جمالياتها؟

ولقد حفلت النصوص بكثير من الإيحاءت الصوفية ، مثل قوله:
أذهبُ كلي ، أصلُ كلي
ولا يبقى شيء مني، ليفنى.

أو قوله:
هذا السوادُ أنا
وماتراهُ ليس إلا أنت.
هذا الضوء الذي تراه فيّ
إنه لك!

وفيه مقاطع عبثية ،وأخرى وجودية، كما حمل نصوصا عميقة في طرحها.
وسيطول بنا المقام لو حاولنا استعراض كل ذلك ، ولهذا أجدني أستعرض معكم بعضا من مقاطع جاءت غاية في الروعة من حيث التصويرالجمالي ، حيث يقول:
على مهلٍ
أطلق عيني في االأرجاء
لكيلا تحدث ضجيجاً
يمكن سماعه.
أو قوله:
ألاّ أكون موجوداً
تلك طريقة تناسبني أكثر من أن أكون وحدي.
وقوله:
فكل الأعين حين تراني
لا أدفأ
وحين تغض الطرف
لا أبرد
إلا عيونك
أقف أمام نظرتها مرتجفا
ولا أريد أن أدفأ
الديوان – كما يحلو لي تجنيسه – ظهرت فيه الكثير من النصوص التي تستوقفك روعتها ، ولاتملك حيالها إلا أن تعيد قراءتها مرات ومرات ، وهي تنبىء عن موهبة شعرية تحسن التعامل برشاقة وذكاء مع مفردات وتقنيات الشعر النثري.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!