قراءة في قصيدة للشاعر مختار العالم/ بقلم : أحمد وليد

وكَأَنّهُ نَفَسي الأَخيرُ
وكَأَنَّها زَفَراتُ حَيّ
تَعْتَبُ الدُّنْيا عَلَيّ
وَيَعْتَبُ الماضي عَلَيّ
وَيَعْتَبُ الآتي علَيّ
وتَعتَبُ الأزْمانُ .. والأوقاتُ.. والساعاتُ.. واللَحَظاتُ فيما بَينَنَا أيْضًا عَلَيّْ
والآنَ يَعْتَبُ كّلُّكُمْ .. أو نِصفُكُمْ.. أو بَعْضُكُمْ أيضًا عَلَيّْ
واَحْبِسُ الأَنفاسَ للنَفَسِ الأخيرْ
وكأَنَّني .. وكَأَنّكَمْ .. وكَأَنّها ذاتِ المَرايا
تَحتوي ما قَدْ تَكاثَفَ منْ لُهاثِ العُمْرِ يجري
والنُقاطُ تَرادَفَتْ تَنثالُ تَلْحَقُ بَعْضَها وتقولُ: وَيّْ
والنَّفْسُ في ذاتِ الحُلولِ هَيَ ذاتُكُمْ .. في ذاتِها
مِنْكُمْ لها.. مِنها لَكُمْ.. مّنّي لَها .. مِنْ ثَمَ ثانِيةٍ إِلَيّْ
وَكَأَنّها نَفَسي الأخيرُ في روحِها زَفَراتُ حَيْ
وكَأَنّهُ نَفَسي الأخيرُ
والآنَ إنّي أعتَذِرْ
وَمِنْهُ قَلْبي يَعْتَذِرْ
والنّبْضُ أيضًا يَعْتَذِرْ
والوَعْيُ واللاوَعْيُ في غَوغاءِ أَزْمِنَةٍ بِها نَتْعَبْ
بِها نَعْتَبْ.. بِها نَزدادُ في إدراكِ فَوضانا بِلا أَنْ نُدرِكَ المَعنى لِسِّرِّ البذرةِ الأولى
كَما في الروحِ.. أَوْ في المَوْتِ
أَوْ في رِحْلَةٍ لِلُّبِّ في الآفاقِ لا تُدْرَكْ
فَما مَعنى بأَنْ نَفْرَحْ؟!
وَما مَعْنى بأَنْ نَحْزَنْ؟!
وَما مَعْناهُ هَذا اليّومُ.. وهذا العُمْرُ يَدْفَعُني.. ويَدْفَعُكُمْ لِكَيْ نَهْرَمْ؟!
وفينا الحُزْنُ والأفراحُ لا تَهْرَمْ
وَتَبقى بَسمَتي طَفْلَة.. ولا تَهْرَمْ
ولا تَصْغَرْ.. ولا تَكْبَرْ
وَبَسْمَتُكُمْ .. وَضِحْكَتُكُمْ.. وَفَرْحَتُكُمْ
تَعودُ بآخِرِ الأنْفاسَ في رِئتَيَ أَتَنَفَسْ
وَكَأَنَّهُ نَفَسي الأخيرُ
أوْ أَنَّهُ نَفَسي الأخيرْ
والروحُ يَنوي لِلرحيلْ
فَلَقَدْ تَراخى حَضْنَهُ الجَسَدُ النَحيلْ
والقَّلْبُ قَدْ عَرِفَ الحقيقَة
سَيَدُقُ دّقَّتَهُ الأخيرة
وَتَشُقُّ نَفسي دَّرْبَها لِشُعاعِ نورْ
يأتي الوَداعُ بلا وَداعٍ منْ وَداعْ
يَمْتَدُّ دَمْعُ الماكِثينَ بلا سَفَرْ
نَحوَ المُسَجّى بَينَ وَعدِ الحَقِّ أَوْ تاريخِ مَوْعِدَهُ بأَرْضِ الراحلينَ منْ البَشَرْ
إنّي المُسافِرُ نَحْوَ مُلْكِ الروحِ
أَتْرُكُ بَسمَتي..أَتْرُكُ ضَحْكتي..أَتْرُكُ فَرْحَتي..
وأحْمِلُ معي نَفَسي الأخيرُ
يُنادي.. لا يَنْطِقُ حَرْفًا مَحْشورٌ ما بَيْنَ لُهاةِ الروحِ
وحُنْجَرةِ العُمْرِ وقَدْ فاضَتْ بالماءِ وَلَمْ يَنجو مِنها..
غَيْرَ الصّوتِ المَكبوتِ .. المَلهوفِ اللّحنِ الصوفيِّ
يُنادي يا مَوْتْ
مختار صلاح العالِم
****************
يتحدث الشاعر مختار العالم عن إحساسه بالنهاية، إذ يصل إحساسه العميق بالموت إلى تصور أنه يتنفس آخر نفس له فيقول : “وكأنه نفسي الأخير .. وكأنها زفرات حي”
كأننا به يظن أنه سيموت حالا وفورا، يجعلنا ندخل معه إحساسه هذا، فنشعر به كأنه لن يكمل هذه القصيدة التي بين أيدينا، وكأننا به اعتبر نفسه مات وانتهى أمره لكنه يتعجب من زفراته، وكأنه تفاجأ من فعل ميتٍ ينازع، يزفر.. فيستغرب الشاعر من كونه مازال حيا.
“الموت” .. هذا الزائر المرعب، الثقيل الظل، هذا الآتي من بين أستار الظلام، يأتي ومعه النهاية الحتمية لكل الكائنات الحية. يتناساه الناس وكأنه لا يخصهم و لن يُشكِّل نهايتهم.. إلا أنهم وبكل مرة يصدمون عندما يسمعون خبر موت أحد أقربائهم ولا يتوقعون أنهم أنفسهم سيموتون بأي لحظة من اللحظات!
هكذا نجد كل الناس يتعاملون مع الموت حسب معتقداتهم الدينية، الفكرية والثقافية..
فبالنسبة للديانة المسيحية التقليدية يعتقدون بمصير البشر في الآخرة بعد البعث والحساب و الذهاب للجنة أو الجحيم، ولا يختلف كثيراً اعتقاد المسلمين بالحياة بعد الموت عن اعتقاد المسيحيين لكنها تختلف في طقوس التعامل مع الميت وطريقة الدفن وتغسيل الميت وصلاة الجنازة.
أما الهندوس فهم يعتقدون بتناسخ الأرواح، والإنسان مصيره مرتبط بأفعاله قبل الموت فمرتكبوا المعاصي يستنسخون بعالم أخفض وأدنى جزاء لهم، والعكس بالعكس وهم لا يدفنون موتاهم بل يحرقونهم.
أما اليهودية فعندهم اعتقاد راسخ بأن من يحيا حياة كريمة ستتم مكافأته في الحياة الآخرة. وفي الدفن يتساوى الغني والفقير مثل المسلمين.
“وكأنه نفسي الأخير” هنا الشاعر يترقب موته الآتي بأي لحظة من اللحظات، فمع كل نفٓس يحِسُّ أنه النفَسُ الأخير، بل يشك أنه مازال حيًّا يُرزق، إذ يشكِّك بصعودِ أنفاسه عند الزفير فيقول : “وكَأَنَّها زَفَراتُ حَيّ”
وكأننا به الآن بالمستشفى يصارع إحساسه بالموت القادم فتختلط لديه الأشياء، الماضي بالحاضر ، بالمستقبل … يحس أن الكل يعتب عليه، الدنيا بتصاريف أزمنتها، والأوقات والساعات و اللحظات التي كانت بالماضي ومازالت تسكنه الآن تحضره فقط لتعتب عليه،.. لم يجعل العتب يقتصر على الدنيا بل يوجه خطابه لكل من حوله، لأهله لمعارفه، لأصدقائه، ولقرائه كلهم يحضرونه، وكل له عتبه الخاص، لم يفصِّلْ ذلك الشاعر لكننا نرى عبر الكلمات وكأن الكل مجتمعون عنده متحلقون حوله، هناك من يعتب عليه بالكلمات وهناك من يفعل بالنظرات و آخرون بصمتهم الذي يستطيع الشاعر التوغل فيه وقراءته …
و يستجمع أنفاسه، يحبسها يستأثرها للنفس الأخير محاولا قدر الإمكان الإقتصاد ما أمكنه كي لا يجهض أنفاسه وينهيها بنفس واحد…
وكأَنَّني .. وكَأَنّكَمْ .. وكَأَنّها ذاتِ المَرايا
تَحتوي ما قَدْ تَكاثَفَ منْ لُهاثِ العُمْرِ يجري
هنا يتحدث عن نفسه من خلال الكل (كأنني = كأنكم)=(كأنها) بمعنى أنه ومخاطبيه واحد بنفس المرايا تعكس أو تشمل مسار حياة كل واحد مِنْهُم، عمرٌ من السعي، الجد والكد .. عمرٌ بكل أحزانه، أفراحه و مسراته .. بكل سنينه، أيامه وساعته .. بكل تقلباته، ومفاجآته .. كلُّه مخبأ هنا بهذه الذاكرة المرآة ويجمعها تصبح مرايا شتى تجمع كل الصور و الذكريات.
هو العمر بكل متراكماته مجتمعا في نقاط شكلت كل أحداثه و أعبائه التي يلحق بعضها ببعض، فلا يكاد الشاعر يفيق من واحدة حتى تنثال عليه الأخرى . ومن كثرتها و ترادفها فوق بعضها البعض أصبحت تقول : “وَيّْ”
ولأن الوعي و التسليم بضرورة الموت لا يكون إلا من خلال الآخر، كان لابد للشاعر من مشاركة موته أو إحساسه بموته مع الآخرين . إذ يجعلُ الأنفاس بطريقة تصويرية تجتاز الخيال وتفوق المجاز، نفسًا وَاحِدَة،
والنُقاطُ تَرادَفَتْ تَنثالُ تَلْحَقُ بَعْضَها وتقولُ: وَيّْ
والنَّفْسُ في ذاتِ الحُلولِ هَيَ ذاتُكُمْ .. في ذاتِها
مِنْكُمْ لها.. مِنها لَكُمْ.. مّنّي لَها .. مِنْ ثَمَ ثانِيةٍ إِلَيّْ
وَكَأَنّها نَفَسي الأخيرُ في روحِها زَفَراتُ حَيْ
هي نفس واحدة متفرّقة في ذات الحلول، كما يؤكد الشاعر مختار العالم، فهي ذاتكم يعني نفس واحدة، أو نفسه في ذاتكم أنتم، في ذاتها هي (يقصد نفسه) منكم أنتم لها، منها هي لَكُم، منه هو (أي مختار الإنسان ويقابله مختار الشاعر) بمعنى (منه هو = منّي لها)، و مرّة ثانية له.
و كأن النفس في حلولها تعبر الذوات، منهم (جماعة مخاطبيه) يعني في ذاتهم، فهو حلولٌ فيهم،.. فيها ( في ذاتها) وفي هذا الحلول تعبرُ منهم لها، أي تحلّ فيهم و تحلّ فيها، فهي منكم لها ومنها لكم … وكأنها في تطواف دائم تعبر كل الذوات وتعود له، و يظنها نفسه الأخير في روحها زفرات حي. هنا يتحدث عن روحه بمنأى عنه و كأنها خارجة مِنْه، يُسْكِنُهَا روحًا أخرى و كأن روحه لها روح وتلك الروح فيها زفراتُ حي، والمقصود بتلك الزفرات وذاك الحي الشاعر. فهي نفس الروح، نفس الذات، هي منهم لها ومنها لهم، ومنه لها، هي في الأخير زفراتُ حي…
يتشاركون الموت، وإن تفرَّد كل واحد بنفسه إلاّ أن الموت واحد .. وكأنها تطوف بينهم و ستأخذ من كُتِب عليه الموت وتتركُ الآخرين إلى أن يحين وقتُهم . فالشاعر مختار يؤكد على كون النفس واحدة كما الموتُ واحد :
وكأَنَّني .. وكَأَنّكَمْ .. وكَأَنّها ذاتِ المَرايا
تَحتوي ما قَدْ تَكاثَفَ منْ لُهاثِ العُمْرِ يجري
والنُقاطُ تَرادَفَتْ تَنثالُ تَلْحَقُ بَعْضَها وتقولُ: وَيّْ
والنَّفْسُ في ذاتِ الحُلولِ هَيَ ذاتُكُمْ .. في ذاتِها
مِنْكُمْ لها.. مِنها لَكُمْ.. مّنّي لَها .. مِنْ ثَمَ ثانِيةٍ إِلَيّْ
وَكَأَنّها نَفَسي الأخيرُ في روحِها زَفَراتُ حَيْ
هي نفس واحدة تفرقت على الذوات، فهو يدرك بوعيه الباطني و اعتقاده الديني وإيمانه القوي أن الإنسان خُلِق من نٓفْسٍ واحدة، يقول تعالى في كتابه الحكيم : (( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) *١
“من نفس واحدة” المقصود بها آدم عليها السلام فهو أب البشرية و خلق منها زوجها يعني أمنا حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر، فقد خلق الله آدم ليكون أول خله “الله” من البشر وأول إنسان على سطح المعمورة خلقه ونفخ فيه من روحه .
وَقَال أيضا : ((إذ قال ربك للملائكة إني خَالِقٌ بَشَرًا مِن طين، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا له ساجدين )) *2
يقول سبحانه : ((ما خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ اِلَّا كَنَفۡسٍ وَّاحِدَةٍ‌ ؕ اِنَّ اللّٰهَ سَمِيۡعٌۢ بَصِيۡرٌ)) *3 وهذه تدل على قدرة الخالق سبحانه وتعالى في الخلق، فمن يخلق نفسا واحدة لن يستعصى عليه خلق نفوس كثيرة بنفس اليسر والسهولة التي خلق بها نفس واحدة يقول سبحانه: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) *4
وقال أيضا : ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون )) *5
والنفس لها معنيان الأول ككائن عضوي تنطبق عليه ظاهرة الموت ككل الكائنات الحية، ويمكن قتلها، والمعنى الثاني هو النفس الإنسانية التي تتوفى والمقصودة في الآية (الزمر 42) والموت بصفته نهاية الحياة (ليس المنام) متلازم مع الوفاة.
ونجد في قوله تعالى: “ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة” قال الضحاك: المعنى ما ابتداء خلقكم جميعاً إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثكم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة. قال النحاس: وهكذا قدره النحويون بمعنى إلا كخلق نفس واحدة، مثل “واسأل القرية” يوسف: 82 وقال مجاهد: لأنه يقول للقليل والكثير كن فيكون. ونزلت الآية في أبي بن خلف وأبي الأسدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:إن الله تعالى قد خلقنا أطواراً، نفطة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم تقول إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: “ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة” لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة. “إن الله سميع” لما يقولون “بصير” بما يفعلون.
يقول تعالى : ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) *6
وقد جاء في تفسير بن كثير ((كل نفس ذائقة الموت)) الآية يخبر بها تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرا كما كان أولا .
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية – أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ، ولهذا قال : ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )
وكَأَنّهُ نَفَسي الأخيرُ
والآنَ إنّي أعتَذِرْ
وَمِنْهُ قَلْبي يَعْتَذِرْ
والنّبْضُ أيضًا يَعْتَذِرْ
الآن وهو يحس بأنه ينازع يعتذر لأنه ليس بإمكانه شَيْء، إن حان أجله فليس بإمكانه أن يقدم أو يؤخر ساعة، يعتذر لذاته، لنفسه، لروحه، لعمره، لكلِّه.. يعتذر للآخر .. يعتذر لنفسه.
الآن فقط و بهذه اللحظة تمر حياته كلها أمامه كشريط فيلم يُعرٓضُ عليه .. يرى حياته بأفراحها و أحزانها بكل مفاجعها و أهوالها، ينظر الآن لنفسه، لأفعاله و تصرفاته، لمواقفه ، وردّات أفعاله … الآن فقط يدرك ماذا كان عليه فعله يُدرك غوغاء و فوضى الحياة التي عاشها بوعي منه أو بلاوعي فهو الآن يعتذر لعمره الذي أفناه في أشياء لا قيمة لها،الآن يعتذر لجسده الذي أنهكه و أتعبه .. الآن فقط هو يعتب على نفسه على فوضى الأزمنة التي انغمس فيها وأجبرته الحياة على ذلك ..
الآن فقط يتساءل عن سرّ الوجود ومعنى البذرة الأولى، عن معنى الحياة.. يتساءل ما المغزى من الحياة الذي يتبعه الموت، يتساءل عن بذرة التكوين التي خلق منها الإنسان، فالإنسان في الرحم يبدأ “نطفة” و ينتهي في القبر “بذرة”
يتساءل الآن عن الرحلة التي يقطعها الإنسان بحثا عن لُبِّ الأشياء لكنها تبقى لا مدركة …
يقول الشاعر مختار العالم:
بِها نَعْتَبْ.. بِها نَزدادُ في إدراكِ فَوضانا بِلا أَنْ نُدرِكَ المَعنى لِسِّرِّ البذرةِ الأولى
كَما في الروحِ.. أَوْ في المَوْت
إن الموت سرّ من أسرار الوجود الذي لا يمكن معرفته أو التوصل إلى كُنهه، فبالنسبة للفيلسوف الألماني هيدجر لا يمكن اعتبار الموت مجرد مشكلة تعترض الإنسان . فالمشكلة شيء يلتقي به المرء من الخارج، هذا الشيء يقف حائلاً دون تقدمه . أما الموت “هذا السرّ” كما عبّر عنه هيدجر (١) فهو شيء يتلبس بالإنسان ويغلف بغموضه صميم وجوده. فليس بمقدوره النظر إليه من الخارج، فهو (أي الإنسان) مرتبط به و مندمج معه وفيه. وبهذا المفهوم فإن سرّ الموت لا ينفصل عن صميم الوجود الإنساني مادام هذا الوجود زمنياً متناهياً يسير حتماً نحو الفناء.
وهذا ما يجعل شاعرنا مختار لا يكاد ينفصل تفكيره عن الموت فهو الان يشغله يقبع فيه يحيره يجعله يتساءل أسئلة تكاد تكون وجودية و إن غلّب مفهوم الدين عن الفلسفة. فهو تفكيره بعيد عن الفلسفة و التفلسف بموضوع إشكالي مثل الموت. لكن عنده عقلنة للأشياء تشبه الفلاسفة و إن كانت قناعاته الفكرية دينية محظة.
وإذا بحثنا في بعض آراء الفلاسفة والمفكرين عن الموت نجد كانط الذي كان يريد ان يثبت الخلود بحجج اخلاقية وذلك من خلال محاضراته ومؤلفاته : “ليس الموت إلا القناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً و أقوى مغزى وان ما يسميه القانون بالموت هو المظهر المرئي لحياتي وهذه الحياة هي الحياة الأخلاقية .. ومايسمى بالموت لايمكن ان يقطع عملي لأن عملي ينبغي أن ينجز لأنني يتعين علي ان أقوم بمهمتي فليس هناك حد لحياتي ,إنني خالد “(8)
أما ديكارت فرأيه عن الموت قائم على اسباب الطبيعة باعتقاده، وهو يجزم بقوله أن النفس تبقى بعد الجسد :”أعلم جيداً … ان لك ذهناً متقداً وأنك تعرف جميع ضروب العلاج لا تهدئ حزنك , لكن لا أستطيع الامتناع عن إخبارك بعلاج وجدته بالغ الأثر , لا في مساعدتي على ان احتمل صابراً موت أولئك الذين احبهم فحسب , وانما كذلك في القضاء على خوفي من موتي , وذلك على الرغم من أنني انتمي الى اولئك الذين يعشقون الحياة عشقاً جماً ..
ويتمثل هذا الضرب من العلاج في النظرة الى طبيعة انفسنا , تلك الأنفس التي اعتقد أنني اعرف بوضوح بالغ انها تبقى بعد الجسم وانها قد ولدت من أجل ضروب للفرح والغبطة أعظم كثيراً من تلك التي نتمتع بها في هذا العالم , وانني لا استطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون الى حياة أكثر سلاماً وعذوبا من حياتنا , و إننا سننضم اليهم يوماً ما , حامليين معنا ذكريات الماضي ذلك لأنني أتبين فينا ذاكرة عقلية من المؤكد أنها مستقلة عن الجسم “(12)
هكذا يظلُّ الموتُ سرّا لأننا كلما حاولنا إيجاد تفسير له، فهمه والتعمق فيه كلما ازداد عمقاً وغموضاً، فهو كحقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، فهو حقيقة واضحة ولا شك فيها، إلا أن هذه الحقيقة أو هذا “السّر” لا يمكن للعقل البشري الكشف عنه، وقد حاول الكثير من الفلاسفة والمفكرين كما سبق وذكرنا معرفة كُنْهِهٓا إلا أنها تبقى غامضة، وإن كان الإنسان يشعر بأن الموت كلغز ليست داخله في صميم وجوده، لكنه لا يتوا نى عن البحث و التفكير و التحليل لمعرفة حقيقة هذا السِّر .
فالإنسان بكل مكان و زمان، يسعى لأن يجد تفسيراً لذلك السر أي الموت، ليتوصل إلى كون الموت “حدث” لكنه يبقى مجهولا إلا أنه يضع المرء أمام حقيقة واقعة قد يتناساها الإنسان ويتجاهلها و يظن أنها لا تخصُّه و إن طالت الآخرين لن تطاله هو، إلى أن يجد نفسَه وجهاً لوجه أمام هذا السر، هذا الأخر الذي لا تفسير له سوى أنه لا يُفَسّر. وقد حاول الفيلسوف هيدجر أن يجهد ذهنه وقلبه وكل كيانه في البحث عن تفسير لذلك السّر الذي يغلف وجودنا، حاول ذلك بكل ما أوتى من ذكاء وحكمة وخبرة، فكانت ثمرة ذلك المجهود تفسيراً هاماً عن الموت، الذي قد نتفق أو نختلف معه حيال بعض الأفكار التي جاءت في تفسيره.
يقول هيدجر :”إننا يمكن أن نجد فى موت الآخرين معرفة أولية للموت من حيث إن الموجود الإنساني الميت يملك نفس نمط وجود الموجود. لكننا لا نتعرف على موت Das strebenالآخرين بالمعنى الحقيقي، بل إننا على أقصى تقدير نكون بالقرب منهم (2) لأن معاناة الميت موته ليست بأى شكل من الأشكال شبيهة بمعاناة أهله الذين يعانون فقد وجوده، فشتان بين أن تعانى الموت وأن يموت لك أحد؛ لأن الموت هو دائماً الإمكانية “بالغة الخصوصية من حيث إنه يخصنى أنا”، وهو إمكانية لا يملك موجود كائناً ما كان أن يفضها عنى. صحيح أن بإمكان المرء أن يجود بنفسه فداءً للآخرين أو دفاعاً عن الوطن، غير أن هذا يعنى دائماً أن يضحى بنفسه من أجل الآخرين، لكن “لاأحد يمكنه أن يدرأ الموت Streben abnehmmen عن الآخرين”(3)، وذلك لسبب بسيط هو أن الموت إمكانية تقبع فى الموجود الإنساني نفسه وليست شيئاً يأتيه من الخارج هذا يعنى أن الموت “تكويني بالنسبة لوجود الموجود الإنساني”(4)، بمعنى أن الوجود الإنساني لا يلتقي بالموت فى نهاية حياته، وإنما هو يموت فى كل لحظة تسقط من لحظات حياته، إنه على وجه الدقة “يحيا موتاً”، والموت هو الذى يكون وجوده، بل هو حبل الوجود؛ إن “الموت صرخة اللا شيء … وبما أنه صرخة اللاشيء فهو حبل الوجود”.(5) فبأى معنى يكون الموت حبل الوجود؟ هل هو ما يثبت الوجود ويجعله راسياً أم يكون الحبل تعبيراً مجازياً عن الإمكانية التى لا تنفض؟ على أية حال يظل الموت إمكانية فريدة لا تخص إلا الموجود الإنساني، أما الكائنات الأخرى فإنها تنفق Verenden.”
على _ حد تعبير هيدجر_ الموتُ « ظاهرة يجب فهمها وجودياً». وهذه الظاهرة لا بد من توضيح معناها وتحديد معالمها.
الناس العاديون لهم أفكار مُختلفة وغير محددة عن الموت، فالموت بالنسبة لهم حادث يحدث ويقع باستمرار وكل يوم، لكن لا يمكن اعتبار الموت حدثا مألوفا وإن ألفه الناس واعتبروه “حالة وفاة” أو “نهاية لكل حي” سواء طال عمره أو قصر .
فالموت يظل شيئا بعلم الغيب رغم ما أخبرنا عنه وما جاءت به الشريعة الإسلامية من توضيحات وتفسيرات يبقى غامضا وفوق إدراك البشر.وقد يصيب الآن إنسانًا بالذات بوقت محدد و لن يصيب الآخر إلاّ لاحقًا. هكذا يكون مألوفا إن أصاب بعيدا و بعيدا عن المألوف إن أصاب قريباً، يكون وقعه مخيفا، صادما .. غير متوقع ومفجعًا، فالفاجعة تهز الإنسان، تعقد لسانه تجعله وكأنه أول مرة بحياته يسمع عن الموت فيبحث داخله عن مفهومه فيلتجىء إلى الميتافيزيقا ليبحث عما يناسبه كمفهوم له سواء عبر الخرافة أو الدين أو الفلسفة، يبحث عما يسكّن جزعه، خوفه ، قلقه و آلامه … ولا يتوقف هذا البحث إلا عندما يعود الإنسان إلى طمأنينته، حياته العادية وخموله الفكري البعيد كل البعد عن التفكير بالموت .
وقد بعث الله سبحانه وتعالى رسائل واضحة وصريحة عن الموت وعن البعث. هكذا اطمأن قلب المؤمن واستطاع المسلم إيجاد تفسير للموت وإيجابيات واضحة عن البعث وعن مصير الإنسان.
نجد الله سبحانه وتعالى يجيب المشككين في مسألة البعث فمن قدر على ابتداء الخلق، قادر على الإعادة، وهي دلالة تقريرها ظاهر في العقل، وقد ورد الدليل على ذلك في هذه الآية : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } *7، وفي {وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة } *8، وفي : {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} *9 .
وجاء أيضا في القرآن الإستدلال عن وقوع الحشر لمحاسبة العباد، فلو لم يكن هناك بعث للحساب والجزاء لانتفت صفة العدالة في حقه سبحانه وتعالى: { إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} *10، وقال تعالى: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى }*11، فلولا البعث لكان هذا الخلق عبثاً، وقال الرازي في تفسيره: ” واعلم أن من سلّط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك إما للعجز أو للجهل أو لكونه راضيا بذلك الظلم، وهذه الصفات الثلاث على الله تعالى محال، فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين، ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا، وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا “
وخلافا للشريعة الإسلامية نجد بعض الفلاسفة وإن اقتربوا من مفهوم الموت وأملوا بوجود حياة أخرى بعدها إلا انهم لم يصلوا للحقيقة، فرأي بعض الفلاسفة مثل “باسكال” عن الموت هو ان الخير في هذه الحياة لا يكون دون أن نأمل في حياة اخرى :”ليس هناك خير في الحياة إلا الامل في حياة أخرى , ولا يكون المرء سعيداً إلا بقدر اقترابه من هذا الامل , وكما أنه لن تقع ضروب من سوء الحظ لأولئك الذين يمتلكون ناصية اليقين القوى في الأبدية ، فكذلك ليست هناك سعادة لأولئك الذين لا يميلون لذلك “ (6).
هكذا ظلَّ الموت يشغل تفكير المرء منذ بداية الخلق و وجود الإنسان على ظهر الأرض وامتداده بهذه الدنيا . فقد شكّل حيِّزًا كبيرًا من تفكير البشر على اختلاف اعتقاداتهم، عقائدهم، جنسياتهم، لغاتهم، رؤاهم ونمط تفكيرهم وفلسفاتهم .. فالموت عبر العصور يشكِّل تهديدا للوجود (الإنسان وباقي المخلوقات) لكنه كان يثير في الإنسان كعنصر مفكر القلق و الأرق و المعاناة، ما يحرّك فيه الفضول لمعرفة سر الموت .
لهذا نجد الشاعر مختار العالم يتساءل و يبحث عن سر الوجود(الموت#الحياة) فيقول :
والوَعْيُ واللاوَعْيُ في غَوغاءِ أَزْمِنَةٍ بِها نَتْعَبْ
بِها نَعْتَبْ.. بِها نَزدادُ في إدراكِ فَوضانا بِلا أَنْ نُدرِكَ المَعنى لِسِّرِّ البذرةِ الأولى
كَما في الروحِ.. أَوْ في المَوْتِ
أَوْ في رِحْلَةٍ لِلُّبِّ في الآفاقِ لا تُدْرَكْ
هو يبحث داخل غوغاء الأزمنة وفوضى الحياة عن هذا السر اللاّمُدرك، يتساءل كيف تمرّ الأزمنة عٓبٓثًا ولا يحقق فيها الإنسان المُراد، لا يصلُ للُبِّ الأشياء و كُنْهِهٓا، كيف يعيش فوضى الحياة دون أن يدرك سر الوجود .. دون أن يعي سرّ الروح و سرّ الموت. ولكن ما أبعد ذلك السرّ عن الإنسان؟ فمن أين للمرء أن يكتشفه؟ فهو حين يأتي لا يترك ورائه سوى خوف، حزن وصمت رهيب ..
هذا التساؤل للشاعر لا ينفي أن الأقوام البدائية أدركت مصيرها بوعي منها بهذه النهاية المحتومة أو بلا وعي، فهمت أن مآلها للفناء، والمقصود من هذا الفناء “فناء الجسد” فاختلقت داخل الميثولوجيا طقوسا احتفالية جعلتها ضمن عاداتها اليومية لتحقق السلام الداخلي وتؤكّد الإنبعاث فاختلقت قصصا مثيرة عن الموت أبطالها أسطوريين وهذه القصص المختٓلٓقة عن الموت دفعت المفكرين والفلاسفة للبحث عن تفسير منطقي ومقنع للموت .
فالفلسفة اليونانية “سقراط وأفلاطون ” حاولت واجتهدت في الانتصار على الموت وخلود الروح في العالم الآخر. لكن مفهوم أبيقور للموت كان مختلفا فهو جعل من الموت لحظة حاسمة تتلاشى فيها الذرات المكونة للجسد والروح معا لينعم الكائن البشري بعدم مطلق بعد فنائه.
وبعيدا عن الفلسفة اليونانية نَجِد هيدجر يؤكد على أن« الوجود الإنساني وجود متناه، وهذا التناهي هو مصدر القول والفعل. وإننا نمارس القول والفعل بالرغم من الموت. فالموت ليس شيئاً عارضاً بل هو نسيج الوجود الإنساني». هكذا فإن الموت ليس حادثا طارئا يصيب الأحياء، بل الكائن الحي يحمل موته معه منذ فتح عينيه بهذه الدنيا وتنفس الحياة. فالناس يتوهمون أنه باستطاعتهم الفرار من الموت ويعتقدون أنهم يفرون فعلا منه. وذلك إما بحصر التفكير بالموت في عد الوفيات وإحصاء الموتى، أو بالرجوع إلى يقين “كل نفس ذائقة الموت”، فالموت بهذا الشكل يخصّ الناس و لا يخصّ أحدا بالذات، مع أنه« في الموت يتم الشعور بالفردية إلى أقصى درجة إذ يشعر من يموت أنه يموت وحده لا يشاركه في موته أحد».
يرى هيدجر في كتابه” الوجود والزمن”، الذي كتبه في عام 1927، أن الموت يعطي جدية للوجود الإنساني، فعندما ينفتح الإنسان على إمكانية الموت يدرك أن الإمكانيات الكثيرة الذي يريد تحقيقها ليست هي الهدف، فالموت إذن بمثابة تذكير للإنسان بنسبية أي إمكانية.
“لـيس الموت في نظره مجرد فكرة تعبر عن الـخاتمة أو الانـتهاء، بل هو إمكانية معاشـة تعبر عن فـعل الـتناهـي أو الانـتهاء. وهذا هو السبب في كونه لا يرى في الـموت عـرضاً أو حـادثاً يأتي إلينا من الخارج، بل هو يرى فيه أعلى إمكانية من إمكانيات الموجود البشري” (7)
فهو يعتبر أن الوجود للموت يقوم على الهم، لأن الآنية تموت دائما في كل لحظة بين الميلاد والوفاة، والمقصود بـ”الآنية” أو “الأنا” الموجود، يعني أن الإنسان قد يموت بأي لحظة يعيشها أو يقضيها في خط حياته.
الموت
الولادة__________________________________________التناهي أو الإنتهاء
/________________خط الحيـــــــاة__________________\
فالموت للوجود عند مارتن هيدجر هي أخص امكانيات الآنية، فهي التي تجعلها تنفتح لذاتها وتعطيها القدرة على انتزاع نفسها بعيدا عن الناس وعن ضياع حياتهم اليومية، بل وتمنحها الحرية من أجل الموت. وتنأى بها من كل انوع التستر والتهرب وتبلغ ذروتها في التصميم.
الآنية أو الأنا حسب كانط موجودة دائما في كل مراحل المعرفة الحسية والقبلية (8). فـ “الأنا الاصلية” عند هيدجر والتي كشف لنا الهم عن وجودها، ليست هي الأنا التي يرددها الناس تكون مشغولة بالموجودات الخارجية ومتهربة من وجودها الأصيل الذي يحمل هم وجوده للموت. فالأنا الأصلية تتمثل في التصميم وما يشمله من توحد وقلق وشروع كل الإمكانات وفهم وانفتاح.
و هذه الأنا المشغولة بالموجودات والمتهربة من وجودها هي التي عبّر عنها الشاعر بقوله:
تَحتوي ما قَدْ تَكاثَفَ منْ لُهاثِ العُمْرِ يجري
فهو الآن يدرك أنه في خضم الحياة و متاعبها ومشاغلها كان مشغول عن ادراك هذه الحقيقة “الموت” وإن كان يدركها ويعلم أنها هي نهاية المسار و أنها قد تكون بأي لحظة إلا أن فوضى الحياة أنساه حقيقتها .
وعي + لاوعي الشاعر
الولادة _____________________________________الموت
/__________غوغاء الأزمنة + فوضى الحيـــــــاة___________\
فالحياة والموت يرافقان الإنسان منذ ولادته، يمشي بِهِمَا، يقف بِهِمَا، يتعثّر بِهِمَا.. ويفكِّر أيضًا بِهِمَا ولا يدرك سر الحياة ولا الموت. إذ نجد الشاعر يعي جيدا أن الإنسان بإدراكه المحدود لا يمكنه الوصول إلى كُنْه الأشياء اللّامُدرَكة مثل الروح والموت. وإن كان يدرك بحكم معرفته وإيمانه بالأمور التي وجد لها الإسلام تفسيرا أن بعد الموت بعث، فحياة ثم حساب و يليها جنة أو نار.
يقول سبحانه وتعالى : { وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوح قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا } *12
وقال أيضا : {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } *13
فالله سبحانه جعل الأرض داراً لبني آدم في الحياة الدنيا، فيها محياهم ومماتهم وفيها يُقبٓرون، ومنها يخرجون أي منها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع اللّه فيه الأولين والآخرين ويجازي كلا بعمله.
لهذا يتساءل الشاعر عن معنى أن يفرح الإنسان أو يحزن، وما معنى هذا اليوم، يوم الحقيقة، اليوم الذي يهرب منه الكل، يوم مواجهة الذات ومعرفة حقيقتها، اليوم الذي ينجح فيه البعض ويرسب البعض الآخر كل حسب عمله ونفسه الطيبة التي تحثه على العمل الصالح، أو الشريرة التي تقوده للمهالك .. إنك الآن تواجه مصيرك، يأتي الموت ومعه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب. فتكون إما في رحمة وعتق أو مهانة وعذاب .
هكذا فإن الموت لا يصحبُ المرء في رحلة حياته فقط بل هو داخل فيها منذ لحظة الميلاد، ولهذا يعتبر الفلاسفة وجود الإنسان وجود نحو الموت، وقد عبّر هيدجر عن هذا بقوله : «مع الموت يقف الوجود الإنساني أمام ذاته في إمكانيته». ويفسر هذا بأن يعتبر وجوده وجودًا نحو الموت، وبما أن الموت إمكانية من الإمكانية القصوى للإنسان، فإن الإنسان يتساءل عن سرّ وجوده الذي يدفعه ليموت، أي أنه لا معنى لوجوده ولا داعي له مادام يسلك طريقه متجها نحو الموت
. هكذا يجد هيدجر الحل في تحويل وجوده إلى عمل يكثف فيه إمكانياته قصد أن ينكشف له الوجود، فالإنسان في بحث دائم عن الغاية من هذا الوجود خصوصا عندما يواجه الإحباط أو الموت . فالموت حسب هيدجر *واقف في انفتاح الوجود* هكذا فإن الموت أوالفناء هو الذي يميز الوجود الإنساني، وقد اعتبر الفلاسفة أن الوجود البشري بطبيعته وجود للموت أو من أجل الموت، بمعنى أن الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان هو وجوده، وأيضا هو الشيء الوحيد الذي هو مُعرَّض لفقدانه في كل لحظة.
هكذا يتساءل الشاعر عن عمره الذي يدفعه باستمرار نحو الموت ونحو الهرم، هنا لا يوجه السؤال لنفسه فقط بل لمخاطبيه، مامعنى أن نقطع في الحياة عمرا يدفعنا للهرم؟ ويتكلم بلغة الجمع أنه رغم كل شيء مرّ، رغم المصائب، الأحزان والآهات.. يؤكد بلغة الـ “نحن” أحزاننا وأفراحنا لا تهرم فنحن نتذكرها ونعيدها للذاكرة باستمرار.. أو تعيدها الذاكرة إلينا لا فرق فهي دائما حاضرة، متواجدة حيّة وتحيا فينا ما دبّت الحياة بأوصالنا.
ما معنى كل هذه الرحلة التي يخوضها الإنسان و تدفعه للهرم للفناء … لكن يظل الحزن كما الفرح لا يهرم، فهو كإنسان رغم الظروف، رغم مشاق الحياة ونوائب الدهر يحافظ على بستمه، فهي لا تهرم، لا تصغر ولا تكبر ولا تفنى .. يرسمها على وجهه كما هي فلا يستطيع أن يصغرها ولا أن يرسمها بخطٍّ عريض، هي بينٓ بين تُرسَم على محيّاه.
ولا يفوته أيضا استحضار بسمة، وضحكة وفرحة الذين حضروه الآن كلها مجتمعة تعيد أنفاسه و تجتمع برئته فيتنفّٓس … عميقًا يتنفّٓس، يتنفسُ حياته، وجوده، ذكراه، ماضيه وحاضره .. يتنفس فوضاهُ، القهرٓ والتعب .. نفٓسٌ يحصُر فيه كلّ شيء، تعبه وعتبه على نفسه، على ذاته .. على أشياء يعود إليها بوعي منه وبلا وعي. وهذا بديهي فالمرض غالبا ما يصيب الإنسان بالحمى تجعله يهلوس ودون إدراك منه يعود بعقله الباطن للوراء، للماضي لأشياء تتعبه وتجعله يعتب على نفسه. وهذا ما عبّٓر عنه مختار العالم بقوله:
والوَعْيُ واللاوَعْيُ في غَوغاءِ أَزْمِنَةٍ بِها نَتْعَبْ
بِها نَعْتَبْ.. بِها نَزدادُ في إدراكِ فَوضانا بِلا أَنْ نُدرِكَ المَعنى لِسِّرِّ البذرةِ الأولى
كَما في الروحِ.. أَوْ في المَوْتِ
أَوْ في رِحْلَةٍ لِلُّبِّ في الآفاقِ لا تُدْرَكْ
فَما مَعنى بأَنْ نَفْرَحْ؟!
وَما مَعْنى بأَنْ نَحْزَنْ؟!
وَما مَعْناهُ هَذا اليّومُ.. وهذا العُمْرُ يَدْفَعُني.. ويَدْفَعُكُمْ لِكَيْ نَهْرَمْ؟!
وفينا الحُزْنُ والأفراحُ لا تَهْرَمْ
الشاعر مختار العالم يعلم أن الإنسان مهما عاش ومهما عمّر بهذا الوجود سيكون مآله في نهاية المطاف للفناء. والموت هي وسيلة الإنسان في الوصول للنهاية، نهاية هذه الحياة. فكل حي سيموت والموت شيء متوقع بأي وقت وبأي لحظة. فبالنسبة لوعي الشاعر الموت حاضر وليس بعيد وقد يقع الآن . هكذا أصبح عنده شيئا بديهيا وحتميا. وبه أصبح لحياته هدف ومعنى، أصبح له وجود، ولوجوده معنى وغاية .. أصبح يفكر في عمره وأين أفناه.
الموت عند هيدجر لابد منه فهو الضريبة الفادحة التي لابد للموجود البَشَرِي المتناهي حتى يتمكن من أن يحقق مصيره في الزمان. فالوجود البشري عنده وجود متناهي يسير نحو الموت، فيقول بأن” موتي هو أعلى إمكانية من إمكانياتي، وتلك هي إمكانية عجزي عن تحقيق أي وجود في العالم”.
وقد عبّر زكريا إبراهيم عن ذلك العجز بقوله : إن الموت:« هو مرض ميتافيزيقي لا علاج له! إنها لعنة التناهي التي تخل بالإنسان منذ ولادته، وكأنما كتب عليه أن يموت لمجرد أنه قد ولد! آية ذلك أن الإنسان” يموت”، لا لأنه” يمرض” أو” يهرم” أو” يصاب بحادث”، بل لمجرد أنه” يولد” أو” يعيش”! والموت حق على كل إنسان: فإن ضرورة الفناء لهي_ بمعنى ما من المعاني_ ماهية الحياة ». (9)
العمر عند مختار العالم لا يُحتٓسٓبُ بعدد السنين التي مضت أو حسب الإنجازات التي أنجزها. بل العمر عنده عدد ما تراكم من هموم، أحزان وأفراح ومسرّات، هو يحسب عمره بما اكتسبه من خبرات ساهمت بنضجه العقلي، وغيرت نمط تفكيره . أصبح ينظر للأمور بطريقة عقلانية أكثر. العمر عنده ما قضاه في حياته من سنين عرف فيها المشاعر، الحب، الأفراح والمسرات.. عرف فيها الإنسان وقيمة الإنسان في هذه الحياة .. هو اللحظات التي يحس فيها أن هذا النفس سيكون الآخير، هذه الهنيهات التي يودِّعُ فيها ذاته، الحاضرين وكل شيء، يودع نفسه ومتعلقاته، يودع شيئا كان، يودع إنسان، يودع رجل .. يودِّعُ “مختار” ..
وبكل عزم تنوي روحه الرحيل، والجسد النحيل تراخى حضنه، والقلب الآن عرف أو أيقن أن هذه هي الحقيقة، الآن سوف يدق دقته الأخيرة..
هكذا هو ينوي الرحيل بعدما أحس أنه الموت لا محالة، سيرحلُ ويترك وراءه كل شيء “بسمته، ضحكته، فرحته..” لا يأخذ معه سوى نفسٓه الأخير. يأخذه وقد حمّل ما فاض من عمل يؤهِّله لتجاوز رحلته الأخيرة ليبدأ حياة أخرى بعالم آخر.
وَكَأَنَّهُ نَفَسي الأخيرُ
أوْ أَنَّهُ نَفَسي الأخيرْ
والروحُ يَنوي لِلرحيلْ
فَلَقَدْ تَراخى حَضْنَهُ الجَسَدُ النَحيلْ
والقَّلْبُ قَدْ عَرِفَ الحقيقَة
سَيَدُقُ دّقَّتَهُ الأخيرة
هكذا يسير في طريقه نحو الموت بكل قبول ورضا واستسلام، يقطع الزمان في مسافة واحدة تحمل كل متراكمات الماضي، لكنه يتركها ولا يحمل معه سوى عمله من أجل المستقبل، من أجل الآخرة التي اجتهد لينال فيها أحسن ما يمكن لمسلم الفوز به *الجنة*
الزمن الآن عند مختار العالم هو هذه اللحظة التي يشعر فيها بموته في “الحاضر” الذي تزمّن في الماضي ويتوق للمستقبل. يعتبر ﻫﻴﺪﺟﺮ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ وﺟﻮﺩ ﺯﻣﻨﻲ ﺃﻭ ﻣﺘﺰﻣﻦ : فالزمن ليس مستقل ﻋﻦ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ بل ﻫﻮ ﺇﺣﺪﻯ ﺭﻛﺎﺋﺰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ بعالمه الموجود فيه ﻋﻼﻗﺔ “اﻫﺘﻤﺎﻡ” ..أي أن اﻟﻌﺎﻟﻢ هو ﺃﺩﺍﺓ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ، هذه الأخيرة التي بواسطتها ﻳﺤﻘﻖ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺫﺍﺗﻪ، فـ (هناك ﺇﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﺗﺤﻘﻘﺖ ) باﻟﺰﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ و(ﻫﻨﺎﻙ وﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ) ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ و(ﻫﻨﺎﻙ اﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺎﺣﺔ ) ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ وهذا يعطي الإنسان وعيا ﺑﺎﻟﻤﻮﺕ ﻭﺑأن الموت هي اﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻷﺧﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﻀﻲ ﻋﻠﻰ ﺑﺎﻗﻲ اﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺎﺕ للإنسان.
هكذا يكون الإنسان ﺧﺎﺭﺝ ﺫﺍﺗﻪ .. ﻳﺴﻌﻰ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻋﻦ طريق ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ .. فوجود الإنسان رهين بما سيحققه للمستقبل.
إلا أن ﺳﺎﺭﺗﺮ يسمى ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ باﻟﻮﺟﻮﺩ ﻟﺬﺍﺗﻪ.. فالإنسان ﻳﺪﺭﻙ ﺃﻥ اﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﻣﺤﺪﻭﺩﺓ ﺑﺴﺒﺐ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻤﻮﺕ.. بهذا ﻳﺘﺨﺬ ” ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ” ﻃﺎﺑﻌﺎ جديا ﻭﺣﺎﺳﻤﺎ. يصبح الإهتمام – ﺗﺒﻌﺎ للقصدية – ﺍﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑﺸﻲء ﻣﺎ. (10)
لكن هيدجر جعل “ﺍﻟﻘﻠﻖ” يحل ﻣﺤﻞ “اﻻﻫﺘﻤﺎﻡ”. فالقلق بالنسبة له تجربة ﺃﺻﻴﻠﺔ ﻟﻠﻌﺪﻡ”. هكذا فإن لحظة ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ” ﺍﻧﺼﺮﻓﺖ ﻭﻟﻢ ﺗﻌﺪ موجودة”، ﻭاللحظة ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻠﻴﺔ” ﻟﻢ توجد ﺑﻌﺪ”. ﻭﺍﻟﺤﺎﺿﺮ “وﻫﻢ” فهو ﻏﻴﺮ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﺭﺍﻫﻨﺎ. فإﺫﺍ ﻛﺎﻥ اﻟﺤﺎﺿﺮ ﻋﺪﻣﺎ .. ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ وﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩ.
أما نيتشه ‪Nietzsche فيقول :”إذا كنا نعيش متجهين إلى الأمام، فإننا نفكر دائما متجهين إلى الوراء. هذا يعني أننا لا نوازي زمنيا بين العيش والتفكير، وبين الذاكرة، هذه الخزانة الكبيرة التي تحتفظ بكل الذكريات التي هي سبب تعاستنا” لهذا يبحث نيتشه عن حل للخروج من هذا المأزق الوجودي بنظرية العود الأبدي التي يقول فيها : “كل شيء يمضي كل شيء يعود، وتدور الى الابد عجلة الوجود، كل شيء يموت كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الاشياء كلها تعود في خلود ونحن انفسنا كنا بالفعل مرات، لاحصر لها، ومعنا كل الاشياء”. (11)
لكنه بهذا يلغي القيمة الوجودية للشخص في حد ذاته، ويسلبه خصوصيته الفكرية والوجدانية، ما يناقض المفهوم الذي كفلته الأديان السماوية للإنسان التي تمنحه حق الوجود الذاتي، واختيار المصير الذي لا ينتهي بفناء الجسد.
وإذا عدنا إلى تفكير نيتشه عن “الذاكرة” فهو يجعلها سببا رئيسيا للتعاسة، ويكرر وجود الإنسان لمرات. لكن شاعرنا يكرر وجوده في الزمنين الماضي والحاضر عبر الذاكرة، فهو عندما يعود للماضي في حاضره يصبح كما لو أنه فعلا يعيش بالماضي ، يعود لكل شيء ويتذكر كل شيء كما لو كان يحدث الآن، وعندما يستفيق من غفوة الماضي يعود للحاضر لـ “لآن” .. هكذا تعود الأفكار لتتسرب داخل ذهن شاعرنا مختار تعيده بالذاكرة لوجود آخر، وجود “كان” فيما مضى وأحداثه الآن أصبحت طيف ذكرى يراوده . وجودٌ بماضيه ليس كوجوده الآن، وإحساسٌ ليس كهذا الذي يشعر به الآن ..
وجود بالماضي وعنفوان الشباب، الطاقة، القوة، الصحة والإندفاع. ماض كان يطمح فيه لتحقيق أشياء كثيرة .. ووجود الآن بعد سنين من العمر قضاها بجد وكد، في العمل، والسعي للمعرفة والتحصيل ، والان بعد مرور سنين من عمره وبعدما ساءت حالته الصحية نجده يعود للماضي ليس لأن ماضيه مصدر تعاسته ولكنه يعود بحثا عن مصدر قوته، عن مخزون طاقته الإيجابيّة “ابتسامته” البذرة التي أزهرت بقلبه وكان يجني ثمارها كل من يعرفه و كل من يلتقي به. الشاعر مختار لا يؤمن بنظرية العود الأبدي، بل هو يعيد الماضي بكل مافيه ويستعرضه ليستخرج منه كل ذكرى يحتاجها الآن، كل شيء له علاقة به، بوجوده، بما كان، من حوله وما هو كائن .. فهو بموقف صعب جدا. قلّما يواجه فيه الإنسان بكل جدّية نفسه ويواجه ذاته، فما بالك بشاعرنا الآن يصبح والموت وجها لوجه فهي تعكس ذاته الاخرى تريه حقيقته ومن هو تجعله ينظر لنفسه من الداخل يقيِّم حقيقة وجوده وأفعاله . وإن كان شاعرنا يواجه نفسه دائما، يعاتبها، يوبخهما .. لا يهدأ باله إلا عندما يحاسب ذاته . فهو لا يعيش لنفسه “لمختار” بل يعيش “لهم” فكل الدنيا عنده “مختار” ، هو يحبهم كما يحب نفسه بل في أحيان كثيرة يفضلهم على نفسه . وهذا كان في بعض الأحيان يجعله يتألّم، يتعذب ويدفع الثمن غاليا من وقته وصحته ..
الشاعر لا يعرف حقيقة الموت مثلنا مثله في هذا، فنحن كبشر عرفنا الموت من خلال من سبقونا وماتوا، لكن تبقى معرفة الموت معرفة سطحية ليست مباشرة ولا عميقة، نحس بالحزن و بالألم الشديد لفراق أهلنا و أحبائنا لكن لا نعرف حقيقة ماذا يكون إحساس الميت وهو يموت. فبموت الآخر نكتسب تجربة أولية بخصوص الموت. لكننا لا نعرف معنى الموت الحقيقي. فشتان ما بين من يموت”الميت” و بين أهله الذين يتحسّرون على موته ويعانون خوف فقدانه للأبد. فالأكيد أن الموت قادم لكن لا نعرف متى ولا أين. وربما الآن مختار العالم عرف معنى انتظار الموت أو جرّب إحساس من يوقن أنه سيموت الآن . إلا أننا قد نتفق على كون الإنسان لا يعرف الشعور الرهيب بالموت إلا في سياق علاقته بالآخر، فالوعي بضرورة الموت لا يستيقظ فينا إلا من خلال المشاركة. فالإنسان ودون شعور منه تكمن فيه “غريزة الموت” التي تعيده إلى نفسه و إلى ذاته تعيده إلى ما قبل الكينونة بلا آخــر ‪l’autre أي حالة اللاموضوع”.
إذن ما جدوى هذه الرحلة التي يخوضها الإنسان في مسار حياته ويكون مصيره الموت؟ ما الداعي لكل هذا العناء في الحياة ولكل هذه المعاناة التي يعرفها الإنسان ؟ لما كل هذا التسابق مع الزمن ولأجل ماذا؟ كل هذه الأسئلة قد تخطر ببال أي شخص، تحبطه، تتعبه وترهقه … شاعرنا الآن يدرك جيدا أنه “الموت” يحسُّه قريبا جدا وقد يكون الآن بهذه اللحظة، لكنه لم يفكر بالموت كموت، تساءل لكنه لم يحاول البحث عن إجابة بل هو تناول موضوع الموت من كونه حقيقة لابد منها وزائر موجود الآن . هو ركز على اللحظة التي يشعر فيها أنه سيموت .. ركز على “الآن ” لحظة التلاحم والإنسجام الفكري الباطني بالشعور باقتراب أجله وكأن ملك الموت واقف أمامه الآن، وهو في محاولة منه لأن يستجمع طاقته وأنفاسه في نفس أخير يمهله بعض الوقت لينظر في وجه أحبائه وكأنه يطلب مهلة لوداعهم، مهلة يعيد فيها مسيرته الحياتية، فهو الآن لا يأسف بقدر ما يشفق على أهله ويحزنه تركهم، هو يفكر بمعاناتهم لفراقه.
الشاعر الآن بمرحلة الإدراك وحتمية الموت الذي يراه قريبا يحصي عمره، يأسف على أشياء فعلها وأخرى لم يفعلها، يجمع كل قواه في نفٓس وحيد وأخير، ينظر لنفسه من خلال فيلم حياته الذي تستعرضه ذاكرته بكل ما فيه من أفراح وأتراح، بكل نوائبه و مسراته.. بكل دموعه وابتساماته.. عمر قطع فيه الكثير من الأشواط ، عرف فيه النجاح والإخفاق، الصعود والنزول ..
“وَكَأَنَّهُ نَفَسي الأخيرُ _ أوْ أَنَّهُ نَفَسي الأخيرْ”
هو الآن يؤكد لنا ولنفسه أنه حتما نفٓسه الأخير وأنه الموت هذه المرّة لا مٓحالة، فليست المرة الأولى التي يزوره الموت فيها فهو بحكم مرضه تعرض لوعكات صحية عديدة تجعله يظن بكل مرة أن موته سيكون بإحداها.
فالموت له حضور قوي في حياته فهو يحس أنه يسير جنبا إلى جنب مع الموت، بموعد معه. هذا الإحساس يرافقه دائما وقد ازداد الآن مع سوء حالته الصحية .. شاعرنا لا يخاف الموت وليس ضدها لكنه يؤمن بأن في غياهب المـوت تكمن البداية الحقيقية للحياة، وأن الموت ليس سوى جسر عبور للحياة الحقيقية والأبدية، يعلم تمام العلم أن هذا الزمن الذي يقطعه في موته -الحياة المؤقتة- ليس سوى مرحلة تأخذه للحياة . فالموتُ كفعل لن يتحقق إلا من خلال الحياة والحياة لن تأتي إلا بالموت . هكذا تتقلب الأزمنة، فزمن الحياة يُلغيه الموت، ثم تُبعثُ الحياة بزمن آخر يلغي بدوره زمن الموت .
فالشاعر بحكم عقيدته الراسخة وإيمانه بالبعث متأكد أن في موته خلاصه وفيه الراحة التي ينتظرها، وهذا لا يعني أنه لا يحب الحياة و ليس متشبّتًا بها لكنه مُسٓلَّم بأن نهاية التعب “راحة”، ونهاية الحياة “موت”.
_____________________________ خط الحياة
يسيران متوازيان يجتمعان في نقطة النهاية = “موت” + “بعث
_____________________________ خط الموت
وهذا التفكير يتناسب ونظرية هيدجر عن الموت إلا أنهما يختلفان بمسألة البعث، هيدجر يقر بأن موته ليس واقعة تظهر بختام حياته بل هو واقعة ماثلة في صميم حياته بكل لحظة وغير منفصلة عن فعل وجوده.
يقول هيدجر:« وبقدر ما تكون الآنية _ ما بقيت كائنة_ هي ما ليس بعد، بقدر ما تكون دائما هي نهايتها. والانتهاء الذي نصفه بالموت لا يعني بلوغ النهاية، بل يعني الوجود من أجل الانتهاء». بمعنى أن الموت أسلوب في الوجود لا يكاد ينفصل عن حياة الموجود البشري. فكم من آنية انتهت قبل أن تبلغ الكمال؟ وكم من آنية بلغت الكمال قبل موتها أو انتهت مستهلكة بعيدة كل البعد عن الكمال؟
فالإنسان قد يموت بأي مرحلة من مراحل حياته، وقد يبقى إلى أن تدب فيه الشيخوخة وقد يصل من الهرم حدّ الإعتقاد بامكانية الموت. وهكذا فإن فعل الحياة ينحصر في كوننا نحيا موتنا، بأي لحظة تكون نهايتنا حاضرة قبل أن تحين ساعة الموت، هكذا نصبح والموت وجهًا لوجه، بمعنى آخر أن تقبّلنا للموت ليس سوى انتظار مستمر للنهاية .
وهذا ما يعبر عنه الشاعر مختار العالم بقوله:
وكأَنَّني .. وكَأَنّكَمْ .. وكَأَنّها ذاتِ المَرايا
تَحتوي ما قَدْ تَكاثَفَ منْ لُهاثِ العُمْرِ يجري
والنُقاطُ تَرادَفَتْ تَنثالُ تَلْحَقُ بَعْضَها وتقولُ: وَيّْ
والنَّفْسُ في ذاتِ الحُلولِ هَيَ ذاتُكُمْ .. في ذاتِها
مِنْكُمْ لها.. مِنها لَكُمْ.. مّنّي لَها .. مِنْ ثَمَ ثانِيةٍ إِلَيّْ
وَكَأَنّها نَفَسي الأخيرُ في روحِها زَفَراتُ حَيْ
أي أنه هو و”هُم” مجموع الحاضرين، أو الناس كلهم ليسوا بمنأى أو معزل عن الموت . فهم يعيشون نفس الحياة و الكل يسعى لتحقيق شيء ما”لهاث العمر” أضاف فعل “يجري” ليظهر سرعة الوقت وقصر العمر فهو مهما طال قصُرٓ . فهي نفس واحدة وروح واحدة ، كانت بفعل “نفخ الروح في سيدنا آدم عليه السلام” وتفرقت على الأجساد، ثُمَّ الجسد يفنى ويموتُ كلٌّ حسب ظروفه وفي ساعته . يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي :
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد
ومختار العالم مثله مثل كل الناس عموما والشعراء خصوصا يعي جيدا أن الموت هي النهاية لكنها متعددة الأسباب، وكرجل مسلم هو مؤمن بحدوث الموت بأي لحظة ولأي سبب وبأي مكان . يقول سبحانه وتعالى :” إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” *14
وكاننا به الآن يمارس فعل الموت فهو كاد يحسُّ بلحظة من اللحظات أنه ميِّتٌ فعلا، فهو مريضٌ ينازع بلحظاته الأخيرة، وهن جسده وخانه النبض.. ذات موتٍ متوقع في لحظة طارئة.. يختزل عمره عبر الزمن الماضي في شكل بسمة تهيِّئه لما سيأتي، توقظ فيه النبض الذي كاد يتوقف، تحسُب الوقت بدل الضائع من عمره، تبدد الفراغ عبر شريط الذكرى الذي تعرضه عليه.. يشاهده كله في بضع ثوانٍ محسوبة تشحن الحزن والفرح، التعب والآهات.. الذكريات وكل ما فات من عمره عبر شاشة الذاكرة التي بدأت تنبِضُ داخل رأسه عندما أيقن قلبه بالحقيقة و عرف أنه سيدُقُّ دقّته الأخيرة..
الآن نراه يحبِسُ أنفاسَه دموعه وآهاته، يشحَنُها كلّها لنفسِه الأخير، والنّفس تشُقُّ دّربَها لِشُعاعِ نور، نور رباني لا يعرفه إلا المشتاق لرحاب الرحمان،
هكذا يتوحد كل شيء الباطن والظاهر، الموت والحياة، الفرح والألم، إشراقة بسمة وصرخة آه.. يتوحد الشاعر والقصيدة، الذات والموضوع .. الشاعر والإحساس العميق بالموت واقتراب الأجل..
تنساب الكلمات كنور يعبر من خلاله الشعور بالسكينة والإطمئنان والرغبة الشديدة في الإستسلام للراحة الأبدية.. كلمات كُتِبت من نور.. نبعت من روح راضية ومرضية رغم التعب والألم إلا أنها تضل ساطعة مشرقة وقلب مبصر مُتَبَصِّر يرى الأشياء بحُبٍّ وبصيرة.. هكذا يتدفَّقُ الحب أينما وُجد الشاعر ويعمُّ النور والدفء.. وهو يفكِّر بالمغادرة، يتأهَّبُ للرحيل يصبِحُ والضياءُ واحدًا، يصبح إحساسه بالموت متكامل السطوع، ينقُشُ بسمته فوق رقعة القصيدة طفلة صغيرة مدهشة لا تكبرُ ولا تشيخ، يرسمها بألوان الفرح في صورة مدهشة تُحدث التكامل بين الشاعر وذاته، بينه وبين إحساسه بدُنو أجله، بينه وبين الحاضرين الآن والغائبين بالماضي.. بينه وبين كل الأشياء المحيطة به بما فيها الزمان والمكان.
“وَتَبقى بَسمَتي طَفْلَة.. ولا تَهْرَمْ” هي بسمته زهرة قلبه، روحه المرحة والمتسامحة والطيبة لا تهرم.. لا تعرف اليأس ولا الإحباط ولا الهزيمة فهو يعيش الحياة بمفهومها الأصلي كـ”حياة” يعيشها محافظًا على بُؤرة النور التي تضيء قلبه وهي الرضا والإيمان بالقدر خيره وشرّه . والإيمان بأن الموت “حق”
هذه البسمة الطفلة داخله يحافظ عليها كما هي لا تكبر ولا تصغر، وبسمتهم هم وضحكتهم وفرحتهم يأخذها معه، يعيشها .. يتذكرها الآن. فهو بنفسه الأخير يتذكر أحبابه وأصحابه ويعيد لحظاته المرحة معهم، لحظات عرفوا فيها البسمة والضحكة والفرح، فالذاكرة الآن يقظة تعيد له شريط ذكرياته مع أهله، أحبابه وأصحابه، فيقول:
وَتَبقى بَسمَتي طَفْلَة.. ولا تَهْرَمْ
ولا تَصْغَرْ.. ولا تَكْبَرْ
وَبَسْمَتُكُمْ .. وَضِحْكَتُكُمْ.. وَفَرْحَتُكُمْ
تَعودُ بآخِرِ الأنْفاسَ في رِئتَيَ أَتَنَفَسْ
طفلة تضيء العتمة تطرد كل الأفكار السلبية، صغيرة باسمة لها القدرة على إضفاء السعادة وجعل صاحبها مشرقًا. يكفي أن تنظر لإبتسامة الشاعر مختار العالم لتحس بالدفء، الراحة السعادة والأمان..
تتسلل السكينة والطمأنينة إلى قلب القارئ تجعله يحس أنه هو من يُحتضر الآن وليس الشاعر ودون شعور مِنْه، يصبح الموت سببا من أسباب السعادة والفرح، يُشرق مع إشراقة الروح ويتوحّدُ مع الكلمات.. يتلبّس بهالة من السكينة و الإطمئنان و كأن صوتًا يهتف به الآن فيُردّد :”إني المُسافِرُ نَحْوَ مُلْكِ الروحِ”
هنا الروح تبلغ ذروة الضياء و الإشراق تستسلم لمصيرها، تتأهّب لرحلة الخلود والنور.. تستعجل لقاء بارئها..
يودِّعُ بلا وداعٍ، فهو “أي الشاعر” بهذه اللحظة يحسُّ أنّه الوداع الأخير، وداع ينتقل بعده الى مثواه الأخير. فيوَدّع كل شيء، حياته، دنياه، أهله، كل متعلقاته، كُلّه.. فكلُّ جُزَيئة من جسمه تُوَدِّعُ بعضها، فهو الآن من مكانه، ربما ملقى على سرير من أسرّتِ المستشفى يودع بعينبه دون كلام ولا حركة، فالموت ُ يفاجئ الإنسان ولا يترك له فرصة الوداع فيقول: يأتي الوَداعُ بلا وَداعٍ منْ وَداعْ
ينتقل هنا من وصف حالته إلى منظر أهله، أحبابه ومعارفه فهو يتصوّر أو ربما يعاين فعلا دموعهم وخوفهم عليه خشية فراقه وخوفا عليه من الموت فهم لا يسافرون معه ولا يصحبونه في سفره، يبكون لفراقه .. يدرفون الدموع،..
يَمْتَدُّ دَمْعُ الماكِثينَ بلا سَفَرْ
نَحوَ المُسَجّى بَينَ وَعدِ الحَقِّ أَوْ تاريخِ مَوْعِدَهُ بأَرْضِ الراحلينَ
دموع ممتدة لكنها محدودة وإن سافرت معه بلا سفر .. فهم ماكثون هنا لكن دموعهم ستسافر معه هو حيث يذهب تمتد للبعيد، ترافقه، يأخذها عبر نظراته الأخيرة التي يُقلِّبُها بحثًا في وجوههم، نظرات تلتقط صور ذكراهم لآخر مرة قبل المغادرة، نظرات تخفف عنهم يحاول من خلال طرد قلقهم وخوفهم..
وإن أعطى الشاعر الدمع خاصية الإمتداد إلا أنها لن تمتد أكثر من هذه اللحظة الزمنية التي يمكث فيها وهو يحتضر ويترقب موته، ينتظر موعد رحيله.. بعدها سيكون بعالم آخر، عالم ربما ينسى فيه كل شيء، عالم مضاء مشرق كإشراقة قلب كلّ مسلمٍ يتوق للقاء ربه. قلب مؤمن يرى في الموت إكسير الحياة، قلب يعمل لآخرته لينال رضى ربه و العيش في كنفه وتحت رحمته.
وبكل ثقة وهمة وعزم ينوي السفر للبعيد هناك حيث الروح تستقر بجوار ربها، يسافر نَحْوَ مُلْكِ الروحِ.. يترك بسمته، ضحكته .. وفرحته، يترك ذكراه وأثره الطيب ولا يحمل معه سوى نفسه الأخير..
إنّي المُسافِرُ
أَتْرُكُ بَسمَتي..أَتْرُكُ ضَحْكتي..أَتْرُكُ فَرْحَتي..
وأحْمِلُ معي نَفَسي الأخيرُ
وكأننا به ينازع فعلا يحس أن روحه تغادر جسده، وأنها الآن تصل لحلقه، لم يبق بينه وبين الموت سوى خروجها من فمه، ينادي دون أن ينطق حرفا، صوتٌ مكبوت، محشور بين لهاة الروح و حنجرة العمر، هو الموت لا محالة، إنه الوعد الحق الذي لم ولن ينجو منه أحد.. إنه نداء المضطر، الملهوف اللحن الصوفي ينادي “يا موت”..
يُنادي.. لا يَنْطِقُ حَرْفًا مَحْشورٌ ما بَيْنَ لُهاةِ الروحِ
وحُنْجَرةِ العُمْرِ وقَدْ فاضَتْ بالماءِ وَلَمْ يَنجو مِنها..
غَيْرَ الصّوتِ المَكبوتِ .. المَلهوفِ اللّحنِ الصوفيِّ
يُنادي يا مَوْتْ
إنه نداء الروح للحياة الحقيقية، للنور، للخلود، نداء الإمتلاء بالرضى والجمال، فالروح الراضية، الطيبة والطاهرة تمتلئ رضًا حبًّا وخشوعًا تسعى في حياتها لكل ما يقربها من جلال ربها و جماله فتأخذ من بعض صفاته فتصبح حياتها الحقيقية هي الامتلاء بنور الجمال والجلال، والموت يمثِّلُ عندها الفناء عن الوجود إلى دار السعادة والخلود. وشاعرنا هامت نفسه بحب الله وذاب قلبه شوقا للقاء بارئه سبحانه وتعالى وتاقت نفسه لسماع : “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى ” *15
هنا تلبس اللغة عباءة الصوفي وتحكم سيطرتها على مشاعر شاعرنا مختار، تستبعد الخوف والقلق وتحضر بكل رزانة وعقلنة للأشياء، تضيء ما تعتم داخل الذات المتأوهة والمتأهبة للرحيل، تستبعد الجسد، وتلقى بالأنا في غياهب النحن تشعر من خلالها و تشركها في موتها، فلا أحد سيخلد بهذه الدنيا فالكل إلى زوال يقول سبحانه وتعالى : ((كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام)) *16
قلب ممتلئ بالإيمان وذات مسكونة بالرحيل “الموت” لا يفاجئها شيء ولا يهزها أمر.. فالشاعر يعلم تمام العلم أن الإنسان ما خُلِق إلا “للعمل والعبادة” فالموت الآن لا يفاجئه ولا يفجعه، هو يدرك أن موته لن يكون إلا بأجل مسمى، يقول سبحانه وتعالى :”وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ” *17 فكل مخلوق لا يموت إلا بأمر من الله و بموعد محدد لا يزيد ولا ينقص من عمره شيء.
الموت رفيق الحياة الأبدي ومكمل لها، لولا الموت ما عرف الإنسان قيمة الحياة ولا تعلق بها، فالموت لا يمكن اعتباره دخيلا على الحياة بل هو فيها ومتداخل معها .. ما كانت الحياة ليكون لها معنى ولا كانت لتعني لنا شيئا لو كانت بلا نهاية .
عبّر الشاعر مختار العالم في حديث عن نظرته الخاصة للموت قائلا:
“بالنسبة لي تساوى لدي الموت والحياة .. وأنا لا يوجد عندي هاجس الموت، ولا أفكر به.
الموت عندي له فلسفة، وكتبت به قصيدة ، أنا ربما أعيش بموت ، لكنها ليست نظرة تشاؤم، الكتابة تتأثر بالحالة النفسية لحظة ولادتها.
كتبت في شتى المواضيع .. وأنا لا أتعمد الكتابة عن الموت..
الموت هو فلسفة الحياة.. ففي الموت حياة
أنا متُّ ورأيت طريق الحياة الثانية، وعدت. لا أعرف الآن سفر حياتي
منذ صغري لا أخشى الموت
كان اندماج الحرية والانطلاق، والتحليق..
عشت حرًا منذ صغري.. والموت والحياة متساويان ..
شاعرنا يواجه الموت بكل ثقة وإيمان، يواجه مرضه ويحاول التغلب عليه.. ومن الضعف يستمد قوته، يبحث لنفسه عن ولادة جديدة .. يشغل نفسه بأشياء كثيرة، يرهقها .. لديه نكران ذات رهيب، يقول عندما نصحناه أن ينتبه على نفسه ويحب نفسه بشيء من الأنانية: “لا أستطيع ذلك، فأنا متذ الطفولة لدي نكران ذات، أحب الناس”
هو إنسان معطاء و طيب وهذا يكلفه الكثير :”نعم كلفني الكثير الكثير .. هناك في داخلي سعادة مطلقة، وأنا متصالح مع ذاتي، وأحاسب نفسي وألومها بكل صراحة.. داخلي نقي، والخير يغلب الشر..
أتأمل كثيرا ..
وأحب الطبيعة وأكلم الغيم والأشجار، والطيور وكل ما حولي
أستشعر الجمال في كل شيء”
أنت كتبت عن الوداع : “نعم ،وداع من حولي أودعهم وأنا على قيد حياة وعندما تنطلق الروح لا وداع..
قَال هذا وأنشد يقول:
يأتي الوَداعُ بلا وَداعٍ منْ وَداعْ
يَمْتَدُّ دَمْعُ الماكِثينَ بلا سَفَرْ
نَحوَ المُسَجّى بَينَ وَعدِ الحَقِّ أَوْ تاريخِ مَوْعِدَهُ بأَرْضِ الراحلينَ منْ البَشَرْ
إنّي المُسافِرُ نَحْوَ مُلْكِ الروحِ
أَتْرُكُ بَسمَتي..أَتْرُكُ ضَحْكتي..أَتْرُكُ فَرْحَتي..
وأحْمِلُ معي نَفَسي الأخيرُ
يُنادي.. لا يَنْطِقُ حَرْفًا مَحْشورٌ ما بَيْنَ لُهاةِ الروحِ
وحُنْجَرةِ العُمْرِ وقَدْ فاضَتْ بالماءِ وَلَمْ يَنجو مِنها..
غَيْرَ الصّوتِ المَكبوتِ .. المَلهوفِ اللّحنِ الصوفيِّ
يُنادي يا مَوْتْ”
شاعر أرهقته الحياة، وأتعبه المرض، يتوقع الموت بأي لحظة لكنه يزرع الحب حياة داخل القلوب.. يضيء النفوس المعتمة .. يأتي بالفرح يمطر بالحياة..
ماهي رسالتك للقراء والمتابعين :”انشروا المحبة بين الناس”
******************
هوامش:
هيدجرMartin Heidegger (١)
يعتبر الفيلسوف المؤسس الحقيقي للوجودية . وقد ولد في 20 سبتمر عام 1889 في مسكرش Messkir في ألمانيا لأسرة عميقة الجذور في هذا الإقليم.
كان أستاذاً للفلسفة بجامعة فرايبورج عام 1929، ثم بعدها مديراً لنفس الجامعة “فرايبورج”.
إنّ فلسفة مارتن هيدجر« هي مِن بين سائر الفلسفات الوجودية وأكثرهاعمقا وأشدها طرافة». لقد أعلن هيدجر مراراً أنّ فلسفته ليست فلسفة وجود إنساني وإنما هي فلسفة وجود عام. ونجده رفض تسمية فلسفته باسم”الوجودية”، وحرص على أن يبين لنا أنّ” الأونطولوجيا” هي موضوع دراسته. إنّ فلسفته” أونطولوجية” تدرس مقومات الوجود الإنساني عموماً، لا مجرد صفات الموجود الفردي. ومِن أهم مقومات الموجود عند هيدجر” الوجود في العالم”، ” الوجود مع الآخرين”، والنزوع المستمر نحو” التعالي” أو” المفارقة” .
توفي في 26مايو سنة 1976في مسكرش مسقط رأسه.
‏ Heidegger., M., Sein und Zeit, Op. Cit. P. 331.(2)
‏ Heidegger, M. Op. Cit, P. 331.(3)
(4)دستوار، فرانسواز: هيدجر والسؤال عن الزمان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت: 1993،ص83.
‏ Heidegger., M., Sein und Zeit, Op. Cit, P. 365.(5)
(6) بليز باسكال”Blaise Pascal”فيلسوف، فيزيائي ورياضي فرنسي من مواليد 19 يونيو 1623 , اخترع الالة الحاسبة , كما كان له دور في الفيزياء والهندسة وعلم الحساب اشتهر بنظرية الاحتمالات في الرياضيات .
(7) زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، دار مصر للطباعة، الطبعة الأولى، 1968، ص 412
(8) كانط فيلسوف الماني من مواليد 22 ابريل عام 1724 , من اهم مؤلفاته نقد العقل الخالص . كان يريد ان يثبت الخلود بحجج اخلاقية وذلك من خلال محاضراته ومؤلفاته .
(9) الدكتور زكريا إبراهيم (1976 – 1924) المفكر والفيلسوف أثرى المكتبة العربية بالعديد من الكتب والمراجع القيمة في مجالات الفلسفة والتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع والسير والتراجم …. ولد بمدينة القاهرة في 24 يوليو 1924 تلقي تعليمه الابتدائي والثانوي في “مدرسة فاروق الأول الثانوية” ؛التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة في عام 1940 وتخرج فيها عام 1944 حصل علي درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة القاهرة عام 1949. وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون بامتياز سنة 1954. عاد إلي مصر وعمل أستاذا للفلسفة بجامعة القاهرة، ثم رئيس قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وانتدب للتدريس في جامعات الخرطوم والأردن وتوفي فجأة أثناء عمله في جامعة الملك
محمد الخامس بالمغرب في 27 أبريل 1976 وعمره لم يتجاوز 52 عاما.
(10) جان بول سارترJean-Paul Charles Aymard Sartre فيلسوف فرنسي يعتبر من أعظم فلاسفة المذهب الوجودي والجدلية في القرن العشرين، فاز بجائزة نوبل لكنه رفضها، وُلد سارتر في 21 حزيران/يونيو 1905 في باريس- فرنسا. بدأ سارتر يهتم بالفلسفة بعد قراءته مقالة Time and Free Will لهنري بيرغسون Henri Bergson، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من École Normale Supérieure في باريس، استحوذت عليه أفكار كانط وهيغل وغرغيجور و هوسرل وهايدغر. كانت منشوراته الرئيسية بعد عام 1955، ظهر كتابه “نقد السبب الجدلي” Critique of Dialectical Reason عام 1960.تدهورت حالته الصحية عام 1970 وأصبح شبه أعمى عام 1973، توفي سارتر في الخامس عشر من نيسان/أبريل 1980 في باريس بسبب وذمة رئوية.
(11) فريدريش فيلهيلم نيتشه (‪Friedrich Nietzsche) ‏ (15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) فيلسوف ألماني وناقد ، شاعر وملحن ولغوي وباحث في اللاتينية واليونانية ولد في 15 أكتوبر 1844 .
عرفت صحته تدهورا كبيرا (نوبات الصداع النصفي واضطرابات المعدة وقصر النظر الشديد الذي أدى في النهاية إلى العمى العملي) التي عطلته عن واجباته في التدريس، استقال نيتشه عام 1879 من منصبه في جامعة بازل.
بين 1898 و1899، تعرض بعدها مرتين على الأقل للسكتة الدماغية التي سببت له شللا جزئيا جعله غير قادر على الكلام أو المشي. بحلول عام 1899 تعرض لخزل شقي (شلل نصفي سريري) في الجانب الأيسر من جسده. بعد إصابته بالتهاب رئوي منتصف شهر أغسطس عام 1900، تعرض ليلة 25 أغسطس لسكتة دماغية أخيرة، وتوفي ظهر اليوم التالي.
(12) ديكارت فيلسوف ورياضي وفيزيائي فرنسي من مواليد 31 مارس عام 1596 , يعتبر من مؤسس الرياضيات الحديثة حيث انه قام بتبسط الرياضيات ووضع اسس الهندسة الديكارتية .
——————–
الإستشهاد من القرآن الكريم:
*١ _ سورة النساء الآية (1)
*2 _ سورة ص الآيتين (71 و 72)
*3 _ سورة لقمان الآية (28)
*4 _ سورة بس الآيتين (82 و 83)
*5 _ سورة الزمر الآية (42)
*6 _ سورة آلِ عمران الاية (185)
*7 _ سورة البقرة الآية (28)
*8 _ سورة الإسراء الآيتين (49-51)
*9 _ سورة يس الآية (79)
*10 _ سورة يونس الآية (4)
*11 _ سورة طه الآية (15)
*12 _ سورة الإسراء الآية (85)
*13 _ سورة الأعراف الآية (25)
*14 _ سورة لقمان الآية (34)
*15 _ سورة الفجر الآية 27)
*16 _ سورة الرحمن الآيتين (26 و 27)
*17 _ سورة آل عمران الآية (145

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!