كتب نجيب كيالي. اللغة العربية وجرس الإنذار

اللغة العربية وجرس الإنذار
لماذا لم تنجح دعواتُ الإصلاح اللغوي؟

مقالة
نجيب كيالي

رنين متقطع.. رنين متواصل يصلنا بين حين وآخر من الجرس الكهربائي الذي وَضَعَهُ أصحابه على مقربة من رؤوسنا، وأخذوا يضغطون عليه بسباباتهم. هؤلاء الضاغطون على الجرس أو مرسلو الرنين هم محبُّو اللغة العربية والداعون إلى ردّ الاعتبار إليها.
هذا الرنين ليس جديداً، فنحن منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين وإلى يومنا هذا ما زلنا نسمع دعواتٍ كثيرةً في بلدان عربية شتى لمعالجة التدهور الجديد الذي أصاب اللغة العربية في عصر انتشار التعليم، وفي ظل الدولة الوطنية التي قامت بعد خروج المستعمر. هذه الدعوات:
* بعضها من جهات حكومية
* بعضها من جهات فكرية
* بعضها من جهات تربوية
* بعضها من جهات دينية
وكلُّها يتشابه في محتواه الذي يستخدم قبل المناداة بإصلاح شأن اللغة تصويراً ميلودرامياً لما آلتْ إليه، وكأنَّ المتحدثين واقفون على الأطلال ويريدون من كل صاحب عين أن يبادر فيبكي معهم. ومازلتُ أذكر عبارة أحدهم: كانت العربية حصاناً قوياً رشيقاً لثقافتنا، لكنَّ السُّبَلَ ضاقتْ أمامها الآن، وبات حصانها غريباً عند أهله، فهو يحمحم حزيناً على الأبواب!
وأصحابُ هذه الدعوات يربطون بين اللغة وبين الأمة ربطاً محكماً، فينفخون في الأبواق منذرين بأن ضياع لغتنا الفصيحة هو ضياع لثلاثمئة مليون عربي، وجودهم بدونها سيكون هلامياً بلا ملامح، ولا سيما أنَّ الروابط الأخرى التي تجمعهم أكلتها الفئران، وسفينتهم كلها باتت مهددةً بالغرق.
لكنْ.. هل نجحتْ هذه الدعوات بكل أشكالها الحارَّة والهادئة، الحكومية وغير الحكومية في تحقيق هدفها؟ إن الواقع أمامنا يعطينا إجابة بالنفي، وفي أحسن الأحوال يقول لنا: إن مصيرها بين الإخفاق الجزئي والإخفاق الكامل!
وعند التفتيش عن الأسباب نجد الآتي:
أولاً- تأتي هذه الدعوات في سياق من الإحباط العام، حيث تعيش البلدان العربية إخفاقات متوالية مرعبة على مختلف الأصعدة: الاقتصادية والسياسية والتعليمية، وتتلاحق هزائمها أمام أعدائها في ساحات الحرب والسلام.. حتى صار بعض الباحثين يطلق عليها صفة: (الرجل المريض)، وقد سبق أن أُطلقتْ هذه الصفة على الدولة العثمانية في أواخر أيامها، كما أن الشاعر الكبير نزار قباني آلمه الحال المتردي، فكتب ذات يوم قصيدة لاذعة عنوانها: (متى يعلنون وفاة العرب؟)
في جو كهذا تبدو الدعوة إلى إصلاح (العربية) عند المواطن ترفاً ورديَّاً أو سخريةً جارحة.. إنه يريد الخبز أولاً لفمه الناشف.. غرفةً تحميه من البرد والحَر.. زوجة.. دواءً وملابس، نعشاً إذا مات، ومظلةً ولو صغيرة من الكرامة.
ثانياً- يحمل أكثر العرب في نفوسهم موقفاً مزدوَجاً من اللغة العربية، فإذا سُئلوا عنها قالوا فيها ما قال جميل في بثينة، لكنهم في خبايا صدورهم يُكِنُّون لها استصغاراً، ولا سيما الجيل الشاب، إذ لا يجدون لها إلا حضوراً دينياً أدبياً. أمَّا ساحات العِلم والتقانة ومستجدات العصر فهي غائبة عنها تماماً، هذا الاستصغار يشكِّل عائقاً نفسياً بين الناس وبين دعوات الإصلاح، ويجعل عملَ المصلحين صعباً للغاية.
ثالثاً- تُذكِّر الدعوات المشار إليها تذكيراً حاداً باندحار المشروع القومي، وقد تنقلب عند سامعيها إلى مأتم داخلي، المرحوم فيه هو المشروع المذكور، وهذا الأمر لا ينطوي على مبالغة.. فاللغة العربية كانت مصاحبة لذلك المشروع يسيران معاً في طريق واحد، والآن.. لا بدَّ أن المواطن العربي وهو يسمع دعوة للاهتمام باللغة العربية سيسأل عن مفردات المشروع الأخرى، فيقول في نفسه: سبحان مُبدِّل الأحوال! لم يعد هناك حديث عن وحدة العرب.. عن جيش واحد لهم .. عن خطة تعليم واحدة! وكل ما بقي: العربية.. العربية!
رابعاً- بدلاً من معالجة الوضع الراهن للغة العربية كثيراً ما ينطلق عدد من الراغبين في إصلاح أحوالها إلى الحديث عن تاريخها المجيد وفضلِها على لغات العالم وثقافاته في القرون الوسطى.. يتحدثون عن ذلك بخيلاء عريض، وبلاغة من العيار الثقيل، ودافعهم إلى ذلك- كما يقولون- تعزيز ثقة الجيل الجديد بلغته، لكنهم- في حقيقة الأمر- يُقدِّمون لهذا الجيل خدراً لذيذاً، ويُغيِّبون قبحَ الحاضر وراء ثوب مستعار من بهاء الماضي.
خامساً- لم تقترن دعوات الإصلاح اللغوي بخطط فعلية موضوعية على المستوى العربي تجعل الإصلاحَ المنشود واقعاً ملموساً، والخطط إن وُجدتْ فهي- على الأغلب- قاصرة، عاطفية، قُطرية لا عربية، وهذه الخطط القاصرة يُنفَّذ جزءٌ منها بطرق متواضعة، ثم تنام على وسادة من الإهمال، يمكن هنا الإشارة إلى استثناء واحد جرى في الجامعات السورية منذ سنوات، ولا أدري ما حلَّ به الآن بعد أن ضاع البلد كلُّه، سجَّل ذلك الاستثناء وتجربته قدراً من النجاح، حيث وضع المهتمون بمسألة اللغة خطةً للارتقاء بها من خلال اعتمادها في تدريس العلوم المختلفة في الجامعة كالطب والهندسة والرياضيات، وغير ذلك.
سادساً- يبدو في ضوء ما سبق كأنَّ الهدف من تناول المسألة اللغوية في هذه الدولة العربية أو تلك هدف إعلامي أولاً وقبل كل شيء، فالبث الرسمي لا بد له من أمر يتحدث فيه، والحكومات هنا وهنالك في الديار العربية لا بدَّ لها من شاغل تضعه أمام الناس، فتارةً يكون قضيةَ البيئة، وتارةً قضيةَ الإرث الثقافي، وتارةً قضيةَ اللغة، وخلف هذه القضايا يلفُّ الصمت مسائلَ أكثر استحقاقاً كمسائل التنمية والحرية، وفرص العمل، ودخول العصر، وتداول السلطة.
أخيراً.. إنَّ اللغة العربية تعاني حقاً من خطر أكيد، والغريب أنها تتراجع في عصر التوسع التعليمي الكبير حيث صارت المدارس والجامعات جزءاً أساسياً مما نراه في كل بلد تقريباً، لكنَّ النهوض بها يحتاج إلى برامج فعلية وظروف مناسبة، لا إلى جرس كهربائي كثيرِ الرنين لا يأتي منه غير الصداع، كما أن إصلاح اللغة لا بد له من الربط بمشروع واسع لإصلاح المجتمع والأمة كلها، فمراجعةُ التاريخ تثبتُ أن اللغة العربية كانت ترتقي بارتقاء أمتنا وتنحط بانحطاطها.
* * *

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!