الفصل الرابع عشر من رواية الغداء الأخير للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

كانت فلسطين (رشيدة) جالسة واجمة لا تنطق بحرف واحد.. بدأ لعابها ينساب من فمها.. لا تنتبه لما يحدث معها.. تنظر أمامها إلى الأرض.. عيناها تتسمران.. بدا عليهما الاحمرار الشديد.. ما حولهما انقلب لونه إلى السّواد.. لم تذرف دمعاً ولمْ تصرخْ صوتاً.. ربّما الذّهول أخرجها عن طور إنسانيتها.. لا يعقل أن يكون هذا صبراً وضبطاً للأعصاب.. الأمر جلل والحدث فادح.. ما حصل معها كان أكبر صدمة لها في حياتها.. أصبحت عاجزة.. فقط هو الوجوم ما بدا عليها.. تجلس بلا حراكٍ أو كلام. لاحظ عمر عليها ذلك، طلب من وجيهة أن تأخذها لغرفة النّوم وتبقى معها. لم يناموا في تلك الليلة.. بقي الجميع يقظين.. انقطع الحديث بينهم، إلاّ منْ ذكر الله، هو ما يتردّد على ألسنتهم ليقطع صمتهم.. وصوت ديكٍ يصدح مِنْ بعيد إيذاناً ببزوغ الفجر.. الكلّ واجم.. حتى السماء في تلك الليلة اكفهرّت وغطّتها الغيوم.. بدأت الرّيح  تهب تارة ً مسرعة وتارة ً بطيئة.. هل هو غضب الله عليهم؟ أم أنّ الطبيعة تشاطرهم همّهم؟ حتى السماء أعلنت غضبها.. هي لا تمطر.. فالمطر خير.. فقط الغيوم تغطي السماء وتحجب نـــــور القمــر، هل ضنّت السماء عليهم بنوره لتحجبه في تلك الليلة؟ كلّ شيء بدا سيئاً.. أُرسِلَت تلك الغيوم لترسم على وجوهم الحيرة القاتلة، تصحب في ثناياها برق يخطف الأبصار، ورعد يزمجر بلا هوادة، إلاّ أنّ تلك الغيوم لا تدمع ولا تبكي ألماً وحسرة عليهم.. انعدم فيها اللون الفاتح.. كلّ الألوان داكنة مائلة للسواد.. الكلّ يجلس مرتجفاً من هول الموقف وعظم الأمر، لكن.. لا بدّ للصبح أن ينجلي. فعلاً

 

انجلى الصّبحُ بلا شمس. هل كان كلّ هذا تضامناً معهم؟ أمْ أنّه غضبٌ تكالبتْ به الطبيعة والسماء عليهم؟

 

  صالح  استمرّ يستعجل عمّه منذُ ساعات الصباح الباكر للذهاب إلى دائرة الافتاء العام، لكنّ عمّه كان يحاولُ أنْ يهدّئه متعللاً بأنّ الدّوام لم يبتدئ بعد. كم كانت هذه الساعات صعبة وطويلة عليهم! كأنّ كلّ ما مضى من عمرهم لم يعادل هذه الساعات بألمها وصعوبتها.. أحسّوا بأنّ دورة الحياة قد توقفت هنا.. اليأس حطّم نفوسهم منَ الانتظار.. هم يتمنون لو يمرّ الوقت مسرعاُ كلمح البصر، لكن..، هيهات.. هيهات.. فاللحظة أصبحت تعادل ساعة أو أياماً.. والساعة أصبحت تعادل ربما شهراً أو سنة في نظرهم، إنَّ أسوأ أنواع المعاناة، هي معاناة الانتظار..

 

  بينما الجميع جلوس وكأنّهم خشبُ مسندة من هول ما سمعوا، عاد صالح لشروده وتفكيره إلى يوم نزوحهم، حين قامت الحرب في عام 1967م، أمر والده كلٌّ منهم أن يحمل ما غلا ثمنه وخفَّ وزنه.. بدأ صالح يُفتّش في الخزانة لاختيار ما سيأخُذْ.. وقعت بيده صورة أخته فلسطين التي أحبّها حُبّاً جمّا.. نظر إليها للحظات.

قبّلها.. وضعها في عُبّه ليأخذها معه.. نظرت إليه بعينيها الصغيرتين.. ناغته مشيرة بإصبعها الصغير.. أزاحها عنه بلطف.. أخرج الصورة.. وضعها على السّرير.. دسّ الصورة في يدها.. حملتها.. أمعنت النظر فيها.. ضمتها إلى صدرها بكلتا يديها، وخرجت تهرول خارج الغرفة.

  مع بداية الدوام، كان الجميع ينتظرون على باب دائرة الإفتاء العام بانتظار أنْ يحضر المفتي. انتظروه في مكتبه، لم تمض سوى دقائق قليلة حتّى حضر المفتي، كان رجلاً خمسينيّاً.. دخل مكتبه.. وجد عمر وصالح ورشيدة بانتظاره.. لم يتكلم أحد منهم سوى المفتي، الذي أومأ بالترحاب بهم.. تفحص وجوههم علّه يقرأ ما رسمته وجوههم مِنْ تعب وخوف وإرهاق.. طلب منْ عمر أكبرهم سنّاً أنْ يطرح مسألته، لكنّ عمر فضّل أنْ يتكلم صالح أولاً.

 

  بدأ صالح بالتنهّد والتكلُّم بشكل متقطع وغير متزن.. حديثه مشتت ومرتبك.. يربط القديم بالجديد مبدياً غضبه واستغرابه في كل جملة يقولها. رشيدة تُديم النّظر إلى الأسفل.. عمر، جلس مطأطئاً رأسه مغمضاً عينيه وكأنه يعيد قراءة الأحداث في مخيلته، بعدما انتهى صالح من حديثه.. طلب المفتي من عمر أن يتحدث، تكلّم عمر بما لديه من معلومات وعن كيفيّة حصوله على رشيدة، وكيف أنّه استخدم لها شهادة ميلاد ابنته التي قُتلت في الحرب، بعدما أنهى كلامه. نظر المفتي إلى رشيدة.. بدأ بالاستغفار.. نظر إليهم ثانية.. سبّح وحوقل.. أماط الطربوش عن رأسه.. وارتباك باد على وجهه.. وقال: يقول تعالى في كتابه الكريم في الآية رقم 5 من سورة الأحزاب: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)،  طلب من رشيدة التحدث.. نظرت إليه بعينين جاحظتين زائغتين.. فيهما احمرار شديد.. وكأنّها تسمع الآيات لأوّل مرة، أو أنّها لا تعي ما تسمع، رفع عمر رأسه كمن أفاق من غيبوبة، وتساءل في نفسه : لِمَ لَمْ أرُدّها إلى أبيها؟ لِمَ قُمتُ بتسجيلها باسمي؟ هي عاطفتي التي غلبتني.. ولمْ أُفكّر بقوله تعالى: (هو أقسط عند الله)، ونسيت أمر الله.. فلو لَمْ أقُمْ بنسبها لي، وتبنّيها أمام النّاس والقانون.. لربّما لمْ يحصل ما حصل.. “يا لَلْمصيبة”.

 

  أجابت رشيدة المفتي بدموع ذرفتها مِنْ عينيْها المثقلتين مِنَ هول المصيبة.. وشهقةُ الموت تَرْتجُّ بين ضلوعها.. فلم يُسمع لها كلام.

 

  لمْ يشأ المفتي أنْ يُطيل أكثر من ذلك، لقد أحسّ بأنّ رشيدة ربّما تكون قد أصيبت بصدمة نفسيّة شديدة. فقال: الآن سأعطيكم حكم الله وشرعه فيما تمرّون به وعليكم أنْ تقوموا بتطبيق حكم الشرع فوراً: بما أنّكما لمْ تكونا تعلمان بأنّكما أخويْن.. وحسب الأوراق الثبوتية التي تقدمتما بها إلى القاضي الشرعي في حينه.. وهي أوراق صحيحة، لذا.. فإنّ أولادكم، هم أولادٌ شرعيين ويبقون بأسمائهم ونسبهم.. منتسبين إلى والدهم ووالدتهم.. صمت قليلاً ثمّ أضاف: أمَا وقد ثبت الآن بأنكما أخوين.. من أب وأم صحيحين.. وتحملان نفس صفة النسب، فقد وجب التفريق بينكما فوراً، ولنْ تستمرّا أزواجاً، ولا تطليق بينكما، كون الحقيقة الجديدة لا تجيزُ زواجكما أصلاً.. لكنْ.. نظراً للظرف المجهول لكما عن صلة القربى، والذي وقعتما به عن غير علمٍ منكما، فقد وجب التفريق بينكما الآن وفوراً..

 

  خرج الجميع من عند المفتي، ورشيدة كأنّها تغيب عنْ الدنيا، لا بكاء.. لا صراخ.. لا كلام.. فقط جاحظة البصر.. تسير بهدوء تام ولكنْ.. بلا اتّزان وعلى غير هدى، عيناها مفتوحتان.. لكنّها لا تدري عن وقع خطواتها أو أين تتّجه! من المؤكّد أنّ ناراً ملتهبة تشتعل في صدرها.. أطفأتْ ما به مِنْ نور.. اختفى البريق الذي كان يتوهّج في عينيها، فبدت وهي تقف بباب الدائرة كأنّها مُحنّطة لا حراك فيها، أو كتمثال بلا احاسيس أو مشاعر.. لا يُؤثّرُ فيه الحرّ ولا البرْد.

  بدا صالح هو الآخر وكأنّ مسّاً من الشيطان أصابه.. أوقف عمر سيارة أجرة.. انتقلوا إلى بيته.. الجميع بانتظارهم.. يقفون على مدخل البيت مشدوهين.. ينتظرون ما عادوا به من حكم المفتي.. أبلغهم عمر بما جرى.. يروي وصالح يغيب عنهم بفكره.. ينظر إلى الأرض.. يهز برأسه ولا يتكلّم.. أمّا رشيدة، فقد دخلت إلى غرفة نوم عمر.. ألقت برأسها على السرير ونامت مِنْ شدّة تعبها وإرهاقها، وربما أنّها أصبحت لا تعي ما يدور مِنْ حولها أو هول المصيبة، أما الباقين فقد جلسوا لا ينطقون بأي حرف.. يتساءلون في قرارة أنفسهم عن العلاقة القادمة بين رشيدة وصالح. حضر أولادهم.. رأوا الجميع وآثار التعب والقلق الشديد ترتسم على وجوههم.. سألوا أباهم عمّا حصل.. لم يرفع رأسه ولم يجبهم.. انتقلوا بسؤالهم إلى جدهم.. أخبرهم بما جرى.. صُعق الأولاد مِنْ هول ما سمعوا.. بدأوا يصرخون.. إلا أن جدهم وجدتهم حاولا تهدئتهم.

 

  مرّت الأيام ثقيلة والصدمة لا تفارق رشيدة.. وانهيار تلو الآخر ينهال عليها.. جمعهم عمر واقترح بأن يرسلوا رشيدة إلى مصحة نفسيّة.. فقد استنفذوا جميع قدراتهم في حلّ المشكلة.

 

  رشيدة.. ترفض فكرة الذهاب للمصحّة، لكنّهم أخذوها عنوة وعرضوها على الطبيب، أمر بإدخالها.. ترفض العلاج وتقوم بالشّتم والسب على الكادر الطبيّ.. تكسّر ما تطوله يدها.. حالتها صعبة جداً، لمْ تستوعب ما حصل.

  رافقتها ممرّضتان إلى غرفة خاصّة.. اقتادتاها كما يُقتادُ المجرم إلى مقصلة الاعدام.. هاجت وصرخت.. كلبؤة شرسة تُريد افتراس كلّ منْ يقترب منها.. اسودَّ وجهها.. جحظت عيناها واحمرّتا كعينيْ كلب مسعور.. صُراخها ملأ المصحّة.. رُعبٌ وخوفٌ جعلاها ترتجف كما يرتجف من تقطّعت به السُّبُل في يوم مُثلجٍ منْ أيام كانون.. وصلن الغرفة التي لمْ تكنْ تتّسع لأكثر منْ سرير واحد.. جدرانها تزيّنت ببعض الرسومات الطفوليّة.. لها شبّاك صغير يرتفع بحيث لا تستطيع الوصول إليه.. عليه شَبَكٌ حديديٌّ.. زنزانة لسجين خطير أضافت بين جدرانها أنثى ضعيفة.. لمْ تستطعْ الممرضتان السيطرة عليها.. كادت أنْ تُسْقطهما أرضاً.. استعانتا برجلين منَ العاملين بالمصحّة.. أدخلاها إلى غرفتها.. قاما بربط يديها ورجليها إلى السّرير بمرابط أُعِدَّتْ خصيصاً لحالات مُشابهة.. قامت إحدى الممرضتين بإعطائها حُقنة.. سرعان ما هدّأتها.. مِنْ شدة تعبها استلقت بلا حراك ونامت كطفل هدّه التعب فنام وقطعة الحلوى بيده.. يتمسّك بها حبّاً ورغبة، إلاّ أنّه لا يستطيع أن يصحو ليأكلها.

 

  استمرّ علاجها لأسبوعين.. بدأت بالتحسّن شيئاً فشيئاً.. أمّا في اليومين الأوّلين فقد اعتادوا على تنويمها وهي مكبّلة، فكّوا وثاقها.. نقلوها إلى غرفة بها مريضتان أخريان.. لم تتعايش معهما فكانت تُفضّل الوحدة على أن تُكلّمهما.. كلّ واحدة منهنّ تعيش في عالمها الخاص.. لا تُحسُّ بوجود الأخريات! كانت تكلّم أٌناساً وهميين.. تُطيل حواراتها مع نفسها.. هي التي تسأل وهي التي تجيب.. تزداد حركتها وانفعالاتها.. تستمر في حالتها هذه، لتنتهي بالصراخ المرتفع والبكاء المرير.. تخاف من كلّ شيء حولها.. تتّهم أهلها بأنّهم تآمروا عليها وظلموها في إحضارها لهذا المكان.

 

  خلال زيارات عايد المتكرّرة لها.. اعتادت أنْ تحتضنه وتشتكي له بأن صالح وعمر قد تآمرا عليها وأحضراها لهذا المكان الغريب.. طلبت من عايد أن يحضر لها لعبة جميلة.. تناول وسادتها وفدمها لها.. أخذتها بين يديها.. احتضنتها وكأنّها بنت لها.. شرعت بالبكاء ومناجاة اللعبة.. أرضعتها.. نادتها برشيدة.. شكت لها بأنّ صالح وعمر يناديانها  باسم فلسطين.. ليُبعداها عن زوجها وأولادها.. تقول للعبتها بأنّهما أصيبا بالجنون وهي تترفّع عن الرّد عليهما أو التعامل معهما…

 

  بعد شهر من العلاج، تمّ إخراجها منَ المصحّة مع وصفة طبية لحالتها النفسية، على أنْ تستمر بتناول العلاج ومراجعة طبيب المصحّة كلّ شهر.

 

  لم يذهب صالح إلى دوامه منذ عودته من المصحّة حين أرسل رشيدة إلى هناك، حتى عند خروجها لم يذهب مع عايد وعمر لتخريجها، بل بقي ملتزماً البيت.. يُديم المكوث في البيت دون أنْ يقوم بشيء سوى التدخين.. لا يتكلّم مع أولاده ولا يجلس إليهم.. دائم الشرود والسرحان.. حتّى أنّ حركته تباطأت لتُصبح كحركة دب كسول.. حين عادت رشيدة لم يكلّمها، بلْ نظر إليها باستغراب وكأنّه يراها لأول مرة.. لمْ تكلّمه أيضاً، نظرت إليه بغضب، وجلست في زاوية البيت لا تكلّم أحداً. لاحظ عايد نظراتهما التي تنذر بنشوب شجار بينهما، أخذ أمّه إلى غرفة أخرى، أصبحا بعيديْن.. بات التقاؤهما يستفزّهما، هجرها صالح وبقي كلّ واحد منهما بغرفة منفصلة.

 

  استمرّ الأولاد خلال هذه الفترة بالذهاب إلى المدرسة بشكل متقطع.. بدأوا يفرّون من المدرسة، ثم بدأ الأولاد يضايقونهم بالكلام وبعض التصرفات حين علموا بحقيقة الأمر، بدأوا ينادونهم باسم  “أبو الأخوال” أيْ أنّ أباهم هو خالهم.. ازدادت المضايقات على الأولاد.. باتوا كلّما تشاجروا مع ولد بسبب هذا الكلام ، يتزايد عدد المنادين بــ “أبي الأخوال، انتشر هذا الاسم حتّى أصبح جميع الناس ينادونهم به.. بات صالح الأحمد وعائلته لا يُعرَفون إلا بهذا الاسم، ذات شجار في المدرسة، ذهب عايد والمتشاجر الآخر إلى المدير.. تفاجأ بأنّه هو الآخر يخاطبه باسم “أبو الأخوال”، ساءه الأمر كثيراً.. وقف مشدوهاً من مناداة المدير له بهذا الاسم.. تمّت معاقبته على المشاجرة.. انصرف يسكبُ دموع القهر وقلّة الحيلة.. أحسّ بأنّ الرحمة رُفِعت من الأرض..

 

  عانت هذه العائلة بسبب هذا الاسم.. كثرت شجارات عايد وعوّاد وعودة مع أولاد المدرسة والحيّ.. كثيراً ما كانوا يُعاقبون على شجاراتهم، حتّى أنهم تركوا المدرسة، باستثناء عايد الذي كان يصرّ على إكمال دراسته ومتابعتها.. انقطعوا عن أولاد الحي.. تمّ فصلُ الأبويْن من عملهما بسبب طول فترة الغياب.. توقّف دخلهم فأصبحوا يعيشون من مدّخراتهم البسيطة.. هاجمهم الفقر بشدة وقسوة.. بدأ الأولاد العمل على الإشارات الضوئية.. يبيعون “العلكة والمحارم الورقيّة”.. أصبح عوّاد وعودة يرجعون بمبلغ جيد، ليس منَ البيع، وإنّما منَ الصّدقات. عايد ..ذهب إلى الحاج أبو وصفي، الذي كان صديقاً لوالده.. طلب منه أنْ يعمل عنده.. فوافق الحاج على ذلك.. داوم في فترات الصباح بالمدرسة، وفي المساء كان يعمل لدى الحاج أبو وصفي.

 

  عوّاد يتحرّق شفقة على والده ورحمة به مما هو فيه.. اعتقد بأنّ الرّحمة تكمن بالمعصية أحياناً.. بدأ يجلب له الحبوب المخدِّرة.. التي أصبح يتعاطاها حتّى وصل إلى حدّ الإدمان عليها.. بات يعيش على الدخّان والحبوب المخدّرة وقليلٍ من الطعام والشراب. أمّا عودة ، فقد تعرّف بشاب ملتحٍ اسمه براء.. تأثيره على عودة كتأثير السّاحر على مخدومه الجنيّ.. يأمره فيطيع.. يطلبه فيلبي.. يقرّبه منه.. يمدّه بكلّ احتياجاته.. يعطيه المال يومياً على أن يذهب معه لحضور اجتماعات “الأحبّة”، هذه الاجتماعات التي كان يترأسّها بعض الشخصيات.. يسحرونهم بمعسول الكلام.. يُدرّبونهم على حُسْن الطّاعة والولاء لأسيادهم.

 

  لاحظتُ أنّ التّعب والإرهاق بدأ يُثقل على محدّثي فطلبت منه أن نقوم بتأجيل حديثنا ليوم آخر.. سُرّ مِنْ طلبي الذي منعه الحياء مِنْ أنْ يطلبه ووعدني بأن يُكمل جميع قصصه في اللقاء القادم.. ودّعته وغادرت وأنا أتشوّق لسماع أحداث الحكاية، التي بدأت تشُدّني لمعرفة تفاصيلها، وإلى أين أوصلت بعض الناس.. وما هي المآسي الّتي حصلت لهم.

رشيدة التي كانت ترفض العلاج وتناوله، أصبحت حالتها تزداد سوءاً.. بدأت تخرج من البيت في أيّ وقت.. تسير في الشوارع على غير هدى.. تتيه في الحيّ هائمة على كفّ القدر.. يهزأ بها المارّة.. تدخل بيوت الجيران دون استئذان.. الناس يأتون الى دار صالح مطالبين صالح وأولاده بأن يقوموا باحتجاز “أم الأخوال” داخل المنزل، وعدم السماح لها بالخروج، إلّا أنّهم لمْ يستطيعوا لها ضبطاً.

 

  ازدادت الضغوطات على عايد الذي كان يحاول أنْ يتماسك ويضبط أمور عائلته.. ضُغوطات من داخل الحيّ وخارجه.. والدهم لا يخرج من البيت.. لا يُكلّم أحداً من عائلته، عايد.. يُصبّرُ نفسه ويصبر على أمّه، جلس مع إخوته.. تشاوروا مرّات عدّة حول طريقة تُجنبّهم مشاكل أمّهم.. ذات يأس وانعدام الوسيلة، قررّوا أنْ يقوموا بربط أمّهم مِنْ رجلها بجنازير، تمتدّ لمسافة تسمح لها أنْ تبقى ضمن منطقة آمنة داخل البيت، لا تستطيع خلالها أنْ تقوم بالتخريب.

 

  تمرّ الأيام، والصور تزداد قتاماً أكثر فأكثر، إلّا من عايد الذي حاول أنْ يتماسك وأنْ يقوم بتغيير الواقع عن طريق دراسته وعلمه، حيث أنهى دراسته للدبلوم في كليّة وادي السّير، لم يُعينه علمه بشيء، في مجتمع لم يرحم ضعفهم، فلجأ إلى المال الذي كان يجمعه من عمله وعمل إخوته، يقدّم الهدايا للناس.. يتقرّب منهم.. طمعاً في إحراجهم وتخجيلهم، آملاً منهم بأن يُعاملوه كعهدهم السّابق، وأحياناً أخرى لجأوا إلى  المشاجرات مع الآخرين، لكنّهم لم يفلحوا في ذلك، فلا قوّة لديهم ليفرضوا بها ما يريدون، أصبحوا بلا حول لهم ولا قوّة، ازدادوا ضعفاً على ضعفهم، ووهناً على وهنهم.

 

  أمّا عوّاد فقد تعرّف إلى بعض الشباب الذين لا عمل لديهم إلّا تجارة المخدرات والسرقة والإجرام.. يجلب الكثير من المال مدّعياً بأنّه يعمل مع رجل ثريّ، هذا الرجل الثري يشفق عليه ويمدّه بالمال الوفير – كما كان يدّعي – لم يَخف على عايد حال إخوته، لكنّه لم يستطع التأثير بأيّهما، ولم يستطع ثنيهما عمّا هما فيه من ضياع، بات همّهُ كبيراً.. الضّغوط تتزايد عليه.. مسؤولياته تتعاظم.. لامُعين له.. قراراته الخاطئة تكاثرت.. تكالبت عليه الهموم من كلّ حدبٍ وصوب.. القلق وكثرة التّفكير.. قاداه إلى الاهمال في شؤون حياتهم.. بات لا يعرف الليل من النهار.. ينام ويصحو مذعوراً.. تُطارده الأحلام المرعبة.. يرى الناس وحوشاً غريبة الشّكل.. تأكل لحوم البشر.. قادمين لافتراسه وأهله الذين بدوا كخراف ضعيفة.

  ذات يوم.. حضر إلى بيتهم براء.. طلب الحديث مع عودة..  تهامسا على انفراد لدقائق قليلة خارج المنزل، بعدها.. رجع عودة ومعه مبلغ كبير من المال.

– بادره عايد سائلاً عن مصدر هذا المال: ما هذا المال يا أخي؟

– عودة: هذا ما تصدّق به أحد الأثرياء.. ارتأى أخي براء أنْ يكون هذا المبلغ من نصيبي لما نحن فيه، ورحمة بأبينا وأمّنا.

– عايد: ولم لا تقومون بتوزيعه على الفقراء وعلى من يستحقونه؟

– عودة: هناك مبلغ كبير جاءنا.. وهذا الجزء من نصيبي.

 

  لمْ يكن الحديث يقنع عايد.. فالحُجّة ضعيفة، حينها سكت على مضضٍ، وهو يعلم حقيقة هذه الفئة من الناس..

 

  خرج عودة مع صاحبه براء.. دام غيابه لأكثر من أسبوع دون أن يظهر، بعد عشرة أيّام، تمّ الإعلان عن شبكة تخريبية، أُعلن بأنّ عودة أحد أفرادها.. عند الحكم عليهم.. تمّ الحكم على عودة بالسجن مع الأشغال الشاقة.. لم تكن صدمة لعايد الذي كان يتوقع أكثر من ذلك لإخوته. أمّا عوّاد فقد اشتهر باسم “أبو الأخوال“.. أصبح من تجّار المخدّرات، وترأس عصابة من الشّباب اليافعين.. يحاول حلّ أكثر مشاكله عنْ طريق الرشاوي أو بالقوّة والتهديد بالسلاح.. عايد يراقب  ضياع أهله جميعاً.. يعجز عن إصلاح إخوته وحلّ مشاكل والديه. تمرّ الأيام والسنون مُثقلة بالتّعب والهموم، وضياعهم وفسادهم يتزايد، حُبلى بالإذلال والوحدة، لم يعدْ أحد يسأل عنهم أو يتواصل معهم.. توحدوا وهم بين الناس.. الحيوانات الكاسرة تتعايش أحياناً مع باقي الحيوانات، الضّعف لا يُعَدُّ سبباً لإخراج الضّعاف من الغابة، الكلُّ أخرجهم من حياته، كلّ هذا وعايد يزداد ضعفاً وهواناً.

***

  ديوان الحاج محمود يعمرُ كلّ ليلة بالسُمّار.. أكثر حديثهم يدور حول “أبو الأخوال” وعائلته.. البعض يعتبر أنّ ما جرى هو عار على هذه الأسرة، والبعض يتألّم لما جرى معهم، فهمْ لا ذنب لهم بما هم فيه، وكان هذا قضاء لله وقدره.

 

  أصبح الحديث يتزايد عن “أبو الأخوال” وعائلته في دار الحاج محمود، فقد كانت النساء يجتمعن عند زوجته، في غرفة أشبه بديوان، من كثرة الإساءات التي تُصْدرها النساء حول هذه الأسرة، اعتذرت الحاجّة أم محمود عن عقد أيّ لقاء لهنّ في ديوانها، تتحرّق ألماً وحسرة على هذه الأسرة التي لا ذنب لها.. التهجير والشتات هو السبب في ذلك، فلولاهُما لَما حصل ما حصل.

 

  في ديوان الحاج محمود، تُعقَدُ تعليلة في نهاية الأسبوع، اجتمع فيها أكثر من عشرين رجلاً.. يبدأ بمشاكل الحيّ.. ثم ما يلبث أنْ يتحوّل للتندّر بمشاكل دار “أبو الأخوال“.

– أبو نضال:  (يا إخوان احنا النا شهور بسيرة دار) “أبو الأخوال“.

– أبو مؤنس:  آه، والله صحيح.

– أبو نضال:  (وبعدين.. مش رح نخلص مِنْ هالسيرة)؟.

– أبو أيهم:  يبدو أنّ الأمور تزداد سوءاً كلّ يوم.

– الحاج محمود: يا جماعة.. كان الله بعونهم.. ربّما نحتاج لمزيد من المُعاناة لنُحسّ بالشفقة عليهم.. ما سيُقال عنهم ربّما سيفوق ما قد قيل.. لن نتباكى عليهم ولكنني أتمنى أنْ نبكي حالهم.. نتسامر كلّ يوم وهم موضوعنا.. ولكنّ أحدٌ منّا لمْ يُقدّمْ لهم شيئاً.. ارحموهم كي يرحمنا الله.

– الأبرص: الصحيح.. أنّ “أمّ الأخوال” دمّرت الحارة.

– الحاج محمود: حرام عليك يا رجل.. الأمر ليس بيدها.. هي مريضة ويجب علينا أنْ نقف إلى جانبها، وهؤلاء إخوة لنا وأصابهم ما أصابهم.

– الأبرص: وماذا سنفعل لها؟ هي لا تستوعب شيئاً، وبالتالي فهي مجنونة.

– أبو نضال: (والله الأولاد بالحارة زادوها جنون).

– أبو أيهم: و“أبو الأخوال” يجلس بالبيت ويدمن على الحبوب والمخدّرات.

– أبو نضال: (وشو هوّ الحل يا مختار)؟.

– الحاج محمود: والله الحل من عند الله.. لا يوجد بأيدينا ما نستطيع أنْ نفعله.

– أبو تركي: (والأولاد شو بعملوا اتّجاه أمهم وأبوهم)؟

– الحاج محمود: بالنّسبة لعايد، هو يعمل بمنجرة الحج أبو وصفي، وبالنّسبة لعوّاد يقولون، أنّه أصبح زعيم عصابة وتاجر مخدرات.. أمّا أخاه عودة فهو بالسجن وحُكمَ عليه بالسجن مع الأشغال الشّاقة بسبب انتمائه لعصابة إرهابية.

– أبو ياسر الدّلّال: يا إخوان.. كان الله في عَوْن النّاس، فمنذ عام 1948م والمصائب تتزايد على رؤوس إخوتنا الفلسطينيين، ألا تذكرون كيف أنّ التهجير والقتل الجماعي قام بالتسبّب في تشتيت الكثير من العائلات.. وأنّه هناك الكثير من الحالات التي أصيبت بأمراض نفسيّة وعصبيّة، وأنّ الكثير منَ الإعاقات قد نتجت عنْ هذه الحروب.

– أبو سيف: أستذكر عام 1948م حين قامت هناك مذبحة الدوايمة. هناك مثلاً محمد القيسيّـة، والذي تعرفونه جميعاً، هذا الرجل كان عمره آنذاك خمس سنوات، وعندما جاء اليهود إلى البلدة قاموا بعمل مذبحة جماعية، وعندما بدأوا بإطلاق الرصاص على الناس وبشكل عشوائي، جاءت عمّته وألقت بنفسها فوق هذا الطفل لحمايته.. أُصيبت بعدة رصاصات في جسدها مما أدّى إلى وفاتها.. عندها.. فقد الطفل وعيه من هول ما يجري، أصيب برصاصة اخترقت جسد عمته.. نزف كثيراً، حين جنَّ الليل.. مرَّ أحد الناجين بمكان المذبحة.. سمع أنين الطفل وتتبع صوته.. وصل إلى الطفل.. حمله على كتفه وجدّ السّير به ليلاً باتّجاه المستشفى في مدينة الخليل.. وصل هذا الرجل الذي لم نعرف اسمه إلى المستشفى.. سلّم  الطفل إلى الكادر الطبي، وغادر.

أبو مؤنس، مقاطعاً: ولكن كيف استطاع أهله الاستدلال عليه يا أبا سيف؟.

– أبو سيف: في الحقيقة أنّ عمّه هو من افتقده، بعد تفقّد الشهداء والأحياء.. وَجد أنّ الطفل محمد غير موجود ولا أحد يعرف عنه شيئاً.. سأل الكثير من الناس عنه.. أفاد أحدهم بأنّه سمع بوجوده في مستشفى الخليل.. ذهب من فوره إلى هناك ليجده بين المرضى والمصابين.. أراد الله له النجاة والحياة.. وها هو في عمان الآن.

– الحج محمود: يا إخوان.. سياسة اليهود في القتل والتهجير والتشتيت، هي في جعل الناس ينشغلون في لمّ شمل بعضهم البعض، وبذلك ينشغلون في البحث والسؤال، ويتركون موضوع الاحتلال، فيرتاحون بعدها منْ مشاكل الناس ومقاومتهم، لأنّ سياسة التشتيت تُؤتي ثمارها بالنسبة إليهم.

– أبو ياسر الدّلّال: ولكنّ المقاومة لمْ تتوقف يوماً ما يا مختار ” ولا يهون الجميع”.

– أبو مؤنس: كانت المقاومة تبتكر الأساليب وتُطوّرُها، عندما كان الإنجليز يمرّون بجيباتهم المكشوفة.. يمدّ المقاومين سلكاً معدنيّاً قويّاً ورفيعاً ويربطونه بين شجرتين وعلى ارتفاع بمستوى رقاب الجنود.. يمرّ الجيب مسرعاً فيقطع السلك رقابهم أو يتسبب بجروح بليغة لهم.

– الحاج محمود: هذا صحيح، ولكنّ اليهود تنبّهوا لهذا الأمر وقاموا بإضافة زاوية معدنيّة في مقدّمة الجيب وترتفع لمستوىً أعلى منه، فتقوم هذه الزاوية بقطع السلك قبل وصوله لرقاب الجنود.

– أبو أيهم: المهم يا إخوان.. ما هو الحل بدار “أبو الأخوال” الآن؟ تساءل بعدما اعتدل عن مُتّكئه وأشعل سيجارته ” الهيشي”.

– الحاج محمود: أيها الناس، دعوا الخلق للخالق، ودار “أبو الأخوال” كان الله بعونهم، فمُصابهم جلل، ولعلمكم أنّ الحاجّة أم محمود قامت بإلغاء ديوانها للنساء بسبب كثرة الحديث عنهم وإلقاء اللائمة عليهم والإساءة لهم، بدأت النساء في الخوض في حديث لا أصل له حول ما جرى، لذلك..  فضّلَت أنْ يتركهم الناس وشأنهم، فيكفيهم ما جرى لهم.

– أبو نضال: (وانت يا حاج.. شو ناوي تساوي؟ بدك تلغي الديوان يعني؟).

– الحج محمود: لا طبعاً.. ولكنّني أفضّل عدم الخوض في هذا الموضوع بتاتاً.. راجياً أنْ يكون هذا هو آخر كلامنا بالموضوع.

  يتوسط مضافة الحج محمود “نُقْرَة” تقع أمام مُتّكأه يشتعل فيها طرف من الفحم فيعطي وهجاً أحمر اللون، ليضفي جمالاً مميزاً لإنارة المضافة الخافتة، وكأنّها نجوم حمراء تتلألأ بطرف سماء سوداء وعلى جانب الجمر وُضعت دلال القهوة العربية، انحنى الحاج محمود للأمام قليلاً.. أزاح إحداها.. نظر بطرف عينه إلى شاب كان يجلس بينهم.. أومأ له بأنْ يدير القهوة على الحضور إيذاناً بانتهاء السهرة.

 

  في أحد أركان المضافة.. يجلس أحدهم متوسّداً متّكأه.. يتلثّمُ بشماغ أحمر وبلا عقال.. لا يُرى من وجهه سوى عينيه اللتين كانتا تظهران وكأنهما خطان أسودان. لمْ يره الناس الاّ متلثماً، لذلك كنّوه بالملثم، فلا أحد يعرف اسمه سوى المختار الذي استقبله حين قدم إلى الحيّ وعرف قصته. أحياناً كانوا ينادونه بالملثم وأحياناً أخرى بالغريب. ما يميّز هذا الرجل قلّة مشاركته حديثهم، بل كان يجلس طيلة وقته يستمع لما يدور من أحاديث ونقاشات، دأب أنْ يشتري في المجلس ولا يبيع.. فجأة اعتدل في مجلسه وتربّع.. تنحنح بصوت مرتفع وكأنّه يأخذ الإذن بالحديث.. سكت الجميع وبدأوا ينظرون إليه مشدوهين.. هذه هي  أوّل مرّة يتحدّث فيها. امتدّت يده اليمنى إلى علبة الدخّان التي كان يضعها أمامه ويضع فوقها قدّاحة الكاز.. قام بوضعهما في حجره.. بدأ بإماطة لثامه وهذا ما لمْ يعتدْه الحضور، ليُماطَ اللثامُ عن وجه ببشرة سمراء لرجل “أجرودي” فلا شعر ينبت في وجهه كاملاً، حتّى حاجبيه ورموشه وشاربيه. لمْ ينظرْ لأيّ منهم وإنما تناول علبة دخّانه، فتحها.. أخرج منها دفتر سجائره “الأوتومان”.. اقتنص منه ورقة بهدوء تام.. بدأ يضع فيها التبغ بعد أنْ مدّدها بين اصبعيه السبابة والإبهام.. ثمّ بدأ يلفّها حتى استدارت بقطرين مختلفين من كلّ جهة.. قام بإزالة زوائد التبغ من الأطراف، وأعادها إلى العلبة هي ودفتر الّلف، ثُمّ أغلقها. مدّ السيجارة ممسكاً بها من طرفيها بيديه.. قضم من حافتها بأسنانه العليا وشفّته السفلى.. نفثُ ما استقرّ على شفته.. بلّ طرف السيجارة بريقه ثمّ  قام بإلصاقها ببعضها.. وضعها بين شفتيه.. جال ببصره على الحاضرين.. قام بإشعال قدّاحة الكاز التي كان يرتفع منها خيط من السنا الأسود إلى ما فوق رأسه ليبدو منظره كدخان قطارٍ بدائيٍّ.. مدّ السيجارة.. أشعلها، وسحب نفساً عميقاً.. رفع رأسه وهو ينفث الدّخان من بين شفتيه وأنفه ليصنع سحابة كادت تحجب وجهه عنهم.. منظر خروج الدّخان وكأنّه فوضى تنشب بين ما يخرج من بين شفتيه وما يخرج من أنفه، ليمرّا فوق شفته الجرداء من الشوارب.. استأذن من الحج محمود بأنْ يتكلّم.. أومأ له بالإيجاب.

 

فقال:

  حكايتي لا يعرفها سوى المختار الحاج محمود.. حين قدمنا من فلسطين.. وكنت في ذلك الوقت فتىً يافعاً.. نزلنا في جنوب المملكة.. بدأنا نربي المواشي.. المراعي لا بأس بها، التحقتُ بمدرسة القرية الوحيدة.. وعند عودتي من المدرسة، ألتَحق ُمتأبطاً كتبي بالمرعى لأساعد أخي الكبير في رعي الأغنام.

 

  تحسّنت أوضاعنا المادّية فقام والدي بشراء قطعة أرض مجاورة للقرية.. يقع وسط هذه الأرض بئر، حيث كانت تتجمع مياه الأمطار من المنطقة لتملأ هذا البئر، وبعد عدّة سنوات قام والدي ببناء بيت يُؤوينا.. جمعَنا على المحبة والوئام.. قضينا به سنوات خففت عنّا مرارة الشتات والهجرة.. تركت في نفوسنا ذكريات جمعتنا على المحبّة الأسريّة.. أنهيت دراستي في الكلية وتمّ تعييني مباشرة معلماً هناك.

 

  قاطعه أبو ياسر الدّلال، الذي اعتاد أن يلفَّ طرفي شاربيه، ليُعيد اتّجاههما للأعلى، وقال بعد جلبة بدأت في المجلس، وأسئلة حائرة، واستنكار بدا على وجوه الحاضرين، معقباً: “معقول بعد الشتات والغربة، الملثم صار معلم؟” هزّ المختار رأسه مؤكداً: لهم أنّ الملثم (سالم اليوسف) رجل متعلم وكان أستاذاً في مدارس الجنوب. – سالم اليوسف: رغم الشتات ومرارة العيش وسوء الحال، إلاّ أنّ عزاءنا كان في طيبة وحسن معشر أهل القرية التي نزلنا بها، والتي تكوّنت منْ عشيرتين اثنتين.

 

  عاود سالم اليوسف يلفُّ سيجارة أخرى وسمات القلق والضجر بادية على وجهه.. تأفّف بألم وحرقة وقال:

المشكلة ليست هنا، فنحن كنّا بحال أفضل من حال  الكثيرين الذين هُجّروا وشتتوا.

 

  في يوم من الأيام.. بعد أن أعطيت لطلابي الحصة الأخيرة.. وحال خروجي من المدرسة.. أجدُّ السير لأعود للبيت.. فوجئت بسيارة شرطة تعترض طريقي.. أوقفوني وسألوني عنْ اسمي، ولمّا تأكدوا من شخصيتي طلبوا مني الصعود إلى السيارة ونقلوني إلى المنزل. فوجئت بالعديد من رجال الأمن حول بيتنا.. انتابني خوف وقلق.. سألتهم: ماذا حصل..؟ فكان جوابهم بأننا ابتُلينا بدمٍ. عندها صرخت بأعلى صوتي مستنجدا بالله أنْ يلطف بنا.

 

  أشعل المعلم سالم اليوسف الذي كان يعرف بالملثم  حتى دقائق قليلة، سيجارة أخرى وبدأ ينفث دخانها من بين شفتيه وأنفه ليعيد رسم تلك السُّحب التي غطّت على وجهه، وذلك بعدما تناول كأس الماء ليشرب، فانسكب القليل منها وبلل سيجارته واستطرد قائلاً: دخلت البيت الذي كان كلّ منْ فيه يجهش بالبكاء والصراخ.. أمي وزوجتي تولولان وتنوحان.. تذكران اسم أخي الكبير فيّاض. تقدّمت ببطء إلى والدي وسألته : ماذا حصل يا والدي؟ أفاد بأنّ شجاراً وقع بين أخي الكبير وأحد الرعاة من القرية.. فقد أخي أعصابه وهوى بعصاه على رأس الراعي فخرّ هذا صريعاً.. جاء أخي فيّاض وسلّم نفسه إلى المختار، الذي قام بدوره بإبلاغ الشرطة.. حضروا بسرعة.. قاموا بنقله إلى سجن المدينة.. أمرونا أنْ نمكث داخل البيت ولا نخرج لأيّ سبب كان.. سألتهم عنك، فأفادوا بأنّهم سيقومون بإحضارك من المدرسة في الحال.

– سالم اليوسف: والأغنام يا والدي…

– الوالد: قام المختار باستلامها، وطلبت منه أيضاً أنْ “ندخل” بعشيرتهم وفقاً لعاداتنا وتقاليدنا العشائريّة.. فوافق.

– أبو سيف: أعانكم الله على ابتلائكم.. مصيبتكم عظيمة..

سالم اليوسف: أختصر عليكم وأقول لكم بأنّ عشيرة المقتول طالبت بإعدام أخي وأمرونا بالجلوة.. أخذتنا الشرطة ليلا وبسريّة تامّة إلى عمان بناء على طلب والدي.. بعد أيام حضر إلينا المختار ومعه الشرطة.. تمّ الاتّفاق على أنْ يقوم المختار بشراء الأغنام كما تمّ الاتّفاق على السعر، إلا أنّ المختار قام بدفع مئة دينار زيادة، رفض والدي إلا أنّه أصرّ على دفع المبلغ الذي اعتبره دعماً وعوناً لنا.

– الأبرص: وماذا حصل بعد ذلك؟ والبيت وأخيك؟

– سالم اليوسف: بالنسبة للبيت فقد اشتراه أحد أفراد العشيرة الثانية بسعر مرتفع، أماّ بالنسبة لأخي فقد تمّ إعدامه بعد عامين منَ الحادثة، أصاب والدي الفالج على إثرها، وبقي طريح الفراش إلى أنْ توفّاه الله.

– أبو نضال: (يعني هيك خلصت مشكلتكم؟).

– سالم اليوسف: علمت قبل إعدام أخي بأنّ أحد إخوة القتيل طالب وما زال يطالب بالثأر مني، ومنذ ذلك الوقت ونحن نعيش بخوف ورعب، ومنذ قدومي لعمان وأنا أتلثم للآن كيْ لا يعرفني أحد.

– أبو نضال: (والله أنا أول مرة بشوف وجهك).

– سالم اليوسف: الخوف جعلني أعيش هكذا، فأنا للآن لا أجرؤ على كشف وجهي.. أليس هذا شتات مرعب؟ ذاك الشتات خففت آثاره الدول التي استضافت المهجّرين، أمّا شتاتنا فلا أحد يستطيع أنْ يقوم بحمايته، فالذّئب ليس بحاجة لأكثر من ثوان قليلة لينقضّ على فريسته وينهشها، لذا.. سأبقى بهذا اللثام إلى أنْ يقضيَ الله أمراً كانَ مفعولا.

 

  تناول سالم اليوسف علبة تبغه والقدّاحة.. وضعهن في جيبه.. أعاد اللثام.. استأذن وخرج.

 

  لفت انتباهي غياب أبو مشعل “محدّثي” عن الجلسة والحوار، وعندما سألته عن ذلك أفاد بأنّه كان يمرّ بحالة مرضيّة أقعدته عنْ الخروج لفترة طويلة.. أعدت سؤاله عنْ مصدر أخباره ..أعلمني بأنّ أهل الحيّ والمنطقة لم ينقطعوا عنْ زيارته، وأنّ كلّ واحد منهم كان يأتي لزيارته فيُفرغ ما بجعبته من أخبار قبل مغادرته. قمتُ بسؤاله عن علي وحلا وما حصل معهما؟ أفاد بأنّهما ينعُمان بحياة سعيدة، وقد تحسّنت أوضاعهما الماديّة كثيراً وبأنّ حلا أنجبت توأمين هما يارا ويزن.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!