امام الباب القديم/ بقلم : الكاتب والإعلامي أحمد مزيد أبو ردن

… أمام الباب القديم …

… (( للباب أكتب قصَِّة الأيّام ِ
انثرها سرابًّا قد تناثر
في فضاءاتِ السُّفُوحِ
يا بابنا الغافي على
الطرُّقاتِ أشبهُ بالضرَّيح ِ)) ….

من هنا مَرَّ العابرون ولم يلتفتوا لحارس المكان الذي ظَلَّ يراقب الدروب ، وينتظر أهله الذين ذهبو وأمعنوا في الغياب ولم يرجعوا ليطبّق دفتيه وراءهم .
منهم من نأى الى البعيد واتخـَّذ أبواباً جديدة ، ومنهم من طواه الردَّى تحت التراب، كُلهُّم أوغل في سفر الهروب فلم يعد يسمع صخبهم وضجيجهم وضحكاتهم العالية ولا اصطفاق درفتيه بقوة وعنف حين يغضب أحدهم فيزرع غضبه ونزْفه في باب الخشب القديم ، الذي لم يبرح المكان ظَلَّ ينتظر وهو في وقفته الملحميَّة , حتّىَّ أكل الريح والمطر جوانبه الكالحة ، وأذابت الشمس والغربة والصمت كُلُّ أجزائه.
ظَلَّ يعاني بصمت ويرفض ان يغادر ، لقد تشبَّث بهذا المكان الذي لم يعرف غيره، ولذا لن يرحل إلاَّ إلى النَّار التي تحوّله إلى رماد أو إلى النفي خارج وقفته الطويلة ، فهو منذ أن جاء فتىً أقام هنا وسيبقى حَتّىْ تتناثر ألواحه الخشبية .
كان جديداً يتيه افتخارً بلونه الأزرق السَّماوي الجميل ، ويلمع تحت أضواء الشمس وتعانقه أنوار القمر البهي في الأماسي المقمرة المضيئة من ليالي الصَّيف الساحرة التي لا يغلق فيها أبدا من أجل أن تتسَّرَب برودة النسائم الرَّخيَّة العليلة إلى أعماق البيت .
ترى أيَّة أسرار يخبئها هذا الباب القديم المتوحد في طقوس عزلته وغربته الطويلة ؟
سلاما أيهُّا الباب الأزرق المتآكل وأنت في وحشة صمتك السرمدي الذي لا يريد أن يفصح عن أخبار الـْذين ناموا خلف مزلاجك الحديدي ، وغرقوا في السُّبات العميق وأنت حارس بيتهم الذي يقيهم غائلة البرد القارس والحر الخانق ويحجب عنهم الأصوات العالية التي تتعالى ضجيجاً وصخباً في الخارج .
أيُّهذا الأزرق الخشبي ! لو أنَّ لك ذاكرة تحفظ التفاصيل ولسانا ينطق بما يسمع ورأى لجئت بالعجائب والغرائب من حكايات البشر ومن أسرارهم الدَّفينة كُلهَّمْ رحلوا لم يبق خلفك إلاّ الذكريات وأشباح الطرَّيق المجهولة ، وأنت في انتظار الذي لن يعود ولا أدري إلى أين ستفضي بك الأيَّام ؟
لقد هرمت وشخت ودَّب الفناء إلى جزيئات أخشابك رغم أنكَّ تبدو للعيان صلباً وعنيداً ، ولكنَّك يا صديقي لا تريد ان تعترف أنـَّك متعب حَتىَّ الجذور ، وقد احتلَّ الضجر روحك وأثرَّتْ الشمس في لونك الازرق الذَّي يشبه لون البحر والسماء.
لقد بدأ التآكل والشحوب يفرضان مناخاتهما الجائرة عليك أيهَّا الرفيق القديم فسلام على روحك الطيَّبة الكريمة ، يا أيهَّا الباب الواقف في فوضى الأشياء لقد تآلفنا معك وعشنا نلعب بأدراج الطفولة خلفك فتغلق علينا درفتيك ونحن نتوارى ونختبئ عن بعضنا البعض .
وكانت لنا لحظات اللقـَّاء التي لا تنسى مع تلك المترفة الحس العذبة الروح التي ذهبت إلى غير رجعه ، وعندما أمـُّر بك وأنت في صمتك العميق أنبش الذكرى التي ارتبطت بهذا المكان .
وانت الوحيد الذي بقي وفياً للبيت ، بعد أن تهاوت السُّقوف وتساقطت الجدران الخلفية وتناثر الزجاج شظايا ، لماذا أنت الذي ما زال واقفا ينتظر ؟ ولأي شيئ تنتظر ، لست أدري ما هي حكايتك !.
لقد ألفت المكان ولم تطق عنه بعادا .
فبماذا تبوح أيهَّا المجنون العاشق للنجوم البيضاء اللامَّعة البعيدة التي تلقاك صاحياً فتحاورك حتَّى ينفلق الصباح .
لم يعد يتذكرك احد من الذين كانوا يتنعمون بالحياة وأنت تطبق عليهم لتمنحهم الصمت والهدوء والسكينة لكنني يا صاحبي لم استطع ان أنساك فمررت عليك وأخذت لك هذه الصوره ، وكتبت لك هذا النصَّ اللاَّشعوريَّ الذي أهديه لرفيق الصَّبا الباب القديم .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!