دقيقة صمت/ بقلم: غزوان سلوم

لصحيفة آفاق حرة 

 

بقدميه المقوستين وظهره الحاني من عبأ الأثقال التي تعود على نقلها بسبب عمله (عتال، شييال)، قبض ابو سالم اكرامية التاجر الذي أنزل له الحمل، وانطلق نحو السوق، ليشتري لحفيديه اليتيمين وزوجته بعض ما يحتاجونه من طعام، الباعة يعرفونه منذ خمسة عقود، رجل بسيط، عريض الصوت، دمشقي اللهجة، فارع رغم تعب السنين، تدل بنيته على أنه كان شابا قويا.. متينا.. أما حاضره فيؤكد انه (عتيييق.. حزين كما هي حارات دمشق القديمة) ، أكثر ما كان يعرف عنه، الأمانة والفقر، اقترب ابو السلم (كما يدعونه) من بائع الفاكهة، فاشترى نصف كيلو مشمش، ومثله كرز، كيسين صغيرين بالكاد يظهران في كفه الخشن المفلطح، لكنهما سيرسمان بهجة على وجه ام سالم والولدين، فباهية او (بهية) ذات العشرة أعوام تحب الكرز، اما سالم فيعشق المشمش وتكسير لبه، سيجبر بخاطرهم المنكسر، لقد توفي والداهما في الأحداث، وتركاهما في عهدته، مر بعدها على اللحام الذي استقبله بتأفف ملحوظ، لكن ابو سالم، بادر باعطائه ورقة من فئة الألفين، مبتسما، فهذه المرة سيدفع ثمن الأوقية التي اعتاد أخذها كل اسبوع، اخذ (أبو ساطور) المال والتفت لغيره، مضت عشر دقائق، وابو سالم ينظر إلى أصناف اللحوم، ويتذكر ايام شبابه، والخير الذي أطل عليه في بعض ايام عمره الماضي، وحين تعبت قدماه، تذكر حاله، فنادى على اللحام كي ييسر أمره، فرد عليه بلؤم: لا شيء لك عندي، هذه ايفاء لبعض ما كنت تأخذه في السابق، لمعت دمعة في عين صاحبنا، ونفسه تحدثه: اهكذا يغلب الرجال!!!! أهكذا يهان الرجال..؟؟

حوقل واستغفر وطأطأ رأسه مخفيا مابدى على محياه من احمرار واحراج وقهر.. ومضى، لم يبق من ماله الا الف ليرة يحضر بها بعض اللبن والجبن، وصل إلى البائع، وطلب بمالديه جبنا ولبنا، ثم سأل البائع عن نوع من الجبن، نسي مذاقه، فضحك البائع، ومازح ابو سالم، قائلا: (هذا ليس لأمثالك ابو سالم )، تبسم الشيخ العجوز، اخذ حاجته، سار خطوتين، تثاقلت قدمه اليمنى، وأبت ان ترتفع عن الأرض. أعانها بيده ليدفعها، لكنها يبست كآلاف أشجار الزيتون في غوطة دمشق، دفع بقدمه اليسرى نحو جدار قريب، أحس بطعنة تخترق صدره، ثقيلة تلك العبارة على خفتها…. اتكأ على مصطبة قريبة، نزل عليها كما يرتمي كيس الطحين الخرق، تنهد وزفر نفسا لو طال أروقة الشام لأحرقها، أسند رأسه الى حافة شباك خلفه، نظر الى سقف السوق المقوس المثقب برصاص الفرنسيين، سمع أصواتا كان يعرفها تناديه… خرج من بينها صوت حاد، حارق : هذا سداد بعض دينك.. هذا ليس لأمثالك.. سقطت تلك الدمعة المحتبسة على لحيته الخفيفة…ثم صمتت جميع الأصوات.. سكون غريب لف سمعه وبصره وجوانحه.. خالجته نسمة عبقة برائحة الياسمين، تغلغلت في صدره… مضت دقيقة صمت… ساعة صمت.. ومضى ابو سالم في صمت.

 

لك الله يا شام.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!