يا وَرَق الدِلب الأخضر. بقلم. نجم الدين سمّان

لآفاق حرة

تداوَلَ رُكَّاب بُوسطِة أبو الكيف عشراتِ الحكايات الغامِضة عن نشأةِ مدينتهم؛ لا أحدَ منهم يعرِفُ بالضبط.. متى أُنشِأَت؛ ولا مَن بَنَاهَا؛ ولا.. مَن سَكَنَهَا؛ ولا.. معنى اسمِها !!.
ويتداولُ الأدالبة بأنّ اسم مدينتهم.. مُشتَقٌ من شَجَرِ “الدِلب” الذي كان كثيفاً فيها؛ ثمّ قطَعَهُ الأدالِبةُ الأوائلُ تِباعاً.. وزرعوا أشجارَ الزيتونِ.. مكانَهُ؛ وتلكَ طريقةٌ تلوى عُنقَ اللغةِ؛ على غِرارِ: شِكسبير.. حينَ يصيرُ بطريقةِ هؤلاء: الشيخ زًبير !.
وأقدمُ تاريخٍ لديهِم عن إدلب.. تلك الروايةُ: بأنّ السُلطانَ العثمانيّ – هكذا دون أن يعرفوا ما هو اسمُهُ بين السلاطين – قد أقطَعَ إدلبَ للصَدر الأعظم ” محمد الكوبرلي باشا” ما يُعَادِلُ اليومَ مَنصِبَ رئيسِ وزراء؛ وأعفاها من الضرائب فازدهرت؛ وبنى فيها “خانَ الرزّ” وخاناً آخرَ لا يُعرَف باسمِه الأصليّ وإنّما باسم: “خان الشحَّادين” ونَظَّمَ لكلِّ حِرفَةٍ سوقاً خاصّاً بها و”شيخَ كار”؛ وكان فيها مِئاتُ مَعَاصِرِ الزيتون الحجريّة؛ وأكثرُ من 30 مَصبَنةٍ لصناعة صابون الغار.
ثمَّ ترَحَمُ رُكّاب البوسطة على جمال عبد الناصر حينَ زارَ إدلبَ؛ فذبحوا له الخواريفَ على طَرَفيِّ مَوكِبِه؛ فلمَّا سألهم عن مطالبهم؛ قالوا:
– الاستقلال إداريّاً.. عن مُحافظة حَلَب.
عَلَّقَ أبو الكِيف:
– كلما لوَّحَ زعيمُ بيديه؛ تأخذُ السكاكينُ رقبةَ خاروفٍ من الرَعِيَّة.
ردَّ عبد القادر الكرديّ: – لولاه ما كانت إدلِبُ محافظةً.
غَمغَمَ الرُكّابُ مُوَافِقِين؛ فَرَدَّ أبو الكيف.. لِتَوِّه:
– مِن عجائب الدُنيا السبعة.. أن يجتمعَ كُردِيٌّ وناصِريٌّ في جسدِ رجلٍ واحد؟!.
فاستدرتُ قائلاً.. لأفُكَّ الاشتباكَ بينهما:
– سَمِعتُ جَدِّي إسماعيل يقول: إدلِبُ.. إدلِبان؛ كُبرَى.. و صُغرَى؛ الكُبرى.. اندثرت؛ ولا نعرِفُ سوى أنها كانت عند “الرَام”؛ والرَامُ في السريانيّة: النَبعُ الشَحِيحُ؛ ومِن حَولِهِ شِبهُ بُحيرةٍ.. لا ترومُ مكانَهَا؛ كانت تُسمَّى: “رَامَ حَمدَان”.

تابع أبو الكيف.. مُؤيِّداً كلامي:
– لمّا بدأوا بانشاء أوتستراد “باب الهَوَا – إدلب”؛ انكشفَ لهم عند النَفَقِ الذي حَفَروه.. قوسُ بابٍ حجريٌّ تحت الأرض؛ كنتُ مِن أوائلِ النازلينَ إلى داخلِه؛ فرأيتُ جزءاً مِن سُوقٍ عتيقٍ والدكاكينُ على جانِبَيه؛ بينها دُكّانٌ لا يزَالُ فيه حَطَبُ شجر الدِلب.
فسأله أبو الياس:
– وماذا رأيتَ في السوقِ.. أيضاً؟.
قال: – لم أُكمِل بعدَ مُنتصَفِه؛ سَدَّته الأتربةُ مِن فتحةٍ في سَقفِه المَقبِيّ؛ وجاء المُحافظ فأمرَ بِرَدمِهِ حتى لا يتأخّرَ انجازُ الأوتوستراد.
عندها وصلَت “بُوسطةُ” أبو الكِيف إلى مَشَارِفِ إدلِب؛ فدخلناها.. آمِنِين.


*- اللوحة.. للفنانة سميرة بيراوي Samera Birawi
– حارة في إدلب.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!