{{ وميض حزن }} الشاعرة. هناء عبدالله الطيبه. الأردن

لصحيفة آفاق حرة-

 

{{ وميض حزن }}

الشاعرة. هناء عبدالله الطيبه. الأردن

 

على مشارف الإنتظار أبيت في حيرة من أمري.
وتتعالى بين نبضات قلبي صرخات وآهات وذكريات، تكبلني بأغلال اليأس وتأسرني بقيود الحنين، وتحبسني في زنزانة الألم.
وتتوه حروفي، وتهرب كلماتي، وتضيع همساتي، وتنتحر أمنياتي، وتنحدر خلجاتي على منعطفات الأحلام وتشد الرحال وتذهب بلا عودة.
ويتسلل من بين ظلال الأفكار حلم بات صعب المنال يهتز شوقا بين مد وجزر.
أحبس أنفاسي المتعبة، وأهتم بكل حرقة لأدق التفاصيل المغلة، تتبعثر في مساحات ذاكرتي كل المواضيع وأرى مزيجا من الترهات والسخافات تغدو من حين لآخر وتقرع على طبول لحظاتي وتدق أنغاما تائهة على أجراس ساعاتي ألحانا حزينة، وثرثرة تغرس سيوفها في حنايا الروح، وتتوه أفكاري المشوشة وتضيع كلماتي في دهاليز الأشجان .
أدخل إلى حجرتي وأجلس على أريكة قديمة، وأحتسي فنجان قهوتي شديدة المرارة، فهي كالحياة تماما بلا منازع تشابهها بكل ما تحمل من تعب وعناء ومرار.
أقلم أظافري وأسرح شعري، وأرخي جدائلي، وأفتح نافذتي وأرى سماء سوداء قاتمة تنتشر فيها نجوما براقة،
وتفرد شالها المخملي على عتمة الدجى.
وعندما يستكين الفجر في قعر وحدتي يتغلغل الضجر في أعماقي، ويطبق على صدري، ويكتم أنفاسي، ويركلني جانبا، ويطرحني أرضا، ويرديني قتيلة في فناء النسيان ، ويسجنني بين سراديب القلق، ويبقيني مأسورة بين قضبان الألم،
وأسقط مغشيا علي في حافة الهاوية،
ويزمجر الذعر بأرجاء الوجدان.
وينقر الحزن على تابوت قلبي بمنقاره اللعين، ويدق الألم مساميره بنعش لحظاتي كل حين،
وأنطوي على ذاتي وأسرح في مخيلتي وأتذكر عهودا غابرة مضت، أكل عليها الدهر وشرب وأسقاني شقاء الزمان بكؤوس إمتلأت بالعذاب وفاضت به ملء الروح.
وتذكرت فقيرا مهمشا كان يقطن بحينا،
لا يجد قوت يومه ولا حتى كسرة خبز تسد جوعه، ولا شربة ماء تدخل جوفه وتبل ريقه، يتضور جوعا
وعندما يشتد عليه جوعه يضع على معدته الخاوية حجرا لكي يهدئ من روعها،
فهو الفقير الذي إذا جاع نام؟
يعيش بغرفة مظلمة ويفرد سجادة بالية على أرض باردة جدرانها عالية
وسقفها آيل للسقوط،
لا تحتوي إلا على سرير مخلوع، وطاولة محطمة، وسلة قمامة، وتكاد أن تخلو من كل شيء من مستلزمات الحياة، يتكئ على عصا الأمل ويتشبث بإيمان بالخالق الذي لا ينسى عباده الصابرين،
ويقترب من تلك الخزانة المهترئة ويفتح أدراجها ويخرج منها علبة سجائر، ويخرج أعواد الكبريت ويشعل سيجارة ينفثها بكل حرقة قلب ويتطاير دخانها في أنحاء المكان، ويمشي بخطوات مثقلة بالأنين ويضرب الأرض بعصاة صغيرة، لتشفي غل صدره بكل ضربة يصوبها على تلك الأرض البائسة، تعبيرا عن رفضه لهذا الواقع المؤلم ولهذا الوضع المزري،
وعندما تحركت قوافل أفكاري في صحراء الذكريات، وخطر ببالي من كانوا يجاوروننا بالحي،
تذكرت طفلا صغيرا كان يلهو بدمية حمراء ممزقة، وكلما لامست قدماه السجادة يتعثر بكل خطواته، ويبعثر القطن المحشو في داخل الدمية، ويرميها حينا ويمسكها حينا آخر،
ويداعب بأنامله الصغيرة تلك الدمية الممزقة.
وتسكن بين ضلوعه طاقة حب أبدية لا تنضب أبدا،
وتترنح بين شفاهه ضحكات مسروقة، وتتراقص في عينيه نظرات البراءة، وتكاد للوهلة الأولى أن تلمح بريقا مشعا يلمع بين مقلتيه.
ويحتضن كل الأشياء من حوله.
ويدور ويلعب بأروقة المكان،
تارة يقطع القلادة، وتارة أخرى يركض نحو الباب، ويجمع بعضا من الأغراض التي ترامت على الأرض، ويفتح الأدراج ويسدل الستائر، ويلعب بساعة معدنية ويطرحها
أرضا كل حين،
ويمسك خاتما وأساور فضية وعقدا مقلدا.
ويسكب قوارير العطر على ثيابه.
ويزحف من هنا إلى هناك، ويحبو أرضا ويغفو بكل براءة وعفوية على شرفات الأحلام، ويهفو محلقا في فضاء المكان تحمله بين أحضان دافئة وتخطف من ثغره الباسم قبلات مسروقة، وتحتويه طاقة دفء لتذهب به إلى بقعة ضوء تزيده شقاوة وعذوبة، فبكل هذه البراءة والعفوية نجد ملاكا بريئا لا يجيد فن التصنع، ولا يكترث لأدوار التمثيل، ولا يبالي بشيء على خشبة المسرح في هذه الحياة الغريبة الأطوار.
ولا يخرج عن المألوف،
وكبر هذا الطفل الصغير وأصبح فتى في ريعان الشباب،
شب وترعرع بنفس المكان الذي عاش معه وبه منذ نعومة أظفاره حتى بلغ سن الشباب،
فهو فقير جدا،
ولد وليس بفمه ملعقة من ذهب، ولا ينام على وسادة من ريش النعام، وغطاء من حرير،
عاد إلى حجرته الصغيرة ويتمعن بالنظر بكل شيء حوله،
جدران وخربشات،
أحلام وذكريات،
آمال وخيبات،
جلس على كرسيه القديم وطأطأ قدمه تحت الطاولة وبدأ العد التنازلي ليطلق العنان لمخيلته،
أفكار تتسابق مع أفكار،
وهواجس يدوي صداها على أرض أحلامه،
ولآخر رمق يولج إلى صدره يبقى بصراع دائم مع ذاته، ويعلن على تعاليم واقعه الأليم حربا طاحنة تدور رحاها بين شيء وضد،
بين التأقلم مع الحياة أوالتمرد
على الواقع،
وبين المتشابهات والمختلفات، وبين البدايات والنهايات،
وبين الأمس واليوم،
وبعد صراع طويل الأمد يعود من جديد يرقد بين أحضان السكون، ويلقي رأسه على تلك الوسادة ،
ويسود الهدوء بالمكان، ويزول الضجيج من كل الأرجاء،
ويلتحف غطاءه ويحتضن دميته البالية التي عاشت معه منذ عهد الطفولة، ويسرح في عالم الأحلام، ويرحل ذلك المساء الحزين تاركا خلفه كل تلك الأمنيات والضحكات المقتولة،
إلى أن تشرق الشمس من جديد ويعود كما كان بالماضي طفلا صغيرا يلهو ويمرح ويلعب بدميته البالية ويشع في عينيه وميض حزن يدمي القلوب بجراحات لا تضمدها لعنة الإنتظار…
..

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!