نعامة وحجل وغراب / بقلم : إيناس ثابت – اليمن

يحكى أن أرضا خصبة كانت تستريح تحت أشعة الشمس المشرقة، تعاشر الماءوالريح وتنمو على وجهها الحقولاليانعةالخضراء؛فلا تتوقف عن زيارتها السحب المثقلة بخير المطر. عاش فيهاطائرا نعام وحجل، فاعتنيا بها وزرعاهابأصناف الحبوب والثمر، ولما كانت الأرض كريمة بالخيرات فقد جادتبشتى أنواع المحاصيل؛ وعاشا في بحبوحةمن غلال تجود بها سماء كريمة وأرض خصبة معطاء. عاش الشريكان الواحد بجانب الآخر طوال ما كُتِبت لهما الحياة.

 نعمت الأسرتان بالوئام سنوات طويلة حتى مات الأبوان. هكذا انتقل ميراثالمزرعة إلى ولديهما حجل ونعامة؛والنعامةسافرت يوماوغابت لسنوات طوال، تركت خلالها رعاية المزرعة على عاتق شريكها الحجل، وقد أخلصبالعمل والعناية بالمزرعةبأمانة وجهد لا يعرف الكلل. كان الحجلخبيرا يتقن الزراعة،ويعرف أسرار العنايةبالأرض وكنوزها، فأخلص لها وعمل باجتهاد طيلة غياب النعامة، مستكملا مسيرة والده رحمه الله، عندما كان يراقبه كيف كانيقدِّس الأرض.

 لكن السفر والترحال والحنين للوطن الأول، كان قد أضنى النعامةبعد سنوات من الغياب، وألحت الغربة عليها بالعودة للديار، لتجد المزرعة غنيةبالمحصول أكثر من ذي قبل. وحينما ارتاحت واستقر بها المقام؟ تقدمتباقتراح للحجل يقضيباستخدام الأساليب الزراعية الحديثة، التي تعرفت إليها خلال زمن الغياب. هذه الآلات الجديدة المبتكرة ورشاشات المياه والأسمدة والمبيدات ستضاعف الغلال . لكن الحجلأصر على البقاء على أسلوبه المتوارث عن أبيه، فها هي الارض تثمر كما كانتوأكثر، وهي لا تحتاج إلا لمن يزرعها،ويعتني بها ويرويأرضها.

 بعد نقاشوجدلواختلاف اتخذا قررا بتقسيم المزرعة، فيتعامل كل واحد مع حصتهكيفمايقتنع وبما يرغب أو يشاء. وهنا اعترض الحجل مرة ثانية على شريكته النعامة وطالب بالجزء الأكبر من الأرض، لأنه وحده من اعتنى بها خلال سنوات طويلة منالغياب. رفضت النعامة وقالت: أنا اكثر منك علما والأكبر حجما بين الطيور، وهكذا فمنحقيوحاجتي أن أنال الجزء الأكبر.

 قال الحجل: أيتها المغفلة المغرورة، إن كنتِ حقا الأكبر حجما بين الطيور، فإنك الأقل دراية وحكمة وذكاء،فرأسك فارغ إلا من عقل صغير، لا يزيد حجمه عن النملةبمقدار. أنا صحيح لم أدرس فن الزراعة الحديث، إلا أنني أكثر خبرة ودراية منك بما تحتاجه الأرض، فقد قضيت سنوات طويلة في التعامل معها، ومن يجرب ليس كمن يدعي المعرفة. ألم تسمعي عن ذكائنا وحنكتنا نحن طيور الحجل؟ ناهيك عن أصواتنا العذبة الساحرة ورفرفة أجنحتنا تسلب الألباب؟

 غضبت النعامة وقالت: لكنك غير جدير بالنظر إلى بعيدلحراسة الممتلكات. أما ساقاي فطويلتان وسريعتان و مميزتان بمخلبين حادين للدفاع عن الأرض، ورقبتي طويلة جدا ولا تتواجد إلاّ فينا نحن معشر النعام. ممايسمح لي ويساعدنيعلى تحريك رأسي في كل اتجاه لحراسة الأرض.

 ضحك الحجل وقال: أيتها الغبية يا أمَّ الساقين الطويلتين والعقل الصغير! إن كنت سريعة بفضل ساقيك؟ فأنا مشهود لي بسرعتي وأنا أعدوعلى الأرض، وأطير محلقافي الفضاء وهو ما تعجزين عن القيام به، عدا عن براعتي في التمويه والتخفي بين الصخور على الآكام،فأنا يا صديقتي اكثر الطيور صداقة للبيئة وأعرف كيف أحميها جيدا، فكيفتتجرئين على الادعاء بحمايةالمزرعة!؟وأنت الجبانة التي تهرب من الصعاب، و تدفن لغبائها رأسها في الرمال؟

 قالت النعامة دون أن تواري غضبها: هذا ادعاء فارغوأسطورة كاذبة حاكها الناس. لست جبانة مثلك أموه نفسيبين الصخور، بل أخفض رأسي وأدسّه في الرمال وأضع أذني على الأرض لأسمع الخطر المقبل، وأنا شديدة البأس في مقارعة الأعداء،وفي رفستي قضاء على الخصم.

 وهكذا احتدم النزاع بينهما أكثر وأكثر، وارتفعت معه أصوات الخلاف، عندما أخذ كل واحد يتباهى بصفاته الحميدة وينددبعيوب الأخر؛ وهنا تدخل غراب عجوز كان يقفقريبا على شجرة، يراقب ويسمع ما يدور من الحوار بين الشريكين.فاقترح أن يتولىالحكم بينهما لأنه كما ادّعى، يعرف المزرعةمنذ نعومة أظافرهما، وشاهد على ما جرى في ماضيها وحاضرها.

 طلب الغرابمن النعامة بصفته القاضي أن تزوره في النهار، أما الحجل فضرب له موعدا في المساء. وعندما وصلت النعامة في الموعد المحدد عندرابعة النهار، أقبل عليها الغراب يقول: إن منحتني جزءا من محصولكِ حكمت لك بالحصة الأكبر من المزرعة. وهكذا وافقت على الطلب؛ وعندما أقبل الحجل مساء قال له الغراب: إن  منحتني جزءا وافرا من محصولك؟لحكمت لك بحصةأوفر؟ فانطلت عليه الحيلة وقبل الحجل طلب الغراب، كما فعلت النعامة وقت النهار.

 حملت النعامةكمية وافرة من المحصول وقدمته للغراب وقالت: هذا ما اتفقنا عليه فلا تتأخروتصدر حكمك اليوم. قال الغراب: أحوالي مضطربة هذا النهار، فالألم يشتد على رأسي بفعل الصداع، غدا يكون موعد إعلان الحكم؛ ولو أعطيتني المزيد من المحصول لحكمت لك بجزء أكبر من حصة الأمس. قبلت النعامة وغادرته، ليزوره بعدها الحجل ويقول له ما قاله للنعامة.

 وفي اليوم التالي زارته النعامة وأعطته الرشوة وقالت له: هذا ما بقي عندي فمتى تصدر حكمك، وتخصصني من المزرعة بالحصة الأكبر؟ قال الغراب: استيقظت صباحا عازما المجئ إليك،فوجدت باب منزلي مخلوعا، والمحصول قد اختفى ولا أدري من سرق منزلي؛ فلتأتني بالبديل الضائع. قبلت النعامة وغادرته بغضب،وما فعله الغراب مع النعامة فعله أيضا مع الحجل.

 شاهد الحجل في اليوم التالي ما فعلتهشريكته، وكانت تتأهب للخروج وهي تحمل جزءا آخر منالمحصول، وتتوجه صوب بيت الغراب عندماضبطها وهي ترشوه وتقدم له مزيدا من المحصول، كماشاهد الغراب ينقل المحصول من منزله، و يخبئه في مكان بعيد من العيون.

 عاد الحجل إلى منزله وأخبر النعامة بما رأى. هكذا انكشفت حيلة الغراب للشريكين وقررا تلقينه درسا لا ينبغي أن ينساه، حينما أخذت النعامة قطعة من الذهب، وتوجهت بها إلى بيت الغراب وكان ينتظرها على الباب، متوقعا أن تحمل له المزيد من الخيرات. قالت له: عجبامما يحصل في هذه الأرض!؟ زرعت قطعة ذهب واحدة وجنيت منها قطعتين. طمع الغراب بالذهب وقال:

 هذه قطعة من الذهب الخالص، كنت أدخرها للآتي من الأيام الصعبة، وأريدك أن تستغليها لي في الزراعة مقابل الحكم لصالحك. وهكذا أعطاها الغراب القطعة الذهبية التي بحوزته.وفي اليوم التاليعادت له بقطعتين؛ فعادوأعطاها كل ما معه من الذهب طمعا بالمزيد منالأرباح؟

  لكنها في اليوم الثاني عادت إليه بحطب يابس وقدمته للغراب. قال الغراب: ما هذا!؟ قالت له: قطع الذهب التي أعطيتني لم تنتج إلاّ حطبا يابسا. غضب الغراب غضبا شديدا وقال لها: كيف خدعتِني أيتها المحتالة أنالأرض تنبت ذهبا؟فتبسمت النعامةوقالت له: ومتىكانت الأرض تنبت ذهبا لامعايعشقه الغراب!؟مواسم الأرض وغلالها؛ هي الذهب بعينه أيها العجوز الطماع.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!