يوميات مغترب

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

قصة قصيرة
بقلم عمرو أبوالعطا – مصر

ولأنني أعيش بخيالي أكثر مما أعيش في بعض الأحيان بواقع الحياة ، فان فكرة العزلة التي أنا عليها بسبب كورونا تفتح لي أبوابا ومتسعا من الخيال أكثر فأكثر ، في الحقيقة أنها تدفعني أكثر الي الواقع الملموس ممزوجا بخيال مبهم .
استيقظت اليوم قبل موعدي ، هناك طاقة غير عادية بداخلي تدفعني الي الجنون ، لم أستطع الجلوس في فراشي أو الانتظار في البيت ، لم يبق سوي ساعات قليلة علي الحظر هي فقط تسمح لي بالسير في الشوارع والنظر في وجوه السائرين ، الشوارع كانت شبه فارغه ، بالكاد الخطوات تشق السكوت ، استقبلني هواء بارد فانتعشت ، وكأن العالم ملكي ، لم أعد أكره الحياة كما كنت من قبل ، أساس الحالة التي نعيش بها كبشر ، في اننا يجب ان نعيش في سلام مطلق مع ذاتنا ، السلام النفسي ، لحظة استثنائية وصلت إليها ، أنا نفسي لا أدري كيف ومتي ؟! ، اللحظة التي استيقظت من نومي ورأيت العالم بشكل مختلف كطفل يراقب بابتسامة حالمة وبراءة مبهجة .
في وجوه السائرين اسئلة وخوف ، كل شخص منهم دفعته الحياة الي مشكلات وصراعات أصبحت تافهة في نظره هذه الأيام ، يبدوا عليهم الندم ، ولو علموا ان الحياة لا تستدعي الصراع والألم ، لخجلوا من أنفسهم ، حينها شعرت بالشفقة عليهم والحنان لأنهم لا يعلمون .
انني لا أقبل أن أبدل حياتي بحياة أخري ، قد تكون حياتنا في الغربة خشنة وقاسية ، ولكننا نشعر في وقت ما علي الأقل بالتحرر من القلق ، ولقد كان كل شئ يسير علي ما يرام ، ولكن فيروس لا تراه العين المجردة جعل الشوارع فارغة والعصافير تترك أغصان الأشجار ، جعل العالم يعيش في هدوء ، لن تذهب الي المكان الذي تحبه ، ولن يبدأ العمل في وقت مبكر ، والنهار طويل في هذه الأيام ، سأسير ثلاثة أميال أخري ثم أنحرف يمينا ، هذا المكان جميل ، وكلما أمعنت في السير تبدوا لي الشوارع أجمل .
نظرت الي الشمس قد حازت الأرض ، وأختفي جانب منها ، فأدركت حينها أنه يجب عليا العودة الي البيت ، أقترب الظلام ، وشعرت بالاضطراب ، مضطرب الي أبعد الحدود ، وساد السكوت العميق لساعات .
في ساعات الليل تهتز الروح بالذكريات ، وتميل ميلا خفيفا في حزن وأسى ، هناك أشياء نفيسة وعزيزة بداخلنا ، نؤثر أن نبقيها كامنة في زاوية من ارواحنا بعيدة عن العيون المتطفلة ، وتبدأ ساعات الوحدة والسكون ، أصبحت لونها ثابتا وكأنها ضوء من درجة خاصة ، أيام وليالي لا مثيل لها ، ولم أعرف من قبل شيئا يقاربها أبدا .
جلست متأملا تلك السنوات التي مضت من عمري ، وهي تلوح لي بعيدا ، بين عدد لا نهائي من الذكريات والمشاعر المتضاربة ، والقليل من الأمنيات المتحققة ، أجدني أتساءل بيني وبين نفسي ” هل انت سعيد في الغربة ؟ ” ، رغم كل الاخفاقات والصراعات الحياتية ، كان يجب ان اعترف لنفسي أنني سعيد وسط كل هذا العالم الصاخب الحزين ، الوحدة ، الكذب ، قسوة الغربة .
سعيد رغم هذه الأيام التي نعيش فيها ، تذكرني كل دقيقة بضعفي كإنسان ، تعيد لي حساباتي وترتيب حياتي ، تذكرني من أنا ، ومن كنت ، ومن أريد أن أكون ، فالسعادة قد تأتي في رحم المعاناة .
ان الحياة في هذه الغرفة لم تعد تطاق ، البحث عن الأمل هو الحل المنطقي للخروج من هذه الحالة ، إذا كان الأمل يبحث عن شاب مثلي ، يمد يده من تحت أنقاض الاكتئاب ، ويشنق اليأس نفسه في سقف الغرفة ، فسوف أنتظر طويلا ، طويلا جدا ، للأسف ما عدت أنتظر ومع ذلك بين حين وأخر ، تتوقف أيامي بكل لؤم وتدعوني الي بعض الأمل ، وبكل يأس أتجاهلها .
لدي خمسة أصدقاء أتواصل معهم يوميا علي برامج التواصل الاجتماعي هم ” أدم ، عمر ، علاء ، أحمد ، وائل ” نتناقش في بعض الأمور ، نتسلي ليمر الوقت بسلام ، نتبادل بعض النصائح ، نحكي ما مر معنا خلال اليوم ، لكل شخص فيهم شخصية مختلفة لكن في النهاية نحب بعضنا الأخر .
كانت أحاديثنا الأولي ، نستلذ باعترافات خطيرة ، نخشي أن يضحك أحد منا في الظلام ، وفي منتصف الحديث كنا مدهونين بالأسي والخوف ، بقي الصوت حاضرا، وفي نهايته أعرف جيدا لما افترقنا ؟ ، فينتهي بي الأمر بالصمت ، وإنصافا للواقع الذي نسعي في انكاره ، وسيكولوجية العقل التي نحاول ان نعارضها ، والحقيقة التي نزيفها من أجل ان يرتاح ضميرنا ، نحن نعاني فراق الأحبة والأهل ، نعاني من غربة مجهولة الهوية .
سأكتب بقدر انزعاجي ، بقدر الأيام التي تنقضي في هذا الحظر ، بقدر الوقت الذي يتسرب بخوفي من كورونا ، حتي الأكل والنوم والاستحمام اصبحت معوقات انجزها بصعوبة ، لن أفعل أمرا خارقا ، أردد النشيد الوطني فقط ، وأشتاق لقريتي الصغيرة، هذا ما أستطع فعله ، فماذا كانت تريد هذه الغربة السخيفة أن أفعل غير ذلك ؟! .

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!