حبيبتي / بقلم الشاعر السوري نادر محمد عروق

 راعني ما رأيت من صور الدمار في أحياء حمص الحبيبة وخاصة الحي الذي ترعرعت فيه وبيتي وبيوت جيراني حتى كأنها مدينة أشباح ورائحة الموت تملأ الأرجاء فخرجت عن المألوف في الشعر العمودي وتمردت على بحور الشعر وقوافيه ووجدتني أكتب ….

حبيبتي….
في غربتي تهزني لواعج الأشواق
ولوعة البعاد والفراق…
وتصمت الأشعار….

في غفلة من أعين الجزار
أتيت كي أزورها ..ومثلها يزار

ألامس الأسوار.
أشتاق للدروب للساحات..للأبواب
لرفقتي الصغار
أشتم ريح تربها وريحها المعطار

يروعني الدمار!!!!
أجوب في أطلالها …أبكي على
الديار…
وقفت فيها صامتا كشاعر يهيم في القفار……

فهاهنا خرابة…..كأنها دكانة العطار
ومن هنا إلى اليمين فرن الخبز
بعدها دكانة الجزار وبائع الخضار…وهاهنا زقاقها المعوجّ مثل حية
تنساب في الرمال…
وهاهنا دكانة البقال..
وهاهنا مدرستي…وملعب الأطفال

بيوتها…أبوابها مفتوحة _
كعادة الكرام _للضيوف..لاتحتاج للأقفال…
مصبطة في أيسر الزقاق
كانت مجمع السمار

حصيرة عتيقة تظل فوقها
في الليل والنهار
وجارنا الثرثار……..
يجلس دائما عليها ..يجمع الأخبار

وقهوة تدار…..
وتصمت الأشياء في ساحاتها
ويصمت السؤال..
وتنطق الأحجار!!!!
متعبة تريد أن تنقض أو تنهار
بغصة وحرقة تقول:
من ها هنا قد مر هولاكو بجيشه الجرار……وأحكم الحصار….
وهاهنا قد عسكر المجوس والمغول والرومان…وهاهنا قد خيم التتار
وهاهنا قد سكروا وعربدوا
وحطموا الجرار….
بوابة ضيقة ما زلت أذكر ان بعدها بخطوتين كان باب الدار….

أخشابه تفسخت من كثرة الطراق.
والزوار…
تهدم الجدار…..
وثَمّ باب الدار….عفوا قصدت باب الغار…
عنكبة قد نسجت خيوطها
تسد باب الغار..لتوهم الكفار
وهاهنا يمامة قد وضعت بيوضها
بركنه وعافت الديار…
ولجتُ باب الدار!!
أقلّب الحطام في أفنائها..
وأنفض الغبار…
إني هنا رتبت أشيائي بدقة
من قبل أن اغادر الديار
ملابسي أشيائيَ الصغار
مكتبتي دفاتري …قصائدي
وذكرياتي كلها .. الآلام والآهات والمرار……..أحلاميَ القصار…

قصيدة يتيمة وجدتها
نازفة حروفها..محفورة بحرقة الأظفار …في صفحة الجدار..

كتبتها في ميعة الصبا
بريئة أردت أن أرسلها في غفلة من اهلها….لجارة نقية الشعور كالأزهار
خبأتها عن أعين الرفاق
كانت هنا نافذة ..في آخر الرواق
تطل من زجاجها البراق

صبية جميلة مكحولة الأحداق
تراقب الزقاق….وتتقي بشالها الشفاف من حيائها من أعين الطراق

تقرأ في كتابها الوردي قصة
تحكي عن العشاق
ووردة جورية في كفها
حمراء مثل ثغرهافردية الأوراق …..
تسألها برقة….يحبني؟؟؟
أم لا يحبني؟؟؟وتنثر الأوراق
وتختفي وتسدل الأستار..
ويخفت المصباح في مخدعها
وتسهر الأسرار..

وهاهنا كانت تقوم شرفة عالية
تأوي لتستريح فوقها الأقمار

وتهبط النجوم من عليائها براقة
نشوانة
كالياسمين الغض إذ تهز غصنه الأطيار

وأسطح القرميد في وقارها
كحمرة الأصيل في بهائه يشوبها اصفرار

قد عشش اليمام في شقوقها…وأبدع الأوكار

وتهجر الأطيار …وينعق الغراب
في أجوائها…والبوم والأوهام… فيهجر الحمام…

وهاهنا مئذنة..قد أتعبتها وقفة العصور…والسنين والأيام
فأسندت قامتها واضطجعت تغط في المنام..لتستريح مدة …. كأنها العذراء في حيائها…صامت عن الكلام…..ويبطئ الإمام!!!!

فالكل هاهنا من جهدهم نيام
شيوخها شبابها صغارها نساؤها

كذلك الرهبان والأحبار….
كنيسة منهكة …قد سميت كنيسة الزنار…..
أجراسها صادئة يلفها السواد
ما هاهنا جلجلة أصداؤها ترددت
في ليلة الميلاد…أو شمعة تقاد
وما هنا تكبيرة تضج في أجوائها
لتشرق الأعياد ..ويفرح الأولاد…
ويختفي الإمام والرهبان والنساك والعبّاد…..
أسير في دروبها بلوعة تفتت الأكباد….وهمسة تقول في حشرجة…….لا توقظ الأولاد
وهوّن الخطا…..إياك أن تدوس هذه الأجساد!!!!!
فوارس ترجلوا _ليستريحوا برهة_
عن صهوة الجياد
مشرعة أجسادهم …كأنها السيوف في مضائها…..منزوعة الأغماد

لاتوقظ الأولاد….
مرهقة أجسادهم من كثرة الصياح توسدوا ملابس الأعياد من فرحتهم
… وأزمعوا الرقاد
ناموا لكي يستيقظوا في أول النهار
ويركبوا أرجوحة الخيول في أحلامهم…
ويشتروا الألعاب من عيدية الآباء
والأعمام والزوار…. وينشدوا الأشعار….

لاتوقظ الصغار…….
وتعصف الرياح …وتقفز الأشباح
في ظلمة حالكة …
تداخلت في مسمعي الأصوات…
هل ذاك عصف الريح؟؟؟ أم عزيف الجن؟؟؟ أم تضارب الأشياء….؟؟

أشتمّ ريح الموت في ارجائها
يضيع في الفضاء
أراه من بعيد …يسير فيهاخائرا محدودبا يلتف في عباءة جرداء
بخطوة منهكة أصداء وقع نعله تنداح في الفناء
عيناه تلمعان مثل جمرة حمراء
زفيره يبدد الصقيع من سحابة بيضاء
أنفاسه كمرجل يغلي وينفث البخار
ولحية تلوح في الهواء بارتجافة
كشعلة مقلوبة من نار…..
في يده منسأة هزيلة تقلب الأحجار
وينبش الأشلاء والحطام والرماد ويسبر الأغوار….
يريد أن يقتات……
يريد أن يفوز لو بكسرة ينبض
في عروقها شيء من الحياة
ماهاهنا حياة…..أسمعه متمتما بصوته الأجش غاضبا يقول :الويل للأشرار…الويل للأشرار…..
لم يتركوا لي هاهنا شيئا به حياة!!!!
ويختفي ويهدأ الإعصار

وأحبس الدموع في العيون

وأحبس الأنفاس ….
تنتابني في حلقيَ المجروح غصة كشوكة الصبار…..
أقول في مرارة حبيبتي……..
ما آن أن…. وتنهمي الدموع…. حبيبتي…..
ما آن أن تبدلي ملابس الحداد؟؟؟؟
فتنطق الأحجار…تقول لي واثقة:
سيطلع النهار وتشرق الشموس في سمائها وتسطع الأنوار……
سيرجع الربيع في ربوعها ويزهر النوار
ستقرع الأجراس في فضائها
لتوقظ الإمام…
وتمسح السواد عن أجراسها
تكبيرة الإحرام …
وتصدح الأطيار في افنانها ويرجع السلام
سيرجع الحمام……اسرابه تسد عين الشمس…كي تبل ريشها في بركة الغمام
ويهطل الغمام….ليغسل الدماءعن جدرانها وينبت الشقائق الحمراء
في سفوحها والوهد والآكام
ويرحل اللئام…
سيرجع الغياب بعد فرقة طويلة
وتعمر الديار…..
ويرحل الأشرار…..ويرحل الأشرار

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!