الحجّه فاطمه / بقلم : أحمد أبو حليوة

هي جدته وجدة أبيه وجدة جده… (جدتي) هكذا وعى على الدنيا يناديها، وهكذا وجد أباه وجده يفعلان، بل هذا ما كان أفراد عائلته الحنطية البشرة يرددونه عندما يرون (الحجه فاطمه) السمراء اللون. تقول الحكاية إن جد العائلة الأكبر اشتراها من سوق للرقيق أيام البلاد لزوجته التي أحبّها وتعسر إنجابها، وقيل إنّها الطفلة الباقية من عائلة منكوبة قدمت من أفريقيا، وقيل وقيل… ولكنّ المهم في الموضوع أنّه أهداها لزوجته التي كان يحبّها حبّاً جمّاً بعد حولين من الزواج، فسُرت بها وربتها كأنّها ابنتها، وببركة تربيتها على حدّ تعبير شيخ القرية الحافظ للقرآن آنذاك، رزقت بأبناء وبنات بعد ذلك بسنين، وقد اعتبروها جميعاً أختهم الكبرى، وبعد النكبة تساوى الجميع في ظل برد الخيام، وأمام طابور وكالة الغوث لاستلام المؤن، بل وكانت الغلبة للأعلى صوتاً وأشد (ردحاً)، وقد امتلكت (الحجّه فاطمه) ومنذ صغرها تلك المقومات بجدارة، بالإضافة إلى بنيتها الجسدية الضخمة والقوية. يقال إنّها كانت فتاة وطنية شجاعة وجريئة ولطالما عرّضت نفسها للخطر جراء تخبئتها لفدائيين وأسلحة في مخيمين سكنتهما واحد غرب النهر وآخر شرقه، وساعدت هؤلاء على القيام بعمليات عسكرية ناجحة ضد ذاك الكيان الغاصب، والأجمل من ذلك كلّه أنّها كانت تساعد الجميع من شيوعيين وقوميين ووطنيين ويمينيين ويساريين من المنتمين الصادقين لقضيتهم والساعين للتضحية بأرواحهم من أجل حرية بلادهم، ورغم أنّها لم تكن تفهم تركيبة هذه التنظيمات وماذا تعني، إلا أنّ الجميع يذكر عبارتها الشهيرة التي كانت توجز فيها الحالة والغاية برمتها بقولها: “المهم إنّهم فدائية… المهم إنّهم فدائية وبقاتلوا اليهود… إللي سرقوا أرضنا”. كانت ذات شخصية واثقة، ونظرات ثاقبة بعد أن تطلّعت إلى اختلافها على أنّه عنصر قوة لا ضعف، وإلى تاريخها على أنه نقطة تميّز لا ذل، لم تتزوج، وباتت بعد العقد الثامن من عمرها هي كبيرة العائلة، التي يلجأ إليها الرجال قبل النساء في حلّ معضلاتهم، وأخذ رأيها السديد الذي غالباً ما كان رأياً قاطعاً آمراً لهم، وغالباً ما يصحبه كثير توبيخ بالنسبة للنساء اللاتي كنّ يهبنها، بل ويخفن من تزويجها لأزواجهن، وقد نجحت في فعل ذلك أكثر من مرة، وجلب لهذه أو تلك (ضرّه). إنهاء الانتفاضة من خلال حل الدولتين ومؤتمر للسلام بين طرفي الصراع، هذا ما تناقلته وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية، و(الحجّه فاطمه) تردد بحزن: “الحكي الفاظي فاظي، العدو عدو، والحق حق”، وبعد ذلك هالها ما رأت من وقائع حفل الاتفاقية بين الخصمين اللدودين.. بين الحق والباطل، فدخلت في نكسة نفسية عميقة، وتدهورت حالتها الصحية بشكل ملحوظ. اليوم تجمّعت العائلة كلّها لتشييع جثمانها، وكذلك فعل وجهاء العشيرة وأفراد الحي في مقبرة المخيم، حيث كانت من أوائل من سكنه بُعيد النكسة، والتي عرفت بشعبيتها داخله وبقدرتها على تقديم الطب العربي والعلاج بالأعشاب وفكّ السحر، إلّا أنّها لم تقدر على تخطي طلاسم العودة، ومعرفة شيفرة القضاء على الحنين لتلك الأرض ومن وما عليها أيضاً. انتهت طقوس الجنازة الحزينة بعد صلاة الجمعة، وعاد عدد كبير من الجمع الغفير إلى بيت الأجر، غير أنّ الجميع فوجؤوا بوجود (الحجّه فاطمه) على رأس المستقبلين، تقدّم واجب العزاء لمن بقوا على قيد الحياة واللجوء.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!