لم يعد يُشاهَد خلف السمكي ذاك الفتى الذي كان يزاول عمله كمُنظف للسمك . يقص زعانفها ، يقشط قشرتها ، ويفرغها من أحشائها و خياشيمها . هذا مقابل بعض الدريهمات ، أما إذا كان الزبون بخيلا ، فيعتبر تنقية السمك من سعره . في آخر النهار ، تتجمد يداه من كثرة نقعها في الماء ، تلين بشرته و تترهل أظافره ، وينكمش جلده و يذبل كالخضر المتقادمة . تكاد تفقد حاسة لمسها .
كان مُنَقٌي السمك لا يزال مراهقا ، غادر المدرسة منذ مدة . لم يكن كسولا ولا مشاغبا . وكلما سأله أحد عن سبب تخليه عن الدراسة ، يحمر وجهه و يجيبه بابتسامة تحسر ، و ينحني بعينيه ثم يطفق في قشط قشور السمك .
أينعت فكرة الرحيل في ذهنه منذ أمد طويل ، والمغامرة هي أمله الوحيد لتحسين وضعيته وضمان مستقبله . الهجرة التي يفكر فيها هي الهروب الى الضفة الاخرى عبر البحر على متن قارب مطاطي مهترئ بدون بوصلة ولا ملاح متمرن . لم تؤثر في القرار الذي اتخذه ، لا الجثث التي يتقيؤها البحر على الشطآن ولا أسرته التي ستقاسي بعد اختفائها .
في ليلة قمرية ، البحر كان هادئا ، امتطى هو وأنداده صدفتهم المطاطية المجهزة بمحرك ، و انطلقوا نحو عرض البحر الحالك . يبحرون بدون بوصلة ، وانعكاس ضوء القمر الفضي على الماء هو دليلهم ، يتربصون انوار الأمل أو شبح شواطئ الضفة الاخرى . يبحرون هادؤون ولا يسمع حتى تنفسهم مخافة من أن يوقظوا البحر النائم أو الحيتان و تثقب قاربهم المطاطي و يصبحون وليمة للأسماك . و بعد أيام ستطفو على شواطئنا أشلاء من أعضائهم ، أو جثث مشوهة و متورمة كحطام سفينة حطمتها صخرة يوم العاصفة .