المغادرة المرغمة / بقلم : محمد بنعمر

لم يعد يُشاهَد خلف السمكي ذاك الفتى الذي كان يزاول عمله كمُنظف  للسمك . يقص زعانفها  ، يقشط  قشرتها ، ويفرغها من أحشائها  و خياشيمها  . هذا مقابل بعض الدريهمات ، أما إذا كان الزبون بخيلا ، فيعتبر  تنقية السمك  من سعره .  في آخر النهار ، تتجمد يداه  من كثرة نقعها في الماء ، تلين بشرته و تترهل  أظافره ، وينكمش جلده و  يذبل كالخضر  المتقادمة . تكاد تفقد حاسة  لمسها .
كان مُنَقٌي   السمك لا يزال مراهقا ، غادر المدرسة  منذ مدة . لم يكن كسولا ولا مشاغبا . وكلما سأله أحد عن سبب تخليه عن الدراسة ، يحمر  وجهه  و يجيبه بابتسامة تحسر ، و ينحني  بعينيه ثم يطفق في قشط قشور السمك .
أينعت فكرة الرحيل  في ذهنه منذ أمد طويل  ، والمغامرة هي  أمله الوحيد  لتحسين وضعيته  وضمان  مستقبله . الهجرة  التي يفكر فيها هي الهروب الى الضفة الاخرى عبر البحر على متن قارب مطاطي مهترئ بدون بوصلة ولا ملاح متمرن . لم  تؤثر في القرار الذي اتخذه ، لا الجثث التي يتقيؤها البحر  على الشطآن  ولا أسرته التي ستقاسي بعد اختفائها  .
في ليلة قمرية ،  البحر كان هادئا ، امتطى هو وأنداده صدفتهم المطاطية المجهزة بمحرك ، و انطلقوا نحو  عرض البحر  الحالك . يبحرون بدون بوصلة ، وانعكاس ضوء القمر الفضي على الماء هو دليلهم  ، يتربصون  انوار  الأمل  أو  شبح  شواطئ الضفة الاخرى . يبحرون هادؤون ولا يسمع حتى تنفسهم مخافة من أن يوقظوا البحر النائم  أو الحيتان و تثقب قاربهم المطاطي و يصبحون وليمة للأسماك . و بعد أيام ستطفو  على شواطئنا أشلاء من أعضائهم ، أو جثث مشوهة و متورمة  كحطام سفينة حطمتها صخرة يوم العاصفة .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!