النَّفَس الأخير/ بقلم : الدكتورة بلقبس بابو ( المغرب

هداء الى روح كل الزملاء  الذين غادرونا بسبب وباء كورونا ، لترقد أرواحهم  بسلام …

 

‎استدعت زوجتي سيارة الإسعاف و أخذتني على وجه السرعة..

‎لا أقوى على الوقوف  قدماي لا تحملاني ..أنفاسي تتسارع ، بالكاد ألاحق النفس تلو الآخر …

‎هرعت الممرضة لاستقبالي…. ما بك أستاذ؟  عرفتها رغم أنه لا يبدو منها الا عينان مختبأتان  وراء كمامة واقية وحاجز بلاستيكي شفاف و كمٍّ من الوِزْرات.  ..أشفقتُ لحالها…

‎دون ان تنتظر مني جوابا ، هرولت لمناداه طبيب الحراسة..عادت مسرعة لربطي بجهار لمراقبة الضغط و النبضات…يبدو أن تنفسي ضعيف، بدا ذلك جليا عليها حين وضعت ذاك الجهاز الصغير على أصبعي… وصل الطبيب و في لحظات أخذوا  يحاولون اختراق أوردتي الصغيرة.. ويضعون انبوب الاوكسجين على فتحة أنفي..أعرف كل تلك الحركات جيدا..لكني اليوم في الموقع الآخر…

‎نطق الطبيب مستعجلا الكل: هيَّا هيَّا، نأخذه للمسح الطبي للصدر ؛ السكانير…

‎أسمع بعض الأصوات في الخارج…منها صوت زوجتي..أريد أن أراه.. دعوني أراه..ليثهم لا يسمحون لها بذلك..

‎لا أقوى على الحديث ، أصارع فقط لأتنفس… تبدو الدقائق كالساعات…

‎جاءوا بنتيجة الفحص…. كما كنت أظن، كما كان الكل يتوقع، إنه الوباء … لابد إنه دمر مساحة غير هينة من رئتيَّ.. بالكاد أحرك جفني في إشارة مني أني سمعت.. و فهمت..إنه الوباء الجديد…لكن هل أنجو؟؟؟

‎حملوني على عجل إلى قسم الإنعاش ، عرفت هذا من أصوات الآلات، أصوات ألفتها لكنها لم تكن   يوما أبشع مما هي عليه الان… التفوا حول سريري كخلية نحل..

‎لا أقوى على النظر الى أحدهم، أناضل فقط لالتقاط حبات الاوكسجين القادم عبر الأنبوب البلاستيكي..أقاوم آلاما تقطع في هذا الجسد الذي لم آبه له يوما..أمضى  ليال طويلة  بلا طعام ولا نوم..منشغلًا بانقاذ  حياة الكثيرين…

‎أجاهد الآن فقط لتحمل تلك الرعشة التي تهّزُ أوصالي كطائر مذبوح بتخبط بجراحه.. فجأة.. تغير كل شيء من حولي .. ضجيج و صياح..جريٌ في كل الاتجاهات..

‎أسمع أحد الممرضات تخبر طبيب الانعاش بأن نسبة الاوكسجين تنخفض بشدة، النبض ضعيف جدا..

‎”لنهيِّأ التنفس الاختراقي” يجيب الطبيب بلهجة صارمة يبدو أن الأمور تسوء”.. أحِس ببرودة معدنية في حلقي..يحاولون ربطي بجهاز التنفس الاصطناعي..

‎هل مازال هناك أمل؟؟!..

‎أشعر الآن أني أفضل حالا..خف العبء على صدري..أراني أحلق في زوايا الغرفة..

‎أرى طبيب الانعاش وهو يتصبب عرقا داخل بذلته ككائن فضائي..يحاول بكل ما أوتي من قوة إعادة الأنفاس لرئتي.. إني أعرفه جيدا ..صديق وزميل لطالما عملنا معا جنبا الى جنب لاعادة الامل … و ناضلنا من أجل الحياة.. أعرف مهارته وتفانيه… أراهم ينظرون الى جهاز المراقبة… لقد توقف النبض..تقفز طبيبة أخرى من مكانها لتضغط بقوة على صدري..صارخة: مرة أخرى ..لنحاول مرة اخرى…أريد جاهدا أن أخبرها ألا جدوى…

‎إنها لا تسمعني…لا أحد يسمعني …

‎أنهض لأتبع ذاك النور المتسلل من شق النافذة..أحلق في فضاء الغرفة.. مازلوا يحاولون إعادة بعض من الحياة لذاك الجسد البارد…

‎لا أوَّد الرحيل..

‎لا أريد أن أرى عيونهم المبتلة..

‎لكن النداء ملِّح…

‎والتلبية لا تُقدَّم ولا تُؤَخَر…

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!