مجرد كابوس /جوتيار تمر / كوردستان – العراق

طريق طويل ..محاط بالأشواك..يمر عبر مقبرة قديمة مرعبة..يجاور نهرا هائجا..مياهه سوداء وضفافه مكتظة بالذئاب..أصوات تتقاذف من كل صوب..بكاء طفولة موءودة..صيحات أمومة مفجوعة..أنين أموات..دفنوا قبل أوانهم..وهناك وسط الطريق الطويل طفلة مفزوعة..يلفها ثوب أبيض،وجهها ناصع كبياض ثوبها..عيناها تحمل من الصفاء ما لا نراه في سماء تموز..قد أنهكها التعب جراء ركض طويل..براءتها قد أسالت من حولها لعاب الذئاب التي تترقب بشغف تعثرها..سقوطها..لتنقض عليها..وتنهش بلحمها الطري..وهي تقاوم التعب..وتظل تركض..الخوف من المجهول الذي ينتظرها يحفزها على الاستمرارية..ولعاب الذئاب تمنعها من التفكير بالراحة..تركض..تلتفت..تتعثر..تقع..تشخص أبصار الذئاب نحوها.. تعاند..تقف..تستمر..تدخل المقبرة..يفزعها أنين الأموات..تخور قواها..تتعثر بذيل ثوبها الأبيض..تحاول أن تستعيد قواها..تقف..قدماها لا تحملانها..تقع أرضا..تعاند..تحاول..تبحث عن غصن..عن قبر..عن إله..دون جدوى..تنقض عليها الذئاب..ثوبها الأبيض..يغير بياضه..وجهها يفقد بريقه..الأحمر يغطي حتى سماءها..وعلى أنغام أنينها..يخرج الأموات من القبور بوجوه سوداء مفجوعة..ولبشاعتها تفزع الذئاب..فتفر..تاركة وراءها ثوبا ممزقا احمرا..وعظام وجه كان ناصعا..وآثار براءة كانت حية..يصيح الأموات..وعلى صياحها تستيقظ..! يا للسماء أي حلم كان هذا ..بل أي كابوس هذا الذي أفزعني إلى هذا الحد..؟ تتنهد..تتمتم كم أحب الأشياء المنتهية..وكم اكره التي لا تنتهي..وكأني به كابوس وانتهى.. وجهها كان مصفرا..والعرق كان ينصب من جبينها..رفعت يدها لتمسح العرق المنصب من جبينها..تنهدت مرة أخرى..أخذت قدح ماء فأفرغته في جوفها..رفعت ببصرها..نظرت حولها..الظلام كان لم يزل يخيم على غرفتها..خرجت من فراشها..توجهت نحو الباب بخطى حذرة ؟
دخلت الصالون..تفرست صورة طفلتها التي فقدتها..دمعت عيناها وبكت..ارتمت على أريكة قديمة ..ثم ما لبثت أن قطعت بكاءها ووقفت تنظر إلى الصورة..لماذا أبكي عليها..؟ ألم أقل إني لن أبكيها..؟ ألم اقل إني لن اسمح لنفسي بأن تتذكرها..؟ ألم تتركني هي..؟ أنا لم أشأ يوما تركها ..لكنها تركتني دون أن تقول لي حتى السبب..! لن أبكيها..لن أشتاق إليها..لن..لن..لكن لماذا أذكر الشوق.. وما دخله فيما أنا فيه..؟ أ أكون قد اشتقت إليها..؟ ما الذي أخرجني من فراشي..؟ آه انه الحلم..الكابوس.. الطفلة..الذئاب..بل شوقي..لا..إنما أردت أن..! لاشيء ..لم أكن أريد شيئا..لم أكن أعلم شيئا..لم أكن أعلم ماذا أريد يوما..لا اعلم ماذا أريد الآن.. ما الذي أريده..؟ هل يمكن أن أكون قد أردت شيئا..لذلك خرجت من فراشي..؟ لكن ماذا عساني أكون..؟ وماذا عساني أصير..؟ أية أسئلة لا مجدية هذه..؟ وما شأنها بما أنا فيه..؟ دعني منها..لكن لماذا خرجت من فراشي.. ؟ هل أريد شيئا..؟ لست أريد..بلا.. أريد أن أعود إلى فراشي..تعود أدراجها..تدخل فراشها..تتأمل من حولها..تحاول أن تعود بذاكرتها..إلى الوراء القريب..تتجمع في ذهنها صور..الطفلة التي افترستها الذئاب..المقبرة..الأموات..النهر..تتساءل يا ترى لماذا كان النهر أسود..؟ ومن ماذا كانت الطفلة تركض..؟
يقطع تساؤلاتها صوت الرياح التي تهز أغصان الأشجار بجوار نافذتها..تهمس لعلي ارتاح الآن قليلا فغدا أمامي عمل طويل..وتتردد في لا وعيها هذه الكلمة الأخيرة أكثر من مرة..طويل..طويل..طويل..فتسأل ما الذي يجعل كل شيء طويلا هكذا..؟ أتراها الحياة تزين لنا الأشياء فتجعلنا نتشبث بها ولا نريد تركها حتى يطول علينا كل شيء..؟ أم هي رغباتنا اللامنتهية تلاحقنا كلعنة فرعونية معبودة..؟ أم تراه الفراغ المغروس في أعماقنا قبل أن نعي وجودنا..يجعل كل ما حولنا طويلا.. حتى ننساه ردحا..ثم ما نلبث أن نعود ونملأ أعماقنا بأمانيه ثانية.. ..؟أم هو الشوق ..أم التوق إلى النهاية..؟ ثم ما تلبث أن تقول دعني من كل هذا..احتاج أن أرتاح قليلا فأمامي غدا عمل طويل..طويل..طويل..!آه…عدت إليها من كلمة قاسية..وكأني لا أستطيع أن أقاومها.. وكأنها ستظل ترافق أيامي..؟ وكأني أعلم سبب مرافقتها لي ولكني أتجاهل أمرها..؟ بل أخاف من ذكرها.. لكن إلى متى سأظل أتهرب منها..؟ ألم يأت الوقت لأواجهها ..لأنزع جذورها من أعماقي..؟
ويقطع حوارها هذا..صورة الطفلة التي تظل بين فترة وأخرى تنقض على لا وعيها..فتقف أمامها حية بثوبها الأبيض وعينيها الصافيتين كصفاء سماء تموز..تحاول أن تمد يدها إليها.. تبتسم لها.. تفزع هي..وكأنها شعرت بأنها تريدها أن تلحق بها..أو أن ما يفسر وقوفها أمامها بهذه الصورة هذه المرة هو أن رحلتها أوشكت على النهاية..!
تفزع..تبكي..تحاول كبت بكائها..لكنها لا تستطيع..يتعالى شيئا فشيئا صوت بكائها..تقترب الطفلة منها..تمد يدها لتمسح دموعها..تلامس وجهها..تشعر بأن الدم قد غطى ثوبها..وفراشها..تحاول أن تبعدها..تهرب منها..تلتفت من حولها..ترى أشياء تتحرك على جدران غرفتها ..يزداد فزعها..تصرخ في أعماقها..يخرج صراخها من أعماقها..يزداد صراخها…تسمع طفلتها..تهرع إليها طفلتها..تناديها..تحاول إيقاظها.. تفتح عينيها..يقع بصرها على طفلتها أمامها بثوبها الأبيض..تحضنها..تقبلها..تبتسم لها..وفي ذاتها تهمس مجرد كابوس ..في حلم.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!