ولو بالحلم/ بقلم : الكاتبة السورية: فاتن بركات

 

سماء زرقاء, أسراب من الحمام, تمشطها بحركات لولبية, وأحيانا تصطف مشكلة قوس نشّاب, والى الأعلى منها طائرات, تعبر الأجواء, ترحل بمن فيها باتجاه بلاد الآمان , من نوافذها المصطفة خلف بعضها البعض, تُطل وجوه انتفخت أجفانها, فالأرق الخوف الموت جاثم بها, صوت هدير الطائرة يختفي رويدا رويدا ليظهر بعدها, همهمات لتتحول بعد حين لمشادة كلامية بين سيدة محجبة وسيدة سَفور , ليسكتهما أمن الطائرة. 

يعود الهدوء من جديد, وتبدأ الوشوشات بالتسلل على المشهد العام, في المقعد الثالث رقم 5 و6 جلس طفلان جورج وسعد ألصقا وجهيهما على زجاج النافذة , يحاولان رؤية تضاريس الوطن ولآخر مرة. 

المطار لوحات رقمية وأصوات معلنة  حركة الهبوط و تارة الإقلاع  , حقائب مترامية ومنتظرون أثقل الوقت كاهلهم , من بين المنتظرين, كان هناك بوجهه الذي دب البياض في شعيرات ذقنه ورأسه, وراحت خطوط الغربة ترسم شيخوخة مبكرة على محياه, ابتسم لكنّه غالب دمعَه, قال لنفسه: ابتسم يا جدعان ولو دقيقة دقيقتان هاهم أحبتك يقتربون, أطلق  آهً طويلة, شعر معها بقلبه يقف على كتفه يطلق النبض عشوائيا في صدره. أرجوك حاول يا جدعان لا للبكاء.. لكن ولأول مرة بعد سنوات يلقي برأسه المتعب في أحضانهم , الآن لا مانع من البكاء ولأخر مرة يا جدعان ,هكذا همس لنفسه مواسياً.

المنزل كان ضمن عدة منازل, منتظمة مصممة بطراز بارد, ليس كحارته المتراكمة منازلها في الأحياء العشوائية, حي وربما كتلة سكنية خصصت له ولمن هم مثله (لاجئ إنساني).

في المدرسة كان أولاده محط استفزاز الأطفال الآخرين , وكان أن هُدد أولاده, بالفصل أكثر من مرة ,جلس مع بكره: بُني هنا نخضع لقوانينهم لعاداتهم ولحمايتهم.

-لكنهم يا أبي يشتمونني ببلدي ,يقولون عنا بربر/همجيون /إرهابيون, فأوسعتهم لكما ضربا.

وبأعجوبة حُلّ الموضوع, لكن بعد إحالةِ الولد إلى الأخصائية الاجتماعية! في بلده كانت المرشدة الاجتماعية على الهامش أو كما أسموها(إدارية), أما هنا فهي تضاهي منصب حكومي رفيع المستوى, بإمكانه تحديد وإنهاء مستقبل احدهم, صمت وهو يستمع لرأي الأخصائية: ولدك يعاني من رهاب الحرب, لديه شعور بان الكل ضده وهو عنيف , وعليه الخضوع لجلسات العلاج منذ الغد, حاول أن يفهمها , أن السبب هو احتقار الآخرين لهُوية ابنه وبلده, لكنها أسكتته: هنا نتقبل رأي الكل ويخضع الكل لنظامنا, ويبدو أنك أنت أيضا بحاجة لجلسات إعادة تهيئة ودمج, لم تكن هذه الأمور في الحسبان..

 في الحي الذي يقطنوه, كان الجميع يخضعون لدورات اللغة والتعايش المشترك, وفي هذا الحي خليط عربي –أسيوي إفريقي, الكل هارب من الحرب/ الفقر/ المرض /القتل, ومن عصابات  محلية, نبتت في ظل غياب الآمان, تبتز المحتاجين / المشردين بجوازات سفر مزورة أو كفلاء يوصلون ضحاياهم لتجار الرقيق والمخدرات والأعضاء البشرية

 باتت هذه التجمعات تقلق جدعان المهندس الزراعي ,الذي زرع حديقة المنزل الخلفي, بالنعناع والبصل والثوم والياسمين الشامي, جارته الفلسطينية قالت له: هييه جدعان كيف استقام الأمر معك ؟بصل وثوم وياسمين انتم السوريين (شغلة).. حملته الذاكرة إلى بلده حيث كان للياسمين في حارات الشام القديمة ولصخب المطاعم نكهة الشرق الساحر هناك في الشام لا فضل لفلسطيني أو أجنبي على سوري إلا بطيب المعشر .. صه ماذا أتبكي يا جدعان؟ هذه المرة بكى بحرقة وهو يستمع لابنته مخبرة أمها بأنها بلغت18  وتريد الاستقلال عنهم…نعم هي استقلت وسيلحق بها سعد .. زوجته طفح الكيل بها, فاللغة صعبة جدا, ها قد مضى سنوات ولم تتقنها, وعليه لا عمل لها بدون لغة , حاول تهدئتها : ولهذا هم متفوقون علينا, أعرفت الآن لما هم بلد الكفار لأنهم يؤمنون بالإنسان الواعي المتحمل لمسؤوليته.. نجتهد يا حبيبة ونتعلم اللغة.. 

وعلى غير العادة مشى الزوجان باتجاه الغابة القريبة, استلقيا على العشب الندي الأخضر, حنا عليها عانقها, وبلحظة أفلتت منهما ضوابط العقل, فتحا للقلب باب الحنين والدمع السخي, رفعا نظرهما إلى السماء بحالة ابتهال رهيبة.. كانت تغص بأسراب حمام كمثل التي في سماء بلدهم لكن ما من طائرات تعود بهم ولو بالحلم.. 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!