استجلاء المعاني المبطنة في قصيدة عربية أنا ” للشاعرة سندس رقيق “

 هاشم خليل عبدالغني – الأردن

 

       يتـدفـق الـرفـض والـغـضـب مـن بيـن مسامـات خـلايا قـصيدة  ” عربية أنا ” للشاعرة التونسية سندس الرقيق ، فالشاعرة تصف حـال الإنسان العـربي، فـالإنسان العـربي كما ترى الـشاعرة ( مكبل بإعاقات نفسية ومجتمعيه تتفاعل فيما بينها لتصنع حـالة “الإنسان المقهور” الذي يعيش في حالة مزمنة من الإحباط الاعتباطي، ومن الإهمـال ) ألا يُشَكّـل العـالـم العـربي أهـم وأشـهر فضاءات التخـلـف والعنف على مستوى العالم ؟!.

وتجدر الإشارة إلى أن قصائد ” سندس رقيق ” الوطنية والقومـية  تكتسي بطـابع وجـداني خاص ، فالـوطن يمـتد في وجـدان الشاعرة ( فالوجدان هو الوطن والوطن هو وجدانها ) ، فالارتباط الـحي بين الشاعرة والوطن ملموس في جل قصائدها .

    نجحت ” سندس رقيق “ في فرض نفسها عـلى المشهد الثقافي التونسي والعربي بفاعلية بسبب نشاطها الملحـوظ داخلياً وخـارجياً فـالشاعرة عضو فـي عـدد مـن الجمعيات الأدبية ، كرابطة الكاتبات التونسيات بصفـاقس، عـضو فـي هيئة اتحــاد الأدبـاء الدولي فـرع تـونس ، وخـارجياً: شـاركت فـي مهـرجـانات عـدة منهـا في مـصر مهرجان الإسكندرية الدولي الرابع ، وملتقى رابطة مصطفى جمال الـدين و مـهرجان هـمسة فـي دورتـه السابعـة ) ،وفـي اسـطنبـول شـاركت فـي مـهرجان الجمـعية الدولية للشعر العربي، كما ترأست لجنة تحكيم مسابقة اختيار ملكة جمال المـغرب الكبير . .للشـاعرة ديوان شعري بعنوان (  سأظل امشي ) ولها اصدارن آخران تحت الطبع .

قصيدة سندس رقيق ” عربية أنا ” تحمـل بين طيـاتها صـورة حية  عـن واقـع الأمـة ( أمجـاد الماضي ومآسي الحـاضر ) فالشاعرة بكل جـرأة  تـرفـع صـوتهـا عـاليـاً بمـا تؤمـن به ..فـتتساءل فـي عنـوان قـصيدتهـا عـربيـة أنـا ..( بـدهشـة واستغـراب )، هــل نحــن العرب الموحدون بلغة مشتركة وهي اللغة العربية ، وثقافة إسلامية تتخلل كل مظاهر حياتنا اليومية ؟! أمة حية ، تستحق الحياة !!.

     لا بد من تأكيد ضرورة التمييز بين ما هو طارئ، وبين ما هو ثـابت وقـائم ودائـم . فـالشاعـرة تـظهر فـي النـص بمظهر مزدوج  تتصارع فيــه فـكرتان مـاضٍ مــشرف وحـاضر بـائس، فـي مـطلع القصيدة تتحدث الشاعرة عن مأزق الواقع العربي الراهن ،كاشفة عن صورة قاتمة للواقع،وتنذر بمستقبل غير مطمئن على الإطلاق تقـول الشاعـرة أنـا العـربية جـزء مني مـزروع فـي دروب الـوطن ومتـاهاته بـلا هـويـة بـلا عنـوان ، وغـارق فــي الجـهل والتخـلف  حريتي مسلوبة وإرادتي مصادرة ، بلا هوية وطنية أو قومية ، بلا شخصـية ممـيزة بـلا قـدرات، أحـس أن هـويتي فـي أزمة وأنني بلا مـلامـح بـلا قيمـة ،إلا مـن الـهم والـبؤس والأسى النـاتج عـن الظلم السياسي والاجتماعي  والفكري .

عربية ٌأنا
” ذا…..
نصفي المغروس ُ
في دربي وفي
وحل الزمن ْ

وهويتي
مجهولة ُ العنوان ِ والتاريخ
إلا من حسابات ِ
الحَزَن ْ”

    وتبحث الشاعرة في تلافيف خلايا ذاكرتها (النصف الثاني) الذي يحتـل مـكانة خـاصة مــن اهتمـاماتها ، ويشـغل مساحة واسعة من تفـكـيرها ، تبحـث عمـا يتحـدث عـنه النـاس كثـيراً بـضعـف وذبـول الحيويـة ، مـن أحـاديث مـكذوبة ينكرهـا العقـل ، تـشير عـلى فـساد بالتفكير وانقطاع الصلة بالواقع .

” وبحثت ُ
في ألواح ِ ذاكرتي القديمة ِ
نصفي الثاني هناك َ
تلوكُه بعض ُ الخرافات ِ العتيقة
بين أضراس ِ
الوهنْ “

    تقول الشاعرة إن الأفكار القائمة على  مجرد تخيلات وخرافات دينية وثقافية واجتماعية ، دون وجود سبب عـقلي أو منطقي مبني عـلى العـلم والمعـرفة ، هــذه الحكايا الخـرافية مـن نسج الخيال مزروعة في وجدان العامة مـن الناس، هــذه القيود الاجتماعيـة سلطـة قـوية صلـبة محكـمة، تصادر حـريتي وتسجنني في حظيرة التخــلف والتردي ، وتحـبس أنفاسي مـن شـدة الذهول والتعجب

من عقول جامدة .

 ” يا أيُّها المغروس
في طين ِ الحكايا
قبضة ُ الأغلال تأسرني

وتكبت ُ ما تبقى
من شهيقي “

         إن المجتمعات العربية ترزح تحت كم من الأمراض السياسية الاجتماعية التي كـانت المسبب الأكبر فـي تدني أوضاعها وتراجـعها  ولأن هذه الأمراض  أشدُّ خطورة ، على بنية المجتمع مـن أي مرض آخر ، تبحث الشاعرة عـن ملاذ عن تبثه همـومها وأوجاعها ، فتلجأ  لصديقها المتخيل .. فتـطرح عليه سؤالا جـوهريا ، قـل لي يا صديقي  متى ارتقِ وارتفــع عـلى هـذا الـكم الهـائل مــن الهمــوم  التي توالت وتراكمت  في وجداني  وروحي منذ  عصور؟ ! فالشاعرة هنا تبحث عن طريق الخلاص من واقع متردي، باحثة عن (  حقوق الإنسان العربي المنتهكة ولمداسه ، فحقوقه قبض ريح ) .

 ” الأن
قل لي .. يا صديقي

قل ْ لي
متى أسمو على
هذا الركام ِ المستقر ِ
على بقايا حلمي َّ المكسور ِ
في رئتيَّ دهراً كاملا “

     تقول ” سندس رقيق ” أنا امرأة عربية ، أعيش بين الهاجس والتحـدي بين ( المـوروث الراكـد والـطرح الوافــد ) مثقلــة بالظلم الاجتماعي والإفتصادي إلـى جـانب التهميش السياسي ، ومـن أهـم مظـاهر الظلـم المسلـط عـلى المرأة العربية ،التي تشيرلها الشاعرة عــدم المسـاواة والأمية والبطـالة والعنف الأسري ،فالمرأة مهمشة فكرياً ومستغلة جسدياً ، في ظل النزاعات القومية والتطرف الديني الزاحف بقوة . وتتساءل الشاعرة رقيق في ظل هذا الظلام الدامس  من أين يأتيني الأمل ؟

تؤكد الشاعرة سندس رقيق أن التيارات الفكرية في عالمنا العربي (التقدمية أو الظلامية) ، قد ضلت الطريق بفعل الصراعات الداخلية المدمرة ،حين تخلت عن لــغة الحـوار للوصول لفـكر عـربي موحـد  فوقعنا في براثن الانهيار والظلم والفساد ، ورماد الكرامة والعزة الوطنية .

” عربية ٌ.. بالصد ِّ مثقلة ٌ
وينهشني الغياب ُ المر ُّ.. يلقيني بدرب ٍ
فيه تغتصب الشموس
وينثني عني شروقي

من أينَ تأتيني النجوم ُ
وذاك شباكي الوحيد ُ
أراه راود َ ظلمتي
من أين يأتيني … بريقي

كل ُ المعاجم ِ .. قد تخلّت ْ عن لغات الضوء ِ
راقصت الظلام َملوحة الكلمات
آثام المعاني في أغانيها … بضيقي “

   النصف الثاني من العقل الباطن للشاعرة ” سندس رقيق ” يتابع ويراقب عن قرب وبتمكن ،الأحداث المتردية في الوطن ويرفض أن  يعــيد الهـدوء والسـكينة إليهـا ، ليقـاسمها الهـوية العــربية ( ثقافة و تاريخاً ومصيراً وأرضاً ) ويأنـف أن يشــاركها الأهــداف والرؤى والأفكار !! بعد هذا الصراع الداخلي .. تقول لصديقها قل ما الـحل ؟ نلاحظ أن الشاعرة تركت الإجابة مفتوحة .

” نصفي الثاني
هناك َ يراقب ُ الأحداث َ

عن كثب ٍ ويأبى … أن يجيء َ إليَّ

يأبى … أن يقاسِمَني الهوية
أو يقاسمَني طريقي
الآن قل لي يا صديقي “

 ما يميز قصيدة الشاعرة ” سندس رقيق ” الحس الوطني العالي

ودعـوتها الضمنية لتحرير العقـول والعواطف ، من الأفكار العفنة لاستنهـاض مـقدرات الأمـة ، ولتحقيـق ذلك تدعـو لإحياء الحـس الوطني وتجسيد النموذج  ( المثـال)  الـــذي يحتذى، وإذكاء بدائل تزرع فـي أذهـاننا العزة والكرامة والتغيير، بـدائل تنتصر لقـضايـا الإنسان  والعدل والمساواة والحرية .

مفردات القصيدة تدفع الذهن للتأمل والغوص في مضمون القصيدة  بحثاً عن القيم والمعاني ، لغتها تشبه الحمم البركانـية ، فــالشاعرة تعبر عما بداخلها من غليان وحب ومرارة ، والتوق للسلام الداخلي والإنعتاق من التخلف وتبعاته .

أتمنى للشاعرة المزيد من النجاح والتوفيق .وأرجو لها مستقبلًا شعريًا واعدًا، ومزيدًا من الكتابات والتألق .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

تعليق واحد

  1. ليس غريبا عنا هذا القلم الناقد للأستاذ هاشم خليل عبد الغني الذي عوّدنا على أدقّ التفاصيل
    وقد نجح هنا وهو يتناول قصيدة جميلة جدا للشاعرة التونسية سندس الرقيق لسيما وهي تتغنى بالوجع العربي…
    فشكرا لمثل هذا القلم الناقد وشكرا لمثل هذا القلم الشاعر.

    احترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!