البعد الإنساني وفضاء الرمز في نص إمام القرنفل/ بقلم الشاعر الناقد حاتم قاسم

لصحيفة آفاق حرة – عمّان
____________________

النص موضوع القراءة النقدية:
(( إمامُ القرنفل.. ))
الشاعرة سعاد محمد
……
السّلامُ على هاتيكَ العيونِ
نسرانِ يحملانِ شمسين..
وكلُّ شمسٍ حبلى بليل

السّلامُ على رجلٍ..
طوّبني في عائلةِ الظّباءِ
ثمَّ محا الغابة..

على رجلٍ
يسبّحُ بي..
ثمَّ يعلّقُني..
تارةً يبخّرني..
وأخرى يضيّعني..
فيبكي ويبحثُ عني!

على قطارٍ مرَّ على زنديه..
أخذني لمدينةٍ كلُّ ساعاتِها تكذِبُ..
كل ساعةٍ سِتون لصاّ..
سرقوا دنانيرَ الشّمسِ وهربوا نحو الغروب!

السّلامُ على ما كانَ وما لم يكنْ..
على هدهدٍ ضَيَّعَ بوصلةَ الأنبياءِ..
وأهالَ العطشَ على مدخلِ قلبي
حتّى يُشهرَ شمالَهُ الماء!

على رجلٍ..
لقلّةِ اهتمامِهِ بالتفاصيلِ
حين ذهبَ..
نسي أصابعَهُ عليَّ..
لكنّهُ أخذَ البابَ..
ورمى المُفتاحَ في جُبِّ القطيعة!…

رجلٍ قدّمتُ له نفسي كأضاحي الفقير..
خُبزَ ليلي وتنورَ قلبي..
فاكتفى بالصّلاةِ على حرارةِ الطّحين.

السّلامُ عليكَ يا إمامَ القرنفل..
يومَ صرْتُ نرجسةً صرْتَ صيفاً..
أملْتُ نحوكَ نحري فصرْتَ سيفاً!
…….
الدراسة النقدية :
===========
في كينونة المفردات يرسم الشعراء أحلامهم ومعاناتهم على لوحة تجريدية تنثر اللون بإيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية التي ترتكز على الصورة بعمق المعنى وفضاء الرمز من خلال تعابير وصور تتراوح بين التجريد و التحسين ، وقصيدة النثر لها خصوصياتها ومقوماتها ولذلك فهي تتميز بالإيجاز و تكثيف الفكرة و الابتعاد عن الغموض لينضج خبز القصيدة على صور متكاملة في بنائها التشكيلي و متزامنة في بعدها المعنوي ، وشاعرتنا سعاد محمد توقد جمر المفردات بأريح أنفاسها المتصاعدة بالحزن والألم وعلى متاهات السؤال يقف الظل بغموض تأويلي :
السلام على هاتيك العيون
نسران يحملان شمسين
وكل شمس حبلى بليل
… ولربما شاعرتنا تخفي خلف تلك الملامح غموضاً يلهث فيه القارئ للسير في ركب المعنى ، فهي تصور لنا عينيه بعيون النسر الذي يمتاز بالإبصار الحاد ، وجعلت الشاعرة في كل منهما شمس ….
وخلف هذه الحروف نتوجس خطاها على حافة التلميح و التصريح فجعلت كل شمس حبلى بليل
لاشك أن التضاد( شمس ، ليل ) في استخدم الصورة التركيبية جعل ريحها تجري بما لا تشتهي السفن ( كل شمس حبلى بليل ) فهي تلوذ،خلف حروفها لتكشف لنا
ستارة المعنى فتقول :
السّلامُ على رجلٍ..
طوّبني في عائلةِ الظّباءِ
ثمَّ محا الغابة..
وهنا تختار الشاعرة مفرداتها بعناية فائقة فتقول ( طوبني) وهو رسم الملكية لقلب ينبض بالحب و يعبق بالجمال الروحي لتجعل من عائلة الظباء المتمثلة بالمها والغزال بعدا مجازيا ترمي من وراءه الشاعرة إلى صفات وجدتها تلامس روحها في الرشاقة و السرعة ولكن
كل ذلك يذهب أدراج الرياح فتقول ( ثم محا الغابة )
فالغابة بعد مكاني و مسكن للمشاعر و القلوب التي تبحث عن دفء العاطفة على شرفات الضوء لتضيء ذاكرة الشمس ، برجل ينقذها من الغرق في مستنقع الحياة البائسة ثم يعلقها أيقونة للحب الصادق التي مهما تبخرت فإنها تسكب المطر على القلوب العطشى و مهما تاهت الدروب فإن مسالك البحث لا تضيع القلوب فتقول :

على رجلٍ
يسبّحُ بي..
ثمَّ يعلّقُني..
تارةً يبخّرني..
وأخرى يضيّعني..
فيبكي ويبحثُ عني!

شاعرة تروض حروفها لتحلق بنا إلى فضاء رحب يتقاطع مع ذاكرتهابين سحر الكلمات وعبق الصورة بمفرداتها السريالية أبجدية تحمل فيض المشاعر لتنسج لنا من حروفها الرقراقة أنهار الجمال ، وها نحن نغوص في أعماق البحر بحثاً عن أصداف تنشد تقاسيم الضوء على شفاه الفرح … عصية على السقوط
و عندما تصبح زنديه سكتين لقطار العمر الذي يفضي بها إلى عالم أوسع من مدينة وفضاء أوسع من حروف القصيدة ، تقول الشاعرة (أخذني لمدينة كل ساعتها تكذب …. كل ساعة ستون لصا ) إسقاط معنوي يحول لنا الدقائق إلى لصوص تقتفي أثر الثواني المبهمة في عالم يسرق منها اغلى ما لديها ( دنانير الشمس ) والمقصود هنا أملها الذي ترنو له فتقول :
سرقوا دنانير الشمس وهربوا نحو الغروب
فالغروب هنا اختفاء الأمل الذي يتلاشى مع الضياء

على قطارٍ مرَّ على زنديه..
أخذني لمدينةٍ كلُّ ساعاتِها تكذِبُ..
كل ساعةٍ سِتون لصاّ..
سرقوا دنانيرَ الشّمسِ وهربوا نحو الغروب!

بعد نفسي يحمل في مكنوناته لوحة فسيفسائية
تستقي من قصص القرآن الكريم دلالاتها الرمزية وهنا ندرك أن افتقاد سليمان للهدهد هو سمة اليقظة والحزم وتفقد أحوال الرعية ، ويؤخذ الأمر على محمل الجد و الحزم وبالرغم من صغر الهدهد فهو لم يغب عنه ، وهو يسأل عنه( مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ”
وما اصعب ان يظل الإنسان خطاه و يتوه الدرب ويفقد بوصلته التي ما زال سمتها يرتسم على مداخل القلب عطشا لا ينتهي دون ارتواء فتقول :

السّلامُ على ما كانَ وما لم يكنْ..
على هدهدٍ ضَيَّعَ بوصلةَ الأنبياءِ..
وأهالَ العطشَ على مدخلِ قلبي
حتّى يُشهرَ شمالَهُ الماء!

حروف مسورة بأحلام الياسمين تضيء قناديل القصيدة من خزامى الروح المتعبة بغيم السؤال على رجل لا يهتم بالتفاصيل ….حين ذهب ، هكذا تقول الشاعرة ( ولكنه أخذ الباب ) و لفظ الباب كان له حضور موسع في شعر السياب حيث يقول :
فمن يخرق السور؟ من يفتح الباب ؟ يدمي على كل قفل يمينة؟ َ
ويمناي: لا مخلب للصراع فأسعي بها في دروب المدينة
ولا قبضة لابتعاث الحياة من الطين… ٌ
لكنها محض طينة

والباب يحمل مجموعة من الدلالات المعنوية بين الامل و الانتظار تشكلها الشاعرة بايحاء مستور دون أن تصرح عنه ، فالباب هو بوابة الحياة التي تفضي إلى أملها المنشود ، وما أصعب إن تصطدم أحلام الياسمين بواقع مر يسرق أحلامها و يرمي لها المفتاح في جب القطيعة فتقول :

على رجلٍ..
لقلّةِ اهتمامِهِ بالتفاصيلِ
حين ذهبَ..
نسي أصابعَهُ عليَّ..
لكنّهُ أخذَ البابَ..
ورمى المُفتاحَ في جُبِّ القطيعة!…
إنها مأساة حقيقية … ان تعود بخفي حنين، تحصد الألم والندامة بعدما بذلت الغالي والنفيس لأجل من تحب .. فهي التي تنضج خبزها على تنور القلب لأجل من تحب ، ولكن عندما يقف الآخر على النقيض ويكتفي بالصلاة على حرارة الطحين فقط ، ففي ذلك اجحاف بحقها …فحرارة الطحين لا تلامس حرارة القلوب التي تتوخاها الشاعرة فتقول :
رغم كل شيء …
رجل قدّمتُ له نفسي كأضاحي الفقير..
خُبزَ ليلي وتنورَ قلبي..
فاكتفى بالصّلاةِ على حرارةِ الطّحين.
نلاحظ أن الشاعرة تسوق نصها في تطور دلالي يتصاعد فيه الحدث بلغة خصبة بالخيال ، تمثل الفصول و أحوالها رمزا غنيا من تفاصيل القصيدة فترى الصيف كما يراه عميد الأدب العربي الراحل طه حسين فصل رخاء واسترخاء وجد وعمل ، فتعكس تلك الصورة على المشاعر التي يصبح فيها الحبيب صيفا تميل له و بمشاعرها الجامحة رغم نرجسيتها العالية … ولكن دون جدوى فتقول :
السّلامُ عليكَ يا إمامَ القرنفل..
يومَ صرْتُ نرجسةً صرْتَ صيفاً..
أملْتُ نحوكَ نحري فصرْتَ سيفاً!
شاعرة توقظ عتمة الصبح في مرايا الذات التائهة وما زلنا نتتبع الجمال حتى لا تغرق الحدائق بالعطش ، فضاء رحب و أسلوب يتكئ على دراما تصويرية تنقلنا دلالتها إلى خزانة الروح لتلبسنا حلل الجمال و جمالية و متانة الأسلوب و براعة التصوير .
________
ألمانيا

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!