قراءة في نص نداء للكاتب محمد صوالحة /بقلم : أحمد وليد الروح _ المغرب

نداء
************* لــ : محمد صوالحة
منذ رحلت
وبعضي عن بعضي
يبحث
وحرفي كسيح
يزحف يزحف
يبحث عن رأس الصفحة
او
عن ذيل الصفحة يبحث
عساه
بسطر يتعثر
كي يرسم
شكل الكلمة
وانا يا انت
منذ رحلت
صرت كغصن عراه الريح
اتعبه صفع الشمس
انهكه هذا الليل البارد
ادمته صور الايام
أرهقه مشوار العمر
يا أنت
اني اتيك
اتوسد صدرك
وأمام عيونك
بكل هدوء الدنيا
أغفو وأنام
و…………………………….!!!!

محمد صوالحة

إنه نداء للذات عبر الآخر، ينادي الآخر، يخبرُه أنّه منذ رحل عنه و هو تائهٌ عن نفسه، و كأنه رحلٓ معه. فبرحيل الآخر، شاعرنا أيضًا رحلٓ و تاهٓ عن نفسه، باتٓ يبحثُ عنها.. ينادي علّه يجدُها.
فالقصيدة محاولة أخرى و مستمرة في البحث عن الذات و الكشف عن بعضها و عن مكنونها.. محاولة يائسة في البوح، إذ نحسُّ أن الشاعر مهما وصف لنا حالته و مهما حاول التحدث عن نفسه لم يستطع إيصال ما يحِسُّ به من تشظي و عجز و غربة و انكسار … فحرفُه كسيح، مازال يزحف باحثا عن الصفحة، رأسها أو ذيلها.. (منذ رحلت وبعضي عن بعضي يبحث وحرفي كسيح يزحف يزحف يبحث عن رأس الصفحة او عن ذيل الصفحة يبحث …)
هي صفحة بيضاء يحاول أن يرتب فيها مشاعره و أحاسيسه لكنه لا يعرف رأسها من ذيلها، اختلطت عليه الأمور . منذ الولادة و الإنسان يعيش أحداث مستمرة لا تنتهي و تدوِّنُ ذاكرته الكثير من المواقف.. تكون صفحة العمر خالية بيضاء ناصعة لكن بعد توالي السنين و الأحداث تتغير، يكاد السواد يملأها. تجمع الأحزان و الأفراح، الهزائم و النكبات، التفوق و النجاحات و الرسوب أيضا.. تتكدسُّ بها مشاعر مختلفة من توتر و غضب و يأس و تفاؤل و حب و احباط و تشاؤم… هكذا و بكلّ هذه الفوضى التي تتراكم و تعُمُّ الورقة و تملأها تختلط على الشاعر الأمور فلا يعرف الأعلى من الأسفل و لا الرأس من الذيل.
إنه امتزاج للمشاعر و اضطراب للنفس داخل الوجود، فلم يعد الشاعر يعرف عمّا يبحث و لا ماذا يريد و لا ما عساه يقول (عساه بسطر يتعثر كي يرسم شكل الكلمة) فالقصيدة انعكاس لما لا يُرى، و كأننا بظلال الموت تخيِّمُ على الورقة، تكتسح المشاعر، تدمِّرُ فيها الإحساس بالتواجد و بالوجود.
فالشاعر لا يروم الحياة بقدر ما يتوق للموت “للمخلِّص” فهو وحده يخلّصه من آلامه و معاناته، فمنذ رحل عنه والده و هو يبحث عن طريقة استحضار الغائب أو الغياب فيه لملاقاته، و ما دام الرحيل كان سببه الموت فالوسيلة الوحيدة التي توصله إليه هو الموت.
إنه نداء بصيغة التمني، نداء يبثُّ من خلاله شكواه، يصف حالته و كيف أنهكه التعب و صفعته الأيام و أرهقه مشوار العمر. و هو معه (أي والده) كان يتحمل كل الأعباء، يحبُّ الحياة و يحبُّ وجوده فيها. لكنه الآن و قد فقدٓ سنده لم يعد يتحمل، تعب من البحث عن نفسه، من السعي وراءها لإيجادها.
حين يكتب الشاعر ينفتح على أنطولوجيا الموت، يجعل القارىء يفكرّ مليًّا بها، و يعيد حساباته بخصوصها في هذا العالم المزدحم بالمتناقضات، و الكثير من المتراكمات من بؤس و قهر و ظلم … لا يسع الإنسان إلا التفكير في الخلاص و شاعرنا يبحث عن خلاصه في الموت و هذا ليس بالشيء الغريب على شاعر مسكون بالموت، إنسان حاضر شكلًا، غائب مضمونًا. و الإنسان بطبيعته يحمل في ذاته إمكانات موته. فلا يمكن تصور العيش في هذه الحياة دون معاناة، لهذا فالإنسان منذ ولادته يعيش موته و حياته بالمعاناة و العدم . فالحياة معاناة و الموت عدم، و رحلة الحياة ليست سوى رحلة للوجود المخترق بالعدم و هذا ما توصل له الشاعر و حاول التعبير عنه فالإنسان في إدراكه العميق للموت و إحساسه بها يتوحّد مع نفسه و ينطوي عليها فرغم المجتمع الذي يعيش فيه، رغم الضوضاء و الصخب إلا أنه يحِسُّ أنه وحيد و سط الضجيج وحده مع إحساسه بالألم الذي يبعث في نفسه التيه يلقي به داخل العبثية و الإبتعاد عن الذات. هكذا تتجلى فكرة الموت من خلال الصفعات المتوالية التي تصيب الذات (اتعبه صفع الشمس) و لشدة ضعفه شبّه الشاعر نفسه بغصنٍ عرّاه الريح فهو مثل الغصن عندما تهبّ رياح الخريف و تعرّيه و تُسقِط أوراقه، فهو منذ مات والده فقد الدفء و السند تعرى ظهره، فقٓدٓ القوة التي تُحسِّسه بالأمان، هُدّم السور الذي يمنع عنه ريح و برد الأيام المظلمة.. أرهقه مشوار العمر فاختار الذهاب حيث يوجد والِدُه، اختار توسّد صدره .. اشتاق للهدوء (بكل هدوء الدنيا) و بين يدي والده و تحت رعايتِه (وأمام عيونك) يغفوا و ينام .
هو قلقٌ شديد ينتاب الشاعر و يجعله يحدِّث نفسه في شكل مناداة يوجهها لوالده رحمه الله ، فلا يجد سبيلا للخروج من دائرة القلق تلك سوى الإلقاء بنفسه في دائرة الموت إذ يخرُجُ مُكرٓهًا من دائرة الحياة ليسقط في دائرة الموت المظلمة، يحِسُّ بضيق الحياة و سيطرة اللّاوجود على عقله، تفكيره و مشاعره.. أفكار كثيرة تقوده للموت فتسْقُط الأقنعة و تظهٓر له عبثية الوجود التي تلقي به داخل مفهوم اللامعنى . بكلّ هذا يرفُضُ الشاعر وجوده، واقعه و حياته التي ليس لها معنى حياة لا جدوى منها مادام من كان يُعطي للحياة معنى فٓقٓدٓ الحياة.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!