الإبداع.. ذلك السِّرّ / بقلم : حسن سالمي

 

 

 

 

 

أخواتي إخوتي دعوني أبوح لكم بهذا السّرّ:

وأنا أجهّز هذه الورقة كنت كالماسك على الماء، كلّما توهّمت الامساك بخيط من خيوط الأفكار التي تتلبّد في رأسي انتهيت الى اللاّجدوى.. ولعلّ السّبب يعود الى أنّ الحديث عن الذّات أصعب من انشاء نصّ بمئات الصّفحات..

قال صاحب طوق الحمامة، الحبّ أوّله هزل وآخره جدّ.. وأنا أقول الكتابة أوّلها نشوة وآخرها همّ.. أمّا النّشوة فمتّأتية من شهوة الخلق والابتكار، ومن ذلك السّحر الكامن في كلّ ثِنية من ثنايا الابداع.. وأمّا الهمّ ففي مآلات تلك النّشوة وأثرها على العالم الذي تتوجّه إليه بالخطاب.. ومن الغريب أنّ نشوة الابداع دائما هي السبّاقة في كلّ مرحلة من مراحله، ولو كان الإبداع عذابا محضا ما أُلّفت كتب وأسفار، ولا كان ثمّةَ تاريخٌ من أصله..

الإبداع حالة عجيبة، مخاتلة، معقّدة، متقلّبة، شديدة الغموض.. تكبر معك وتنمو بنمائك، وتمرّ بأطوار تتوازى مع تلك التي تمرّ بها في الحياة.. وأنت طفل تتجلّى لك على صورة مّا وكأنّها تنبئك بقدرك القادم فتُهيِّئَك له.. ولعلّ مراكب الخيال آية من آياتها الكبرى فإذا بصرك يمتدّ إلى شطآنه الخلاّبة لتأنس به ويأنس بك.. حتّى إذا أينعت مداركك وكبرت معك أحلامك قذفت بك في لججه ورمتك في فضائه البعيد.. وما كان ينبغي لك أن تجوز إلى آفاق الخيال ودروبه وعالمه السّاحر لو لم تشرق في ثنايا نفسك حساسية مفرطة إزاء كلّ مفردة من مفردات هذا الكون الفسيح.. ومن عجيب أيضا أنّ التحامك ذاك لا يكون ملازما لك أبدا وإلّا فقدت توازنك كإنسان وسقطت قبل الأوان.. ثمّة في دهرك نفحات لا تدري متى تولد ومتى تذهب، فجأة تغمرك وتلبسك وتتغلغل في كلّ ذرة من ذرّاتك المنظورة واللاّمنظورة، شاحنة إيّاك بشعور ساحر مكهرب، لا تلبث أن تخزّنه في عمق من أعماقك البعيدة، ثم يمحوها النّسيان.. وتمر أعوام مديدة وفي لحظة من تلك اللّحظات الغامضة المجهولة تخرجه إليك بلا كيف، وتعيد نشره على دوائرك جميعها الوعي واللاّوعي والوجدان والشّعور والذّاكرة والذّهن والحلم والموقف والانتماء وهلم جرّا.. إنّها قطعة من عجين الخلق، تجدها بين يديك مع قطع أخرى لا تدري من أين جاءها النّداء، تنفخ فيها من روحك فإذا هي كهيأة الكون..

وإنّه ليأتي عليك زمن وأنت في سباحتك مع التأمّل تشعر فيه بأنّ ما يحصل معك تستحيل معه المصادفات، وما ظهوره في حياتك ذلك الظّهور المرتَّب المتدرَّج إلاّ الدّليل على أنّ إرادة مّا تقف وراء نبوءتِك. وهي بلا شكّ لا تنبع من صميم ذاتك، وإنّما هي منفصلة عنك، كانت قبلك وستكون بعدك، تلازمك وتراقبك عن كثب، وأنت في مهدك ضعيف لا تدري ما القلم وما الأحلام ؟ وأنت إنسانٌ سويٌّ تفعل بالحياة وتفعل بك.

بيد أنّها ليست هي الغالبة على إرادتك.. صحيح إنّها وُجدت فيك بلا حول ولا قوّة منك، وإنّها وُلِدت معك، وربّما تسلّلت إليك من أصلاب آبائك الأوّلين، ولكنّها تظلّ في جوهرها على طبيعتها المحايدة، وأنت الذي تمنحها اللّون والحجم والشّكل الذي تريد.. قد يتسلّل إليها من ذاتك ما لا تعيه فيمنحها السّمت والصّفة، إلاّ أنّها تظلّ دائما تنبع من داخلك أنت.. فعلى قدر ما تخزِّن من ألوان تكون هي، إن ظلام فظلام وإن ألوان طيف فألوان طيف.. وهي تكبر بك وتصغر بك أيضا.. وقد يعجّل عليها الفناء قبل الأوان، سواءً بسببك أو بسبب التّراب الذي تنبت فيه، أو بسبب الهواء الذي تستنشقه.. على قدرِك تكون، وهي لا تحيد عن منهجك قدر أنملة.. إن حملت في يدك المعول حملته معك، وإن بسطت يدك للبناء كانت جزءا من الصّرح الذي تشيّده.. إن رمت القاع وسفْساف القضايا كانت مرآة لذلك كلِّه.. وإن رفعت رأسك وأدركت أنّ السّماء أوسع من أن تحوي نجمة واحده، كانت آية من آيات التّعدد وبشارة ليوم قادم تبدأه أنت. لا تكون جميلة أبدا وهي تصدر من القبح القابع في أعماقك، وإن تقنّعتَ بالأقنعة وأحسنتَ وضع الزّينة على وجهك.. ولا تكون قبيحة أبدا وهي تصدر من جنّة الجمال في داخلك وإن ضُيِّق عليك وسجنك الظّلام إلى حين..

هذا ما جادت به قريحتي إليكم، فأرجو أن تكون قد وجدت سبيلا إلى قلوبكم وفتحت لكم من أبواب الكلام ما شئتم له أن يكون..

 

                                                                            مع تحيّات حسن سالمي

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!