أنا ذلك الرجل / بقلم : الشاعر مظهر عاصف

أنا ذلك الرجلُ الذي تجلسُ مصادفةً بجانبه. تشعلُ سيجارتك مقدمًا له واحدة فيتناولها بابتسامةٍ مصطنعة, ثم تحدثه عن أزمة المرور, والغلاء, وعن زوجتكِ المريضةِ منذ أشهرٍ وقد عجز الأطباء عن علاجها.
يأتي آخر. في مكان آخر فيحدثني عن وجهته القادمة. يحدثني عن ابنه المتزوج (بكندية) بهدفِ الجنسية. عن برِّه بوالديه, وكيف بعث لهم دعوةً لزيارته رغمَ ظروفه الصعبة هناك..ثم يشير: تلك أمُّه يا صديقي.
قال لي صديقي بعد دقائق فقط, ومضى دون أراه ثانيةً.
أنا العابر الذي وقفَ خلفَ تلك الحسناء فطلَبَتْ منه أن يساعدها بتعبئةِ معلومات ما في دائرةٍ حكومية, فطلبَ قلمَك وغادر به دون أن يعيده إليك.
كادَ_ صدقني_ أن يعيده لكنه التفتَ بعجالةٍ باحثًا عنك فلم يجدك, وكادت هي أن تغادر وما بين وجهها المشرق وبين إعادة الأمانة لأهلها اختار وجهها حاملًا وزرَ الأمانةِ بقلبٍ آثم.
لعلك لا تعلم قسوةَ الألم في الروحِ إن غادرت حسناءُ مكانًا دون أن يعرف مَن ساعدها أيَّ مكانٍ ستقصده بعد ذلك.
عليكَ أن تتحدث ..
سر بجانب أيِّ عابرٍ وحدثه عن نفسك. إجلس كما جلسَ الغرباءُ بجانبك دونما استئذان وحدثهم عن أحلامك الضائعات, عن أيامك السوداء, عن لونك المفضل, عن قطتك (ريمي) .
أعلمُ أنك لا تملك قطة بل وتكره الحيوانات والطيور جدًا, لكنهم لا يعلمون هذا .
لا أحد يعلمُ عنك إلا ما أردت له أن يعلمه. ولا أحد يصدق إلا ما أراد هو تصديقه.
لستَ مقنعًا. والآخرون كذلك.
قد ورثنا عشق الجدلِ والتشعيبِ وما زلنا نرفض ذلك, وما زلنا نقلِّدُ ما لا نقتنعُ به, ونفعلُ ما نرفضه, ونقوم بما نكره فعله.
كم حوارٍ قلتَ في نصفهِ أو آخره: اقنعتني؟
كم فكرةٍ غيَّرت حياتك مذ عرفتَ بأنك تملكُ آليةَ التفكير؟
بإمكانك دعوةَ الجميع لأمسيةٍ شعرية.. لماذا شعرية تحديدًا؟ أصبح الأمر مملًا حد القرف.
ادعُهم لأمسيةٍ قصصية, ثم اقرأ لهم رثائية (بلقيس).
كن عابرًا حينها مرةً أخرى, فهم لن يتذكروك إلا إذا أرادوا ذلك. ونحن لا نريد إلا ما أراده لنا الأقوى. ولست الأقوى لتريد.
كن عابرًا في علاقةٍ امتدت لسنوات وسنوات .
رحتَ تحدثها عن عائلتك, عن أسرار وجهك وصوتك, عن عالمك الضيق, عن الطريق الطويل الذي سلكته.
قرأت لها القصيدةَ تلو القصيدة, غنيت لها, ثم عزفتَ على العود بمهارةٍ غريبة.
سأَلتكَ فأجبت.
طلَبتكَ فلبيت.
بكت فرحتَ تمسح عن عينيها بعينيك دموعها.
رحتَ تحدثها عن لغةِ الورد التي لا يتقنها سواك.
: إنظري … هذه ورة نائمة, وهذه صورتُها دون أن تنتبه, وهذه تشعرُ بالبرد, أما هذه فقد تيتَّمت حديثًا, وهذه زُّفت عروسًا منذ وقتٍ قصير.
كن عابرًا مرةً أخرى؛ فلقد جَلَسَت بجانب الآخر وطَلَبَت إليه أن يحدثها عن نظرية النسبية, وقبل أن يودعها طبع على جبينها قبلةً حامية الوطيس.

الجالسةُ في المقهى وحيدة أنت تعرفها .
تعرفك جيدًا.. أجلس وحدثها مثلا عن (فيروز) .
تظاهر بأنك تحب صوتها وأغانيها.
تفلسف قليلًا فأنت تتقن فلسفاتهم الحديثة.
خذ الكتاب من يدها, وامتدح انسانية صاحبه, ثم امتدح جميع أعماله. ثم اضحك على أي نكتةٍ سخيفة ستقولها .. كن سخيفًا عابرًا لمرةٍ واحدة لندركَ من أين تؤكل الكتف يا صديقي.
لقد شرحتَ نفسك وشرَّحت ذاتك بالكامل له .
لقد ثرثرتَ بكل ما تملك وما لديك وما تحمل وما نسيت وما تذكر .
لقد أعدتَ وكررت وأطنبتَ وأوجزت.
كن عابرًا .
كن. فلقد أهداك بعد كلِّ هذا قطةً رغمَ كراهيتك للقطط.
قال في رسالته: ” صديقي العزيز . من الإنسانية أن يشعر الفرد منا بمشاعر قطةٍ مسكينة لم تر أبويها” .
هو مَن صفقَ لك عندما سمِعك لأول مرة.
هو من طلب منك بأن تكرر وتعيدَ منتشيًا بك.
وهو من نظرَ إليك بعدها كعابرٍ يومَ صفقَ للجميع وجَحَدَك.

قالت وقد قلتَ لها ما قلتَه له: سأهديك إذن زجاجةَ عطرٍ فاخرة.
– أريدُ علبة تبغٍ فقط.
– العطر باريسي فاخر.
– علبة تبغ فقط.
– إنه ماركة مسجلة.
– أريد علبة تبغٍ فقط.
– الدخان مضر.
– لدي حساسية تجاه العطور. أريد علبة تبغ فقط.
– العطر هذا لا يُعوض.
– تبغٍ فقط
وبعد ساعتين ..
وبعد سنتين…..
وبعد أن أتعبتكَ أهدتك زجاجة عطرٍ فاخرة
وأهدت له ..للعابرِ.. علبةَ تبغٍ فقط.
كن عابرًا فلربما فهمَ العابرون ما أردت .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!