الحــــــدس / بفلم : الروائي والقاص الأردني توفيق أحمد جاد

 

 

رغم صدمتها بذاك القرار القاسي.. إلا أنها حاولت أن تتماسك من هوله.. وقع كصاعقة قذفتها السماء بسرعةٍ هائلة، ضربت الأرض بقوّة وعُنف، لتحرق كل ما كان عليها. نعم.. احترق قلبي.. وما حوله، وما نبت فيه منذ ذلك اليوم، ولو عود واحد.

 

لكن، كان أكثر ما يدهش ويذهل.. هو ذاك الصمتُ الذي أطبقَ على سمعي وبصري ولساني.. لقد كنتُ أشبَهَ بصمّاءَ بكماء، لا أبصِر.. وكأنّه حصارٌ من الصمت والذهول.. وكأنني محاطة بفراغ أسود لا حدود له ولا دروب.

 

ما الذي أخرس جسدي كاملًا، وكأن مسًّا أصابه.. فعطّل كل أوردتي وأعصابي، أيّ شيءٍ هذا الذي مكنتُه مني أو أنني لم أصمد أمامه. أي ضعف شلَّ دموعي وصراخي، وكأنني، أبدأ بتحسس الخطوة الأولى في رحلة جنون.

 

أمسَكَت بالباب، وشريط الذكريات.. يمرّ بسرعة من ذاكرتها النازفة، في ثوان معدودة.. كان الزمن بطيئا وثقيلا.. رنّ الهاتف في صبيحة يوم سبتٍ، لكنّها لم تُجب.. ما زالت رغبة النوم تسري في كل جسدها.. وكعادتها تشعر بتثاقل..، رنّ الهاتف مرة أخرى، فتأففت.. وبنظرةٍ منبعثة من نصف عين إلى النافذة، استدركت الربيع وأجواءه الباعثة على السرور، والتفاؤل.. لطالما حَمَل إليها الربيعُ أخباراً سارة ومختلفة.

 

رفعت رأسها قليلًا، ومدت يدها ببطء، وأمسكت بالهاتف.. تسلل صوته كرذاذِ مطر ناعم..

– صباح الخير يا عمري.

 

– صباح الخير رامي.. ما أجمل نهاري.. يداعب خدّ وردةٍ جورية.

– كيف أصبحت حبيبتي.. أعرف أنني أزعجك في هذا الصباح الباكر.. ولن أعتذر.

– لا عليك حبيبي.. لم أنزعج.. أنا سعيدة باتصالك.. من أين تتكلم..؟.

– من البيت.. وصلتُ الفجر من سفري، وبقيتُ مستيقظاً كي أتصل بك.. لم أتمكن من النوم، ولم أتمكن من تأجيل الخبر حتى أصحو.. تخيلي!

– أي خبر؟.. تحدث، ما الذي لم تقدر على تأجيله؟.. هيّا أخبرني حبيبي.. بسرعة أرجوك

– انهضي أولاً من فراشك وتناولي إفطارك.. بعدها سأتصل بك وأخبرك.

– بالله عليك.. صدّقني، لن أتناول لقمة واحدة إن لم تخبرني أولا.. هيا أرجوك!

– هكذا إذن.. “طيب” استعدّي هذا اليوم في المساء جيدًا، سآتي وأهلي لزيارتكم لخطبتك. ها..؟ ما رأيك..؟

سقط الهاتف من يدها.. وركضت تصرخ “أمي.. أمي”.. متنقلة من غرفة إلى أخرى.. وقد نسيت رامي على الهاتف، والذي أطلق ضحكة.. رافقتها بحّة صوته.

– ما بكِ يا بنتي؟ هل جُننتِ أم أصابك مَس!.. على رِسلِك.. اهدئي وأخبريني.. ما بك !؟

– أنا أسعد فتاة على وجه الأرض.. هذا اليوم هو يوم سعدي.

– أتمنى أن تغمر السعادة كلّ أيام حياتك.. ولكن أخبريني عن سبب هذا الفرح والسعادة!

– سيأتي رامي وأهله مساء اليوم، لخطبتي

– هنيئا لك، وأتمنى لك التوفيق ودوام السعادة.

لم تَطل خطوبتهما.. ومّرت الأيام حلوة وسعيدة.. ثمّ جمعهما الزواج في بيتٍ صغير رتّبا له طويلا.. كانت أيام الزواج أكثر حلاوة وسرعة.

وبعد شهر من الزواج.. كان لا بدّ لرامي من السفر في الصباح الباكر، تاركاً “لانا” تذرفُ دموعها المُرّة على فراقه الذي جاء أسرع من أن تنتبه لقدومه.

 

ما يقرُب من الشهرين كان غيابه، مرّ كأنه سنين.. احتضنته بشدةٍ وعفوية وهي تستقبله.. بعد أن فتحت له الباب، والسعادة تغمر قلبيهما.

 

لم يمكث إلا أسبوعًا واحدًا.. مرّ كلمح البصر، ثمّ بدأ يستعد للسفر من جديد.. غادر رامي وأخذ معه روحها وصبرها.. شعرت أنها فراشة تائهة في صحراءٍ لا ينبتُ فيها إلاّ الرّمل، ولا تنجب إلاّ السراب.

 

مرت الأيام ثقيلة وبطيئة.. داهمها كابوس نثر نومها وسكينتها.. وأشاع ظلامًا دامسًا في نومها، ووحدتها.. انتظرته وهي تعدُّ الزمن بنبضها المضطرب والمتسارع..

 

وبعد عدّة أسابيع، اتصل بها ليُبلغها موعدَ وصوله وعودته إلى البيت.. فأخبرته بلهفة وشوق أنها بانتظاره على أحر من الجمر.. ورجته أن لا يتأخر.

 

لقد كان الفِراق قاسيًا أول مرة.. وفي الثانية كان أشدّ قسوة ومرارة.. ما جعل رامي يصرخ في داخله ” إلى متى.. أنا هنا وهي هناك.. إلى متى هذه الغربة القاسية “.

 

حين وصل البيت.. كانت تستقبله كنار حامية، وقد شعرت به على غير العادة.. ساكنًا، وأحسّت بفتوره الغامض.

 

أمضى يومه الأول بشرودٍ وصمت.. والجمر يتقلّب في فؤاده.. وأسئلة تهدرُ في وجدانه.. أشباح تطارده كلّما نام أو أخذته غفوة..

 

وحتّى في اليقظة، رأى الأشباح تطارده.. ورأى أنّه يهرب، وقد كاد يسقط في مرتين، رأى نفسه فيهما يقفز عن مبنى مرتفع..

وشعر بالألم، وهو يرى أنه يحاول صدَّ الكابوس الذي يهاجم حبيبته في منامها.. إلاّ أنه كان كمن يركض مكانه.. وكأنّ شللاً أصاب أطرافه.. وصوته لا يطاوعه، فيصرخ بأعلى صوت.

 

سافر رامي.. وبقي كلّ ما يشعر فيه داخله.. كان يقول: “هو ألمي.. وعليّ أن أحتمل وحدي ما أعاني”.

 

غادر.. وكعادتها.. وقفت أمام البيت تودّعه بدموعها ورجائها بأن يعود إليها سريعًا بالسلامة.

عاد رامي بعد مرور أسابيع، والحالُ ليس حاله.. منهكًا.. وقد نال منه التعب والإرهاق.. كان أبرد من قالب الثّلج، وهو يقف أمام الباب.

 

ركضت إليه لاحتضانه.. وقبل أن يصدها، وبلطف، قال لها: “أنتِ طالق”.

 

حاولت أن تخرج من ذهولها وصمتها، وذلك السراب الذي حاصرها.. لكنّها لم تتمكن، رأت كابوساً، يقفز من عينيه، وهو يرى في ذات الوقت، أشباحًا تقفز من عينيها.. وجدت مساحة ضئيلة انقشع منها السراب، فقالت “بشفاه مرتجفة”: رامي لا تقلها حتّى لو كنت تمزح.. فهذه واحدة من الثلاثة الّلواتي “جدّهن جدّ، وهَزلُهُنّ جدّ“.. أرجوك.

ثمّ لفّها السراب.. وما عادت تحسُّ إلا بصوته، يأتي كوَشوشة تأتي من بعيد، وقال: “والألم يعتصر قلبه” : صبرتُ.. فصبرتِ أنتِ.. عانيتُ.. فعانيتِ أنتِ.. أخطأتُ أنا.. فأخطأتِ أنتِ. هذا حدسي، وحدسي لا يكذب.. فأنتِ طالق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!