أخيرا تولى الأمير حيدر حكم أكبر مملكة فى الشرق ، لم تكن مفاجأة له على كل حال ؛ فهو الابن الأكبر للحاكم الراحل ، وأكثرهم دهاء وحكمة !
التقط الأمير كيس الملك ؛ فهو الميراث السرى غير المعلن للعائلة ، فيه الوصايا ، والفرمانات ، والأحكام العليا ، والأملاك ، والحدود ، وصحيفة أحوال خاصة جدا بأفراد العائلة المالكة !
دار حول نفسه دورات رتيبة ، وبدا على وجهه كأنه يعانى قلقا ما ، ثم جلس ، وراح يهز رجليه بعصبية ، أخذ بعنق الكيس ، وفك رباطه ، كان يعرف محتواه ، ومع ذلك كان هاجس ما يدفعه للنظر فيه !
التقط صرة من صرر الكيس ، كانت فارغة ، قرأ ما كانت تعنى ، هز رأسه تعجبا ، ثم ألقاها جانبا بتأفف ، والتقط أخرى فارغة أيضا ، وقرأ ما كانت تعنى ، وابتسم ، ثم ألقاها ، والتقط ثالثة فارغة أيضا ، قرأ ما عليها ، وألقاها ، ورابعة ، وخامسة ، هم بالقيام ، وإنهاء هذه اللحظات غير السارة ؛ فصرر الظلم والفقر والطرد والنفى والتعذيب والمحسوبية فارغة .. كلها فارغة !
لم تطاوعه نفسه على إنهاء الأمر ؛ فقلب محتويات الكيس رأسا على عقب ؛ كانت كلها فارغة عدا صرة وحيدة كانت منتفخة ، ومختومة بشعار العائلة العتيق ، وحين هم بقراءة ما تعنى تلك الصرة سمع طرقا على الباب ؛ فلملم الأشياء ، وردها إلى الكيس ببطء ورتابة ، طرق هامس لا ينقطع 0 تحرك الأمير صوب الباب ، فجأة تراجع ، ووقف بجوار كرسى العرش معطيا ظهره للباب ، و هتف قائلا :” ادخل “.
كان الأمير مندهشا من أمر طرقات فى مثل هذا الوقت ، هو حاكم أكبر مملكة فى الشرق ، وفى وقت يستريح فيه كل البشر ، أعلاهم وأدناهم ، تقلق راحته ؛ لذا خبأ دهشته حين ظهر الحاجب الأكبر ، وانحنى بتأدب وهو يردد :” رجل بالباب يصر على مقابلة مولاي الحاكم “.
صاح الأمير بصوت زعزع تماسك الرجل ؛ فانبطح أرضا :” أنا ……..” .ثم تراجع عندما رأى سقوط الرجل ، وتوجعه ، ولم يكمل ، بل قال:” أنت تعرف .. هذا وقت راحتي ،أليس فى القصر وزير .. ومساعدون .. وآمر .. وحراس .. وسجانون ؟ “.
اعتدل الحاجب وقال بصعوبة :”يقول ، هذا موضوع شخصي ، لا يصح لأحد الإطلاع عليه”.
بان الاهتمام على وجه الأمير ، وهمهم بلطف :” لا عليك .. دعه يدخل “.
استوى الأمير على كرسيه الفخم ، فجأة قام ، وطار مختبئا ، ومن خلف ستارة مزركشة كان يعاين الرجل وهو يعبر الباب .
كان الرجل غامضا ، يرتدى سترة طويلة مثل الحواة ، وله ذقن مسترسلة ، وعينان ذئبيتان ، وله رائحة عطنة .
كان يتحرك ، وهو يمط أنفه إلى الأمام ، ويغور بعينيه كأنه يكشف المخبوؤ ، ثم فجأة قال :” لو كنت مكانك لفعلت نفس الشىء .. أنا محب .. أنا صديق .. أنا ……..”.
سرعان ماامتص الأمير خجله ، وضرب الستارة بغضب ، تحرك وهو يصيح :” أنت كما حسبتك .. لا يجسر على طرق بابى فى هذه الساعة إلا ………. “.
طأطأ الرجل رأسه وهو يضحك :” نعم .. نعم أنا متبجح ، وميت القلب !”.
احتار الأمير حيدر ، أحس بثقل نظرات الرجل ، تعريه نظراته من ملبسه ، هو الحاكم لا شيء يستره ، حدق فى وجهه ، ولم ينبس بكلمة .
أخرجه الرجل من حالته الطارئة ، ثم ابتسم ابتسامة غامضة ، وقال :” أنت لم ترحب ، ولم تعطنى حقى فى كرمك ، أحمل لعظمتكم أفكارا تستحق الكثير .. فلا أقل من كلمة ترحيب ، تقولها لى “.
هو الحاكم ، وأهم صفات الحاكم سعة صدره وأفقه ؛ فأذن للرجل بالجلوس ، وانتظر حتى يبدأ حديثه ، وبالفعل تنحنح الرجل ، وبدون مقدمات ، أو ألفاظ تخرجه من ورطة أو شىء من هذا القبيل ، كشف له ماكان يفعله هو الحاكم قبل مجيئه ، وكيف لم يجد سوى صرة وحيدة لم تمس ، وهذه صرر فارغة دائما ما كانت بين يديه ، وهو من مكن أسلافه الملوك والسلاطين من توزيعها سنة بعد أخرى ، وجيلا بعد جيل ، وحقبة بعد حقبة ، منذ توسعوا فى ضم الممالك ، حتى أصبح لهم تاريخ عظيم ، وفى النهاية استبقى الصرة هذه إلى الآن ، ولم يقم بتوزيعها أى من الحكام والملوك السابقين بإيعاز منه شخصيا !
كاد الأمير يتعلق بسقف البهو من شدة اندهاشه ، وخوفه من الرجل ، خوفه كان يتشكل فى هيئة تناميل وارتعاشات قوية ، الخوف على وشك التسلل من جوفه ، فى حين كان الرجل يتحول إلى ذئب ضخم ليس له مثيل !
عوى الرجل ، تحول إلى ذئب ، فاختبأ الأمير ، وعوى الرجل ثانية ، فهرول الأمير جاريا ، وعوى الرجل ثالثة ، فارتد الأمير إلى الرجل ، وجلس بين يديه ، وهو يرتجف !
مسح الرجل على رأس الأمير ، وقال بهدوء:” احرق الصرة الباقية ، لم تعد فى حاجة إليها “.
ردد الأمير كطفل :” كيف ؛ والناس جوعي وهلكى ، ينتظرون حاكما جديدا يأتي فيملأ الدنيا عدلا وخيرا ، بعدما ملئت جورا وفقرا ؟”.
كان ما يزال يربت على كتف الأمير ، ويمسح على رأسه حين قال:” الناس كذابون، وأنت كاذب منافق ، لن تفعل شيئا ، وليسوا فقراء ، صرة العدل بليت ، وأكلها السوس ، لم يعد فى المملكة فقير إلا أنا وأنت !! “.
زحف الأمير على بطنه ، ثم توقف ، وخطف نظرة ، الرجل مازال ذئبا ، عاود الأمير الزحف ، خطف نظرة ، الذئب عاد رجلا ، هنا توقف الأمير وقال :”الذهب والفضة والحرير والديباج والسندس والإستبرق كلها تزحم القصر ، يدوسها الخدم بالنعال !!”.
همهم الرجل ؛ فاحمرت أذناه وعيناه، وتحول إلى ذئب ضخم ، وعوى قائلا:” أخذتم زمانكم ؛ فاعطونى زماني !”.
صرخ الأمير ، وزحف على بطنه وهو يردد :” لم آخذ شيئا ، لم آخذ شيئا ” . لم يتوقف ، واستمر زاحفا ، فى حين طار الذئب فجأة ، وحلق عاليا ، ثم انقض على الأمير ، وأمسك به ، ثم ضمه بقوة إلى صدره :” بل أخذتم ، أقمتم مملكة عظيمة جبارة من أقوى الأمم ، وحققتم ما فشل فيه الحكام منذ آلاف السنين ، والآن جاء دوري .. جاء دوري “.
ضم الرجل – من تحول إلى ذئب – الأمير ، ضمه بقوة ، بقوة أكثر ،كادت ضلوع الأمير تتفكك ، ثم هدهده ، ومسح على رأسه ، وقال :” كنت وراء أبيك مباشرة ، أعطيه نصائحي وعوني ، كان يعلو وأنا أعلو .. أعلو ، والآن آن نسيان كذبتك ، لن تحقق عدلا ، بل ظلما وجورا تحقق ، أعط الممالك حقها ، دعها تستقل ، دعها ترحل ، وعش لنفسك “.
كان الأمير قد تحول إلى نقطة صغيرة ، لكن صوته ظل كما هو قويا نفاذا :”والجيران الأعداء ، والمنافسون ، وعدالة جئت لتحقيقها ؟ “.
همهم الذئب ثانية ، وجذبه حتى كاد يزهق روحه ، وقال :” قلت لك لن تفعل ، صرة العدل بليت ، وأكلها السوس ، أما الأعداء الجيران والمنافسون فدعهم لى ، أنا لست على عجل ، ليتم الأمر خطوة خطوة ، سوف أدبر لك أمر الجميع .. هات الكيس فقد آن وقت الرحيل !”.
ترك الرجل الأمير ، وهو يحمل الكيس ، لم تكن به الصرة الباقية ،كانت هناك بين الأرائك ، اتجه الرجل الذى تحول إلى ذئب صوب الباب ، ثم توقف ، التفت إلى الأمير، وأخرج كتابا ورفعه بيده قائلا:” خذ .. أعددت لك كل شيء ،كل ما ستفعله فى هذا الكتاب ، الموت لك . نفذ مابه بالحرف الواحد ؛ وإلا هلكت! “.
ألقى الرجل الكتاب ومضى ، مضى فى لمح البصر، كأن لم يكن ، فارتعد الأمير كأنه يفيق من كابوس، دار حول نفسه ، ثم غرق فى بحر من عرق بارد ، هل كان يحلم ؟ أم كان يعيش حقيقة مؤلمة ؟ هكذا كان يفكر ، نعم هكذا كان يفكر ، وحين أبصر الكتاب ملقى تأكد .. لم يكن حلما !”.
لم يكن الأمير قادرا على الحركة ، فزحف حتى وصل إلى الكتاب ، ثم التقطه ، وقرأ غلافه . كان اسمه مكتوبا بالبنط العريض ، فجأة عادت له قوته ، لكن رائحة الرجل الذى تحول إلى ذئب كانت تطارده ، وتسلبه قوته ، فيحاول الفرار منها ، خلف الستائر ، بين المقاعد ، ثم أخيرا يفتح النوافذ ؛ فيعبر الهواء الطيب ، ويطرد الأنفاس العطنة القاتلة ، ويعود كل شيء إلى طبيعته !
كان الفجر يشق حلكة الليل الخاملة ، حين كان الأمير يقرأ صفحات أخيرة من كتاب يحمل اسمه كمؤلف .
كان الكتاب يحمل أفكارا غريبة غاية فى الجرأة ، تثير الدهشة ، سوف تجعل العالم كله يسير على رأسه ، يموت بعض الناس من دهشتهم ، ويموت بعضهم من الإهانة ، ويموت الآخرون من تحطم الآمال الكبيرة ؛ المهم سوف يصبح اسمه – حيدر – على كل لسان ، فى كل الدنيا العريضة ، إما بالنقمة أو الشكر والعرفان . المملكة المترامية الأطراف تنحل ، وتصبح لا شىء ، تصبح هباء ، كأن لم تكن .. كيف هذا ؟
تطاحنت أسنان الأمير ، وهب واقفا ، فبدا كعملاق ، ثم هتف :” هذا لن يكون .. لن يكون “. ثم مزق الكتاب وهو يردد:” كيف أوزع المملكة على أولادي ، لم يبلغوا الحلم بعد ، مازالوا صغارا. أقطع الثوب الجميل ، وأحوله إلى خرق ، إنه يريد منى نسف كل شيء ، التقاليد والعرف ، والتاريخ . من يكون هذا المتبجح ؟ وكيف تركته يرحل ، كيف يا حيدر تحولت أمامه إلى قط أليف ؟ “.
علا صوت الأمير مستدعيا حاجبه ، فأقبل على وجه السرعة ، ووقف بين يديه . كان ثائرا ، ولكنه حين رأى الحاجب مرعوبا خفف من حدته ، وقال :” هل رأيت الرجل جيدا ؟ “.
رد الحاجب متلعثما :” نعم ياسيدى “.
عاد الأمير يسأل :” ألم تره قبل ذلك ؟”.
بتردد يجيب الحاجب :” كلا ياسيدى ، لم أره “.
همهم الأمير ، ودار حول نفسه ، وقال :” هل رأيته وقت انصرافه ؟”.
أجاب الحاجب :” نعم ياسيدى رأيته ، كان يتحرك مثل فأر السقوف !”.
أطرق الأمير ، ثم بعد برهة قال :” أريد هذا الرجل ، ابحثوا عنه فى كل مكان ، لا أريد رؤيتك إلا وهو معك !”.
فى الصباح كان الأمير حيدر أكثر إصرارا على فض صرة مختومة ، تحمل شعار العائلة ، الوحيدة بين الصرر لم تمس ، رغم تحذيرات فأر السقوف ، كما أطلق عليه ، ولم يهدأ حتى وزعها كاملة على كل رعاياه ، فردا فردا ، وبيتا بيتا ، كأنه يتحدى ، والناس من فرحتهم لا تصدق ما يحدث ، أخيرا يأتي من يملأ المملكة عدلا ورحمة ، بعدما ملئت جورا وقهرا ، يا رحمة الله المهداة !
لم يتم هذا كله فى يوم وليلة ، بل امتد لشهور طويلة ، وكلما رأى الرضي والحب فى وجوه الناس ، نسى كل تعبه ، وازداد تمسكا بما يفعل ، بل تأكد من صواب فعله، المدهش أنه كان يسمع الناس تدعو بالرحمة والخير لآبائه السالفين ، وتترحم عليهم ، فكان هذا يدخل فى قلبه السعادة والغبطة.
انتظر الأمير عودة الحاجب الشيخ ، انتظر طويلا ، فلم يأت ، كان داخله إصرار على الحفاظ على المملكة قوية ، وكانت كلمات الرجل الذي تحول إلى ذئب ، ترن فى أذنه ، وتقلق مضجعه ، فيتساءل : من يكون ؟ وماذا يريد ؟ ولم يجد إجابة شافية ، غير أنه أصدر أوامره بإعفاء الوزير الأول من منصبه ، وقائد الحرس ، وقائد الجند ، وقضاة المملكة ، وأعاد النظر فى الدستور ، وغير بعض القوانين بمساعدة رجال يثق فى عقولهم ، وحبهم للناس .
مرت سنة وسنة ، والأمير يغير ، ويصلح ما أفسد السابقون ، حتى اطمأنت نفسه ، وما عاد يخشى على المملكة ، ولا على نفسه ، هفت نفسه إلى تذكر اللحظات الأولى لملكه ، حيث وقف أمام كيس العائلة الرهيب ، والميراث السري ، وفتحه ، ويا للدهشة ، حين وجد صرر الظلم والفقر و….. و …. تلك الصرر التى كانت فارغة ، أبصرها ممتلئة ، ومختومة بشعار العائلة العتيق ، فابتهج كثيرا ، واستدعى آمر القصر ، وأمره بحمل الكيس إلى أسفل ، حيث المطابخ ، وحرقه ، لكنه حرص أن يكون شاهدا على ذلك ، فتبع الآمر حتى المطابخ ، ورأى بنفسه حرقه ، وهنا ، كان يتذكر الحاجب الذي لم يعد ، وفى نفس اللحظة أقبل أحد الحراس ، وأخبر عظمته بطلب الحاجب المثول بين يديه ، فتعجب ، وهتف بمرح وبشر :” ليدخل على الفور .. أين كان هذا الرجل ؟ ظننته لقي حتفه ؟!”.
استقبله الأمير على غير عادته ، فاردا ذراعيه ، حط الرجل بينهما باكيا مهتزا ، فطيب خاطره ، ثم هتف :” أين كنت أيها الرجل الطيب ؟!”.
تماسك الحاجب ، وقال :” كنت أبحث عن الرجل ! “.
تحرك الأمير ، وهو يردد :” وهل وجدته ؟ “.
استأذن الحاجب فى القعود ، فأذن له ، وقال :” وجدته منذ وقت طويل !”.
تعجب الأمير غاية العجب ، وقال :” وماالذى منعك عنى ؟”.
تنهد الحاجب العجوز ، وهمهم :” حين قبضت عليه ، وحمله الجنود ، وانطلقنا سالكين طريق العودة ، وقع بصري على رجل يشبهه تماما ، فتحيرت أيهما أرجع به ، فحمله الجنود هو الآخر، وعاودنا المسير ، وبعد أيام بينما كنا نعبر إلى مدينة أخرى أمسك الجنود غير مصدقين برجل ثالث يشبه الآخرين ….”وهنا توقف الحاجب ، وانخرط فى البكاء .
تعجب الأمير ، والتف حول الحاجب ، وربت على كتفه متسائلا :” وما يبكيك الآن ؟ “.
توقف الحاجب ، وشردت عيناه فجأة ، واكمل :” قبضت على عدد كبير جدا من الرجال ، يشبهون الرجل ، كدت أفقد عقلي يا مولاى ، لقد أغرق جندي نفسه من الدهشة ، وفر آخر بعدما فقد عقله ، وثالث ظل يضحك حتى مات !”.
هتف الأمير :” وأين هم الآن .. أريد رؤيتهم ؟”.
فجأة وقف الحاجب ، كأنه يمنع الأمير من الحركة ، وهو يهتف :” لا ..لا يامولاى .. إني أخشى عليك من رؤيتهم “.
لكن الأمير أصر ، وتقدم والحاجب خلفه ، وصلا إلى ساحة سرية خلف القصر ، هاله الأعداد الغفيرة ، والشبه الغريب والمدهش ، كأنهم شخص واحد ، يتكرر من خلال مرايا ، فأشاح الأمير مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم ، والأفكار تكاد تعصف بعقله ، ثم استدار ، وهو مبتهج الوجه ، وأمر بإطلاق سراحهم فورا مما أثار عجب الحاجب والحراس ، وسحب الحاجب من يده ، جذبه خلفه ، وهو يقول بفرح حقيقي :” الآن تأكد لى . مخاوفي وترددي هي من زارني فى تلك الليلة ……….. وما الرجل سوى شيطان كان يحاول إثنائي عن عزمي ، وكان مصمما فقهرناه ياصاحبى .. والحمد لله . هيا “.