المحنة الغجرية :ثنائية الروح والجسد في شعر فارس مطر

 

 بقلم : الدكتور الشاعر أحمد شهاب / جامعة الموصل

هذه الثنائية يمكن أن تنمو وتتواشج وتتعايش وتصفو في مجتمع كفّ عن قمع الجسد وفي فضاء تمرّن كيف يطلق الجسد كي يجرب ويختار، لقد كان المتصوفة العرب يسجنون الجسد ويطلقون للروح العنان بان تكابد  شظف العيش والعازة والعبادة في أماكن منقطعة واعدة الجسد بمِنحٍ سوف يحققها في عالم غير عالمنا المحسوس موقناً ان الروح وحدها قادرة أن توصله إلى السعادة وبذلك تؤدي مكابدات الروح في النهاية إلى سعادة الجسد، والغجر يجدون سعادتهم بإطلاق العنان لأجسادهم فالغجري لا يقيده عمل ولا وطن، فكل البلاد وطنه، هي محاولة تشتيت الجسد في المكان والتوزّع على أمكنة عديدة، وتشتيت الجسد في الزمان، فالغجري يلغي الزمن تماماً :

 

من غيم إلى غيم بباب الريح والطرقات

أغنيةً وقيثاراً

أنا المصلوب يا أمي وأوتاري مساميري

أهاجر دون أوردتي وأمكنتي

 

الدوال والغيم والريح والطرقات تشير الى عدم الاستقرار، والريح والطرقات رفاق الغجري، ووطنه المؤلم والجميل، فمؤلم لأنه غير مستقر وجميل ؛ لأنه يعانق فيه الحرية، والذات الشاعرة لا تتقمص الغجري وانما أيضا تعيش حياة مشابهة له، فهي دائمة السفر فمرة في السليمانية وأخرى في عمان وتارة في الولايات المتحدة والسويد وأخيراً في المانيا، وإن قراءة بسيطة لشعر فارس مطر تجد الترحال واضحاً، والصراع محتدماً بين جسده المتشبث بالمكان، وروح الغجرية التي تدمن الرحيل :

 

أهاجر دون أوردتي وأمكنتي

 

وفي ضوء وقوفنا عند أيقونة الجسد في شعر مطر يرى نيتشة ان الدين كان سبباً رئيسا في تهميش الجسد وإذلاله، فهو يرى ان المسيحية عملت طوال تاريخها على انتاج جملة من القيم التي ناصرت النزعات التشاؤمية الحاقدة على الحياة والزاهدة في مباهجها، ووفق هذا المنظور نقرأ في قصيدة الخطى بين الغيوم :

 

حين ابتكرت وجودي مساءً..

وحين المرايا تراءت فصار التجلي رؤىً وقصائد

 

فمازال الشاعر يسترد الغجري لتولد مساحات جديدة لا يضطهد فيها الجسد، فابتكار الوجود يساوي ابتكار الجسد وفي قصيدته في الأثير يبدو استرداد الغجري أكثر وضوحا :

 

إدفنوني حيث ابدأ

حيثما الريح تضعني

يبتدئ صحوُ الخطى

 

فالقبر مكاناً يكون نهاية رحلة لإنسان ظهر في الدنيا، ويأمل عن طريق القبر الظهور في الآخرة، لكن الذات الشاعرة تريد أن يكون لها قبراً في الريح، ولكن الريح مكان غير مستقر ينفتح على الصدفة والمغامرة، وقد يكون غجري فارس مطر يحمل بعض سمات المسيح وعلى وجه التحديد الفداء، رغم ان الفكر المسيحي يتعارض مع تطلعات الغجري، فالمسيحية تعد الجسد سجن الروح، وان الروح تتحرر اذا خرجت من الجسد على اعتبار أن الجسدَ مكان للخطيئة، لكن فارسا في كل الأزمان يظل الفادي :

 

فإذا ماأردت التفتحَ دون التراب

وكي يطمئن الهديل فخذني

وأربعة من طيوري

ووزّع رفيف القصائد صحواً..

لعل المرايا تباغتُ لحنا وتمطره..

 

يحاور الشاعر جسداً ما، فقد يكون جسده الذي يحاول التفتح أو العيش بعيداً عن ترابه الأم  والهديل الأم الذي فارقه يئن على دجلة ويطلب منه أن يأخذه ومعه أربعة من الطير، ويضع كل ذلك على جباله البعيدة، لعل أغانيه تصير صحواً، أو لعل المرايا تباغت لحناً وتمطره، يقول أنسي ((لحاج النثر سرد والشعر توتر والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير))، ولم  أر عبارة أكثر اقتصاداً من لعل المرايا تباغت لحناً وتمطره، والعبارة مختصرة كأنها تريد أن تباغت شيئا أو كأنها منقولة عن فعل المباغتة التي هي سمة الغجر، إذ إن الغجري يباغت الآخر عندما يسرقه، أو يمر بالمدينة متوجساً، انه تعبير يختصر آلاف الأشياء : الجسد الذي يتفتح خارج التراب لكي يطمئن الهديل، ولعل الهديل هنا تلميح الى انتصار الإرادة ؛ ليأتي رفيف القصائد، والمرايا التي تختزن صورةً لمطر قادم ؛ ليكتمل الاختصار والتوهّج ويحدد الشاعر موقفه من العالم والأشياء، ويحرر أقدامنا من الطرقات، إنها القصيدة الهدم والعصف والإنتفاضة .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!