أوراق لا تموت / بقلم : د.عبد المجيد أحمد المحمود

 

السَماءُ تُكشِّرُ عن أنيابِها…صدرُها ينتفخُ بغيومٍ سوداءَ، مُنذِرَةً بليلةٍ غيرِ عاديَّة.

ريحٌ شديدةُ البرودةِ تتسرَّبُ إلى عظامِها…تحثُّ الخطا إلى خيمتِها، التي تتراءى لها من بعيد ترتعدُ و تترنَّحُ.

تنفخُ في يديها طلبًا لبعضِ الدفءِ.

صغارُها يلتَفُّونَ حولَ أبيهِم مبتورِ السَّاقينِ، يتضوَّرونَ جوعًا، يبادرُها أحدُهم: ماذا أحضرتِ لنا يا أمِّي؟

تبتسمُ و تقول: كلَّ شيءٍ يا حبيبي.

تلتفتُ إلى زوجِها: كيفَ حالكَ يا أبا محمَّد؟

–           آااااااااااه…الحمدُ لله.

توزِّعُ بعضَ الحلوى على أبنائِها، ثمَّ تضعُ المقلاية على مدفأةِ الحطبِ، و فيما تلقي السَّمكَ فيها، تنظرُ خلسةً إلى زوجِها فتلمحُ عاصفةً في وجهِهِ أشدَّ من تلكَ التي تهزُّ الخيمةَ و الأوتادَ.

–           إييييــــــــه يا أبا محمد..لا بدَّ أنَّكَ جائعٌ..أعرفُ غضبَكَ حين تكون معدتُكَ فارغةً…تَهُمُّ بالضَّحكِ، لكنَّ وجومَهُ يبترُ ضحكتَها بقسوة.

–           هيَّا أحبَّتي، تناولوا السَّمكَ الطَّازجَ…إنَّهُ لذيذٌ و مفيد.

يبتسمُ الصِّبيةُ..يحيطونَ بالقصْعَةِ، يُطالِعونَ ما فيها بشغف.

تحملُ سمكةً صغيرةً، تضعُها عنوةً و بصمت- لقمةً لقمة- في الفمِ الشاردِ مع العينين و الخيال.

فجأةً يستشعرُ برودةَ يديها..ينظرُ في عينيها، فيرى فيهما تلكَ الأيامَ الجميلةَ، في سنواتٍ مضَت، لكنَّهُ يلمحُ انطفاءَ ذاك البريقِ الذي لطالما تميَّزَتْ بهِ حبيبتُه.

هاتان اليدان الباردتان تَخِزَانِ قلبَهُ بأشواكٍ ملتهبةٍ..يتذكَّرُ عندما تزوَّجا..لقد وعَدَها بالسَّعادةِ و الهناء.. لم يخطرْ ببالِهِ أبدًا أنَّهُ سيصبحُ ذاتَ يومٍ عالةً عليها…بلهفةٍ يمسكُ يديها، يبثُّ أنفاسَهُ الدافئةَ فيهما، يقبِّلُها في غفلةٍ من الأولادِ، يودُّ لو يحتضِنُها بقوَّة، لو يلفُّها بساعديهِ القويّتِين..تغمضُ عينيها، و تذوبُ مع الحرارةِ التي تسرَّبَتْ إلى أوصالِها، فأنسَتْها تعبَ اليومِ و بردِهِ القارسِ..يتنبَّهانِ لصوتِ ابنتِهِما الكبرى: أمِّي هل آخذُ الصُّحونَ للجلي؟

ـ ها…لا يا عمري، اتركيها…فقط اغسلوا أيديكم…أنا سأقومُ بكلِّ شيءٍ.

تسحبُ يديها من بينِ يديهِ بصعوبة، يبتسمُ لها، فتنهضُ بوجهِها المحتقنِ بشدَّة، بينما يستمرُّ هو في ملاحَقَتِها بنظراتٍ تَشِي بالكثير.

في الخارجِ استمرَّتِ الرِّيحُ تغنِّي مواويلَها الحزينةَ، و تضربُ بسياطِها الباردةِ، حتى ليشعُرُوا و كأنَّها ستنتزعُ الخيامَ و تجعلُهم عراةً تحتَ ليلةٍ تستعدُّ للثُّلوجِ.

لأوَّلِ مرَّةٍ منذُ شهورٍ تغيِّرُ مكانَ نومِها…دثَّرتِ الأولادَ بكلِّ ما توفَّرَ لديهِم من أغطية، و اكتفتْ مع أبي محمد بالقليلِ منها…وضعَتْ رأسَها على صدرِهِ، ثمَّ سرحتْ بخيالِهِا…مدَّ أبو محمد يديهِ يُداعبُ خصلاتِ شعرِها، لم تعدِ العاصفةُ موجودةً، بل تحوَّلَتِ الخيمةُ قصرًا، و حديقةً غنَّاءَ، بأزهارٍ جميلةٍ و شمسٍ ساطعةٍ دافئة.

على حينِ غِرَّةٍ دوَّتْ صيحاتُ استغاثةٍ قويَّة، كانتْ قريبةً جدًا من خيمتِهم…اندهشا، لم تمهلْهُما النَّارُ التي شبَّت في خيمة جيرانِهِم أيَّ وقتٍ، فقد انتقلت بلمحِ البصرِ إلى خيمتِهم.

صرخَتْ أمُّ محمد..صرخَ أبو محمد، صرخاتٍ شقَّتْ صمتَ الليلِ و عتمِه، اختلطَ  صراخُهما باستغاثةِ أولادِهِما..قفزَتْ كاللبؤةِ إليهِم، حيثُ كانتِ النارُ تمتدُّ من جهتِهِم، و تعلقُ بأغطيتِهِم و أجسادِهمِ الغضَّةِ، حاولَتْ تخليصَهم من ألسنةِ اللهبِ، و هم يصرخونَ، يقفزونَ، و يستنجدون…زحفَ الأبُ العاجزُ أيضًا بكلِّ قوَّتِهِ نحوهُم…لكنَّ النَّارَ ما لبثتِ أن عَلِقَتْ بالجميع.

هَرَعَ أهلُ المخيَّمِ يحاولونَ إنقاذَهم، إلَّا أنَّهُ و في غضونِ دقائقَ قليلةٍ، كانتِ النَّارُ قد التهمَتِ الخيمةَ بمن فيها.

عويلُ الأجسادِ المشويَّةِ يضيعُ في ظلامِ الليلِ، و قبلَ أن يقطعَ حدودَ المخيَّمِ يسكنُ، مثلَ كلِّ شيءٍ تحتَ تساقطِ الثُّلوجِ الكثيف.

في الصَّباحِ هدَأتِ العاصفةُ…

في زاويةٍ قصيَّة، كانَ هناكَ بعضُ الغبارِ الأسودِ ممتزجًا بالبياض فوقَ أرضٍ قاسية.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

تعليق واحد

  1. في الخارجِ استمرَّتِ الرِّيحُ تغنِّي مواويلَها الحزينةَ
    الله !!!!!!!!!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!