شجرة ميلاد المعرّيّ / بقلم : د . مهنا بلال الرشيد

( استفاق أبو العلاء من غفوته بعد ألف عام، أحسّ بالبرد ينخر عظامه في صبيحة ميلاد العام الجديد، لبسَ عباءته، ولفَّ على رأسه عمامته، وأراد أن يحتفل في هذا الميلاد بشجرة الزّيتون في الكَرْم كعادة المعرّيّين. دلف باب بيته الّذي صار مركزًا ثقافيًّا للتّصفيق وتشويه الحقائق؛ لكنّ الثّلج المتراكم على مدى ليل شتويّ طويل فوق الأرض جعل يتجمّع خلف الباب كَتَلّةٍ صغيرة تعترضُ درب المعرّي؛ فشاهد بنور بصيرته بياض الثّلج النّاصع، لكنّ قميص الطّفولة الأحمر عصف بكيانه مثل كابوس مرعب. عزَّ عليه أن يفارق محبسَه الثّاني ولو لبرهة قصيرة، فأطرق قليلًا، ثم شمخ في وجه الرّيح قائلًا: من حقّ الأعمى أن يحتفل ولو ليوم واحد، حتّى وإن كان الجوّ عاصفًا، ابن المعرّة لا بدّ له أن يحمي كرْمَه في وادي الضّيف، فقد تستغلُّ العاصفةَ، وتتسلّلُ إليه دِبَبَةُ موسكو؛ فتعيث فيه فسادًا، وليس المعرّيّ من يخشاها أو يخشى برد الثّلوج. مسح نُدَفَ الثّلج المتراكم فوق جبينه، أحكَمَ قبضتَه عليها حتّى ذابت، ثمّ فتح كفّه؛ فتراءى له فيها ماء المعرّة الّذي طالما ارتوى من سلسبيله، وتغنّى فيه، وحنّ إليه؛ فصاح: (إنّه كَرْمي)؛ قالها، وهز رأسه؛ فتطاير الثّلج حول عمامته كشظايا القنابل الذّكيّة، ثمّ ارتشف الثّلج المُذاب في يدِه، وقال: نعم، سأحتفلُ بك يا شجرة الزّيتون رغم كلّ الصّعاب! أثارتِ الرّيح الّتي تلفح عباءته غضبَه بعدما توجّه إلى كرمِه في وادي الضّيف شرقَ المعرّة؛ حيث سلك الطّريق الّتي قادته في رحلته الشّهيرة إلى بغداد قبل حرب الخليج الثّانية بألف عام، فشمخ في وجه الرّيح رافعًا عكّازته كسيف عبّاسيّ معقوف، أو كبندقيّة روسيّة لم تعد تميّز ثلوج موسكو من نُدَفِ القطن في حقول المعرّة، فغدت تحت الثّلج سلاحًا أبيض، فاعتزّ المعرّيّ بها، وأحسّ من خلال رفعِها بنشوة تشبه نشوة الدون كيشوت حين كان يصارع طواحين الهواء. جَدَّ السّير نحو الكرم، أصواتُ ذرّات الثّلج تحت نعليه تصدرُ صوتًا كترانيم جنائزيّة، أو كرميم عظام تتحطّم تحت الأنقاض في أواخر وجودها البيولوجيّ قبل أن يحييها الله من جديد؛ لكنّ شجرة الزّيتون الّتي اعترضت طريقه، وارتطمت بها ناصيته في رحلة بغداد الشّهيرة لم ترتطم بها من جديد. -أَخانَني الحَدْسُ أم أنّي ضَلَلْتُ الطّريق؟ كيف يحدثُ هذا، وريح الشّمال تقودني كبوصلة فينيقيّة؟! حين نزل المعرّيّ في الوادي، استعاد ثقته ببصيرته الّتي لا تخونه أبدًا، وشعر بشيء من دفء الأرض وحنانها، رغم كلّ البرد، عندما اشتمّ رائحة الزّيتون الأسود الزّكيّة كدماء الشّهداء في بلادي، لا يمكن للمعريّ إلّا أن يصل إلى كَرْمِه حتّى وإن تشابهت تحت الثّلج كلّ الدّروب. ها قد ارتطمت ناصيتُه بشجرة الزّيتون من جديد، فاختلطت دماء الجبين بزيت الزّيتون، كانت شجرة الزّيتون تتلألأ كشجرة الميلاد، فوقها سَقْفٌ من ثلج أبيض طبيعيّ، أجمل بكثير من سقف وطن مصنوع على حجم الدُّمى الصّغيرة، وتحت سقف الثّلج تعيشُ حبّات الزّيتون من كلّ الألوان؛ الأخضر والأحمر والأسود، كما تمتزج كلُّ الألوان في حبّة واحدة بعض الأحيان. استفاق وجدان المعرّيّ، كما يستفيق المحاربُ بعد غفوة في ليلة طويلة من ليالي الحرب، فتداعت في ذاكرته الصّور والأخيلة، وفاضت قريحتُه، وراح يقول: يا واديَ الضّيف حُيِّيتَ من حقلٍ ومن وادي وشبيهٌ صوت النّعيّ عندي إذا ما قِيسَ بصوت البشيرِ في كلّ نادِ عندها اختلطت ذرّات الثّلج بقطرات المطر، فرفع زندَه يهزُّ بعكّازته المعقوفة، وراح قول: فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليستْ تنتظمُ البلادا فارتدّ الصّدى من كلّ جَنَبَات الوادي، وكأنّ أشجار الزّيتون جوقة تردِّدُ الصّوتَ في واحدة من تراجيديّات سوفوكليس: فلا سقطت عليّ ولا بأرضي قذائفُ ليستْ تنتظم البلادا حينها ارتجف المعريّ، وكأنّه لم يعد يحتمل البرد الّذي اعتاد عليه منذ عصور، فسقطت العكّازة من قبضته فوق زنده، وراح يكسر أغصانًا قلَّمَها من شجرة الزّيتون في موسم التّقليم الماضي، وبدأ يجمعُها، ويُضرم النّار فيها، فعلاها دخان أسود داكن لا بياض فيه، حينها بدأ الشّعور بالدّفء الممزوج بخيانة الأغصان يتسلّل إلى عظام المعرّي، وتثاقَلَ الزّمن في وجدانه كثقل النّار على ذرّات الثّلج؛ فأسندَ ذقنَه على قوس عكُّازته، وراح في نفسه يقول: متى يذوب الثّلج، وتنطفئ النّار؟ ويزهر ربيعُنا الموعود بعد شتاء طويل؛ لأزرع أشجار الزّيتون على ضفاف طريق بغداد من جديد؟ ولم يقطع نجواه مع نفْسِه إلّا أزيزُ الرّصاص الّذي راح يعلو معلنًا ولادة عُمْرٍ جديد….

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!