صائد الحورِيّات/بقلم: طارق قديس 

لصحيغة آفاق حرة 
——————–

وصلَ جُنَيْد إلى مقهى الزعفرانِ. شقَّ طريقه إلى الطاولة الخشبية المستطيلة في آخر القاعة ذات المقعدِ الجلديِّ الأحمر حيث خُصِّصَ حيِّزٌ لغير المُدخّنين. أسندَ ظهرَهُ هناك وأشار للنادل بالحضور. طلب منه فنجان قهوة إسبريسو، وفطيرةً مُحلّاة من الكِريما.  

لقد وصلَ مبكراً قبل توقيتِ وصولها بساعةٍ كاملة. سحبَ هاتفِه من جيبِهِ. نقر شاشتَهُ وتوجَّهِ إلى المُفكِّرَة الإلكترونية. راجعَ ملاحظاته التي تصيَّدَها بعَناءٍ شديدٍ بعد أن تحرّى عنها طيلة سبعةِ أيامٍ مُتتالية: اسمها، سِنُّها، مهنتُها، حالتُها الاجتماعية، اسمُ المؤسسة التي تعملُ لديها، ومعلوماتٌ كثيرةٌ أُخرى، منها أنها اعتادت ارتياد هذا المقهى بعد انتهاء دوامها في المكتب مباشرة لتتناول كوباً من قهوتِهِ اللَّذيذة منه، إلا أن َّشيئاً واحداً بقي مُسْتعصياً عليه وسط الكمِّ الكبير من أخبارها التي صَبَّت في حجره: صورتُها! فَصُوَرُها على صفحتها في الفيسبوك محجوبة، وفي كل المواقِفِ التي سنحت له للتَّلَصُّصِ عليها فيما هو يقتِفي أثرَها على مدارِ الأسبوع صَدَفَ بأنها كانت مُكَمَّمَة الوجه. 

لقد شكَّلت الكِمامةُ على فمِها وأنفها جِداراً ما بينَهُ وبينها منعَهُ من رؤيةِ معالمها بأكملِها، لكنه رَضِي بما رأى من مفاتِنِها الأخرى، والتي نابَتْ بجاذبيَّتِها عما احتجبَ من جواهِرِها المكنونَة. ظلَّ خَيالُه منذ أن ظهرتْ في الطاولة المقابلةِ له قبل أسبوع مُلتَصِقاً بِحُضورِها. ظلَّ يُعاقُر ُصورةَ أجزاء جسدِها كما عَلِقَتْ في عينيه كطالبٍ نَجيبٍ يذاكرُ فروضَه بِحِرْص، 

راجع المعلومات للمرة العاشرة، الاسم: “سِوارُ، السنُّ: خمسة وعشرون سنة. الحالة الاجتماعية: عزباء، المهنة: سكرتيرة في مكتب مُحامٍ مغمور..”. ولما أنهى تقليب حصيلة مُراقبته رمى الهاتف إلى الطاولة، ورجع بظهره على المَسْنَد، وغاص بأفكاره في ما سجَّلُه من سطور في ذاكرة هاتفه وهو يتعقَّبُ أخبارها والأماكن التي زارَتْها في الفترة الماضية.

عاد بذاكرته إلى المشهد الأول يوم وقفت أمامه تُجادلُ النادل عن خطأ في طلبها، قالت له بعصبية: “لقد طلبت فنجان قهوة أمريكية ولم أطلب نيسكافيه!” توقَّف عن الحديث مع صديقه على الهاتف وكأن لسانهُ أصابَهُ العَطَب. ظلَّ  صديقه عبر السماعة يناديه دون أن يحرِّك صُراخه انتباهه. شدَّتْهُ قامتُها الطويلة، وشَعْرُها الأشقر، وَوَجْهُها الوَضّاح المستدير كَقُرْصِ الشَّمس. ذابَ في مُحيطي عينيها اللّامعتين كقِطْعَتي كريستال. أحس بنصل بهائها يُعْبُرُ في قلبهِ، وبأنه عثرَ على أنشودَتِهِ بين النِّساء، تلك التي بإمكانها أن تمحو العبثية من حياته، وتَصِلَ بالعلاقات العابرة فيها إلى خطِّ النِّهاية، وتَكْنُسَ من ذكرياته فتيات الماضي إلى العدم.

رنَّ جرس الهاتف. رمق الرقم الظاهر على الشّاشةِ. إنه صديقه يهاتفُهُ مرة أخرى. لم يجبه وبقي عالقاً في ملكوتِ عينيها، أما هي فقد تناولت كوب القهوة الكرتوني من النادل، وتخطَّت باب المقهى المفتوح مُعلنةً رحيلها. أربكَهُ خروجها المفاجئُ، لكنه لم يتركُ خيوط الحزن تسنجُ شباكَها في داخِلِهِ، لكنَّه في لحظةٍ قرَّر أن يدخلُ إلى عالمِ الحماقات، قرَّرَ اللَّحاق بها، وأن يجعلَ من نفسِهِ ظلّاً آخر لها، يتبعُها أينما حلَّت وأينما ارتحلت، حتى ترسُوَ مشاعرًه على برِّ الأمان، ويتيقَّنَ من أنَّ قدميه لا تجريان في طريقٍ مسدود.  

بعد متابعةٍ حثيثة لتنقُّلاتها عرفَ أين تسكن. صادق حارس العقار لأجلها، ألقمه خمسون ديناراً في يده ليبوح له بما يعرفهُ عنها وعن عائلتها. أفرغ الحارسُ ما في جُعْبَتِهِ من أسرار. أهمُّها أنها ما زالت غير مرتبطة. تسرَّبت سعادةٌ غامرة إلى صدره لدى سماعِهِ هذا النَّبأ، وقرر بعده أن يضعَ حدّاً لحماقته بالسعي وراءها كمُتحرٍّ  يَفُكُّ طلاسِمَ قضيَّةٍ غامضة.

لم ينَس أن يسأله إن كان هناك من تقدَّم لطلبتِها في الماضي، فقال له الحارس أن الكثيرين أتوا لطلبها، لكنَّ العرسان كانوا يأتون ولا يعودون. يخرجون من العمارة مهرولين كأن أحدهم يلحقهم بعصا. لم يُعِر اهتماماً لذلك، ختم معه اللِّقاء، فشكرهُ، وأثنى على تعاونه، ثم غاب في الزِّحام كالشَّبح.

أراد في قرارة نفسه أن يُنفِّذَ وصيةَ أبيه الذي عادَ من أجله إلى الوطن، وخَلَّفَ عمله ونزواته في الغرب وراء ظهره، ليقفَ على معاناته من مُضاعفات إصابته بمرض كورونا طيلة ثلاثة عشر يوماً في مستشفى الأمير حمزة، قضاها على جهاز التنفُّس الصِّناعي حتى كفَّت رئتيهِ عن الحركة وقضى نحبه. أراد أن يستجيب لطلبه بأن يستقر في حضن امرأة واحدة، أن يتزوج، وإن حدث ذلك في بلاد الاغتراب، حتى يرتاح في قبره. 

لا يعلم لماذا وهو يستعيد مشاهد مُتابعته لها عن قرب في يوم التَّحري الأول حين قصدت زيارة طبيبِ الأمراض الباطنية خطر بباله فيلم (البحث عن فضيحة) للفنّان عادل إمام، وعلت خدّيه ابتسامةٌ خافتةٌ! ربما لأن الموقف آنذاك تماهى إلى حدِّ التطابق مع ما حدث للمُمَثِّل الساخر جورج سيدهم الذي لعب دورَ عبد العظيم في الفيلم حين أعجبته امرأة فاتنة، وصمَّم أن يتعقَّبها حيثما ذهبت حتى إلى عيادةِ طبيب الأسنان، مع فارقٍ مهم وهو أن جُنيد أراد كتابةَ خاتمةٍ مُغايرة لخاتمة “عبد العظيم” الذي قاده استعجاله لاقتحام منزلها وطلبِ يدها من زوجها وكلُّ ظنِّه أنه يطلبُ يدها من أبيها! 

لقد شاهد هذا الفيلم في طفولته، وشاهد مقلباً مُشابهاً حدث مع أحمد رمزي في فيلم (السَّبع البنات)، يوم زار  الشركة التي يعمل فيها والد محبوبته للتقدُّم لخطبتها منه، ليجد نفسه مع شخص آخر، ثم بيتٍ آخر، ففتاةٍ أخرى تُعاني من اختلالٍ عقلي، وذلك كلُّه لوجود تشابُهٍ في الأسماء بين اسم أبيها “منصور أفندي” موظف الأرشيف، و”منصور بيه” مدير الشركة، إلا أن جُنيد اتخذ الحيطة في التقصي حتى لا يقع فريسة معلومةٍ ناقصة، أو تفصيلة سها عن اقتنصاها دون قصد.

انقطع حبل مراجعته على صوت النادل وهو يضع فنحان القهوة على الطاولة، وصحن البطاطا المقلية. تناولَ رشفةً من القهوة، ثم فتح ألبوم الصُّور في ذاكرة هاتفه، بدأ يُقلِّب صور حبيباته السابقات: لوليتا، وسمانثا، ودوروثي، وكأنَّه يُلقي عليهنَّ نظرة الوداع بعد أن استعدَّ لأن يطوي صفحاتهن إلى غير رجعة، ويرهنَ مصيره في يد امرأة واحدة فقط. تذكرهن بفرح، وتذكَّر  شغفه لاصطياد الجميلات في الأماكن التي امتازَتْ بِوَفْرَةِ الوجوهُ الحَسَنة، والأنوثة الكَثيفة، أماكِنَ ترمي في مياهِها السِّنارة لتَخْرُجَ بمشبكها حورِيَّة من كتابِ ألفِ ليلةٍ وليلة، وقد كان شعاره يومَها: “الحياةُ  لا تُساوي لحظة حُبٍّ عاصفة في حضن امرأة”.

عرَّج بشروده على حديثه مع صديقه “برهان” حينما سردَ له فُصولاً من بطولاتِهِ في غَزْوِ النِّساء. روى له أن كافة فرائسه وَقَعْنَ في شِباكهِ من أول نظرةْ، وأنه لم يبذُلْ كثيراً من العَناء للحصول على موافقتِهِنَّ للقاء في موعدٍ آخر، والسببُ مردُّه فقط إلى وَسامَتِه! فكلُّهُنَّ كُنَّ ضحايا مظهرِهِ الأنيق، وعضلاتِه المفتولة، وقامتِه الطويلة، وعينيه الخَضْراوَيْنِ. تابع قولَهُ بأنَّهُ لطالما اعتدَّ بنفسهِ أمام الجِنْس النّاعِم، خاصةً بعدَ أن خلع عليهِ أصدقاؤُهُ الأجانب لقب”صائد الحسناوات”، والذي تطوَّر مع تكاثر تجاربه الناجِحَةِ في حَقْلِ الجَميلات إلى “صائد الحوريات”.

استرجع بوضوح ما قاله آنذاك عندما شكا له عجزه عن الاشتباك في علاقة محمومةٍ مع امرأة في بلاده منذ أن وطئتْ قدماه أرض البلاد منذ قرابة الأربعة أشهر، وقد صرَّح له بوضوح: “بناء الجُسورِ مع المرأة في الشَّرْق ليس سهلاً”. قال ذلك فيما عيناهُ مُنَكَّستان في الأرض. وقد بدا تائهاً في حُزْنٍ ثقيل. 

طرد هذه الفقرة الطويلة من الاستذكار  من ذهنه. دفع المقعد عنه إلى الخلف. انتقل إلى الحمّام باندفاع. فتح المقبض الأيسر للمغسلة، دفق من الصنبور ماءٌ فاترٌ شطفَ به وجهه. مسحَهُ بباطن كفِّه. هالَهُ منظَرٌ غريبٌ  في مصرف المغسلة، خُيِّل إليه أنه رأى وجوه حبيباته تدور مع دوران الماء في قعر المغسلة، وتتوارى في جوفه كما تتوارى الشمس خلف بُرْجٍ شاهقٍ من أبراج نيويورك الشاهقة. 

رجع إلى طاولته وقد خالجهُ ارتياحٌ غامر ، شعر أنَّه بخفَّة الريش، وأن وجدانه قد أصبح فارغاً ومهيَّأً لاستقبال تلك الفتاة التي ستملأه بالمحبة من جديد. التقط من طحن البطاطا إصبعاً طويلاً، وقذف به إلى فمه، مضغَهُ باستمتاعٍ، وأتبعَهُ بإصبعٍ آخر، ثم نظَّف طرفي فمِهِ بالمنديلِ الورقي المطوِّي بجانب الطبقِ على شكل مُثلَّثٍ متساوي الأضلاع.

في هذه الأثناء دلفتْ من المدخل وشقَّت طريقَها بين الزَّبائن نحو منطقةِ “الكاش”، تحدَّثت مع الموظف ودلَّت بسبابتِها على منطقة المشروبات الساخنة، فضرب الموظف على ماكينة النقد، ثم ناولته بطاقتها المصرفية. حشرها في ماكنة السحب الائتماني وضغط على الزر الأخضر حتى خرجت منها ورقة السحب، فأعاد لها البطاقة ونسخة من الفاتورة، ثم توجَّهت إلى منطقة المشروبات، فأمسكت بالكوب الساخن فور جُهوزِهِ، وحثَّت خُطاها للانصراف.

وقبلَ أن تهُمَّ بالانصراف استجمَعَ ما أوتيَ لديه من شجاعة، هزَّ طولَهُ وانتفضَ من سكونِه، وسرى نحوَها حتى وقف حائِلاً بينه وبين بوابة الخروج. فاجأه مظهرُها الساحر  ببلوزتها الكتان الزرقاء طويلة الأكمام، وفتحة صدرها المنسوجةِ على شكل الرقم سبعة، أطاح بنطلون الجينز الأبيض المفتوحِ من جهة الرُّكبة صوابَهُ وقد ضبط مَقاس خصرها بالتَّمام، أما هي فقد خالتهُ عابراً في الطريق فحاولت تخطيه، لكنه صدَّها عن الالتفافِ عنه مما أدخل الريبة إلى قلبِها.

وقبلَ أن تحسم الموقف بشتْمِهِ وقد أكلت الحيرةُ وجهَها بادرَها بإلقاء التحية. وعرَّف عن نفسه، واعتذر لها عن سوءِ تطفُّلِهِ. لم تفهم ما يريد حتى طلب منها دقيقتين للحديث في أمرٍ جسيم. 

رفضتْ طلبَهُ وتابعت طريقها، إلا أن رجاءه اللَّحوح لاقى صدىً لديها بعد أن أكَّد لها أنها لن يُهْدِرَ من وقتها أكثر من دقيقتين، حينها مشت معه إلى الطاولة بحذر. 

مشتْ أمامه وهو مأخوذٌ بِضخامة وِرْكيها. رافقها إلى أن جلست في الكرسي المقابل له، ثم استقر في مجلسه. تعثَّرَ في كلماتِهِ مع أنه اعتاد على مُناوَرَةِ الجنس اللطيف. شتَّتَ ذهنه تكويرُ نهديها من تحت اللِّباس، وصَدْرُها المرتفع وكأنها أوَّل حسناء تَلْمَسُ بجاذِبيَّتِها جدار فُؤاده. 

استعادَ شيئاً مما بقي من جسارة جُنيد القديم ودخل في صُلْب الموضوع، شرح لها عذابَهُ في طُفولتِهِ، وما واجهَهُ من ضنكِ العيش في كنفِ أبيه، وكيف عافرَ في مقاومِةِ الواقع الأليم حتى تمكَّن من السفر إلى البعيد، واستمسكَ بالفرصِ القليلة إلى أن ضحك الوجود، وتحسَّن وَضْعُه، وقدَّم له المنفى بمُغْرِياتِه من راحة البال والمالٍ والجنسية صكَّ أمانٍ من قسوة الفقر وأنيابه. 

صارحها بملاحقته لها طوالَ الأسبوع الماضي، ونشر في حُضورها حقيقة مشاعره، وإعجابه بها. أحمرَّت وجنتاها. لم تعرف كيف تبدأ، وبصعوبة التقطت طرف الحديث وجارَتْه في النِّقاش على خجل.

استطاعَ أن يكسبَ وُدَّها في ربعُ ساعة، أن يُطوِّعَ من جمودِها في النِّقاس، واقتصادِها في الكلمات. وجدَ في الإطالة من أمَدِ الحوار فُرْصةً لتأمُّل بشريتها النَّقيَّة، وطلعها البهيَّة،وقدِّها المكتنز . وشعرِها الذي توزَّع فوق جبينِها على هيئةِ قوسٍ بديع.

مع وقت الزمن نسيَ شرُبَ قهوتِهِ، وكذلك هي. دعاها لتناولِ قهوتها فأجابتْهُ في القبول. طارَ انتشى بالسُّرور لما رآها ترفعُ الكوب إلى الأعلى وتتحفَّزُ لخَفِضِ كِمامَتِها إلى الأسفل، وقد اقتربت صورتها بعدَ جُهْدٍ مُضْنٍ من الاكتمالِ في ناظريه، وقد حسب من حظِّه العاثر أنه ربما تزهقُ روحُه قبل أن يُكَحِّل جفونَه بمرأى شفتيها.

نزعتْ عنها الكِمامة بعد طول انتظار، دلَّتها إلى عُنُقِها. حدَّق فيها بذهولٍ مَهول. تسمَّرَ في مقعده. سالَ منهُ العرق. شعرَ بالجفافِ في حُنْجرته. بلعَ ريقه ورشف رشقةً مُرْتَبِكَة من القهوة. زاغت عيناه في السَّقف، أحسَّ بهما مُلوَّثتين بمنظرٍ خادش. صدمَهُ شكل أنفها الأفطس، وفمِها المملوء بالأخاديد والحُفَر، وأسنانها المعوجة التي تزدحم في مقدمة فكيه، وما جاورَهُم من ذقنٍ طويلٍ مَلْوِيٍّ للأعلى كإصبع موز صومالي. 

إربدَّ وجهُهُ شُحوباً. تجمَّعت الكوابيس في مقلتيه، وانطفأ نورُهُما في آمالٍ مُنْهاره. لم يتوقع أن تحت الكمامة القماشية تختفي كلُّ هذه البشاعة. أيقن الآن سبب استنكاف العرسان عن طلب يدها. وبنا مشهد هروب العِرْسان من باب العِمارة كما وَصَفَهُ الحارس في جُمْلَةٍ، وقد نفذ الواحد منهم بجلده. فكَّر مليّاً في سبيلٍ للانسحاب من الورطةِ التي عَلِقَ في شركِها، وقد تأكَّد وقتها أنَّه قد سقطَ في نفقٍ مُعتم.

رمقت في انفعالاتِه اضطراباً فسألته عن سبب تبدُّلِ هيئتهِ. دعكَ ذقنهُ. انتظر انفراجَ فكرةٍ تُضيئُ في عقله المُعَطَّل لهروبِهِ هو الآخر. أنكر  ما قالته، واستأذن منها لزيارة الحمام، فرحَّبتْ بذلك، ورجعت تشرب قهوتها الدافئة وهي تتابع خُطواتِه.

بعدَ إطراقٍ شديدٍ توقَّف عن المشي في منتصف الطريق. تنبَّهَ إلى مخرج إضافي في الزاوية الملاصقة لركن المُدخِّنين. حينها فَرَضَ الظَّرفُ عليه حَلّاً لا يحتاجُ إلى هَدْرِ  الزَّمن في تحليلٍ مُشتَّت. حدَّث ذاتَه بصوتٍ خفيض: ” يا فرجَ الله!”، ثم عدا نحو الباب كرمحٍ قُذِفَ في الهواء. استعجل انصرامَه بدهاء قبل أن تلحَظَ اختفاءه. عبرَ ما بين السيارات المُصْطَفَّة في ساحة المقهى الخارجية، ثم أفلتَ قدميه للركض في الشارع الرئيسي مُحاولاً استدراج قوِّة خفيَّة في بدنه على الجَرْيِ لم يختبرها منذ أيّام الدِّراسة. ما زالت المَخاوِفُ تُطارِدُهُ، وأماراتُ الحياة تَعودُ إلى جسدِهِ ببطء. 

التفَّ بعنقه يريد أن يرى إن كان من يقتفي أثره. لم يرَ أحداً . بَهَرَتْهُ أشعة الشَّمس في ذُورَتِها، وصَعَّبَت من رؤيَتِه للأشياء. اختلَّ توازنُهُ بغتَةً. مادت الأرض من تحته. انفجرَ وَجعٌ في مؤخِّرَة جمجمتهِ، ثم غاب عن الوعي دون أن يعلم ما حدث.

بعدَ حين، فرَجَ مقلتيه بتدرُّج. لم يدرك أين هو. كلُّ ما حوله أبيض. وهو ممدَّدٌ على سرير في غرفةٍ لم يألفها. حاول الحركة لكن الألم في نافوخِه أقعده في سُباتِه. عرف آنذاك أنه في مستشفى ما. دار  بوجهه صوبَ يمينه فأزعجه ما رأى هناك! شاهدها تجلس على مقربةٍ منه، والجزء السُّفليُّ من وجهها مُسلَّطٌ إلى حدقتيه بما اختزن فيه من دمامة الخلق أجمعين. قالت له: “حمدا على سلامتك”، لم يجبها ورد لها عبارتها بسؤال مقتضب:  ” ما سبب وجودي هنا؟ فأردفت: “يبدو أنك قد تعثرت في قشرة موز على الإسفلت. ولا أدري ماذا دهاك لتخرج من المقهى !”، استدرك بتعب كلماته وقال: ” رغبت فقط ان أحضر  شيئا من السيارة”. قال هذا وعاد إلى سكونه وهو  يحسب أنَّه رهنُ كابوس قبيح قد داهمهُ في ليلة سوداء! ظنَّ ذلك لولا أن أحس بيدها تهبط على ظاهر يده، ويبثُّ فيها دفئاً كاذباً لا يُقوي على طردِ نفورِه منها. عندها أصبح من المُلِحِّ أن يبدأ من الساعة رحلةَ البحثِ عن طريقةٍ مُستجدَّة للخروج من مأزق الواقع اللَّعين. 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!