ليلى وحكاية الألف ليلة (الجزء الثامن)/ بقلم:عبدالباري المالكي

لصحيفة آفاق حرة

*****************

مازلتُ أتذكر أني اتصلتُ بليلى عدة مرات بالهاتف ، لكنها لم تجب ، ولم أكن أعلم السبب الحقيقي ، أو … فلنقل أني لم أكن أدري بما يدور بداخلها من أفكار وهواجس بعد أربع سنوات تقريباً من علاقة وطيدة كنت أراها حباً ، ولكن تصرفاتها بعد خطبتها — التي لم أكن أعلم بها للآن —   كانت توهمني خلاف ذلك لما رأيتُ منها من إعراض لي وجفوة …

وذات ليلة من الليالي الحالكة ، وفي وقت متأخر رنّ جرس هاتفي ، لم أستوعب ذلك فقد رأيتُ اسمها بالهاتف وصرخت ..

:- ياالله .. إنها هي من تتصل بي …

فرحتُ فرحاً شديداً ولم أصدق أنها تتصل بي ، فهي قد أصبحت في الآونة الأخيرة كالعملة النادرة .

رفعتُ  السماعة وكان هذا الحوار البارد ، والذي هو أشد برودة من شتاء بغدادي …

:- ألو … مساء الخير ياجعفر .

:- ألو … مساء النور يا ليلى ، كنت انتظركِ  أياماً  ولياليَ ، لمَ هذا الغياب ؟

:- أريد أن أراكَ غداً ياجعفر .

:- تتدللين ياليلى … سنلتقي في نفس المقهى المعتاد الساعة العاشرة صباحاً .

وبقيتُ  تلك الليلة أفكر وأفكر ، كيف سألتقيها ؟ بأية شفتين سأحدثها ؟ بأية عينين سأراها ؟ بأية أذنين سأسمعها ؟ بل بأي أنف سأشم عبيرها الفواح ؟ .

رحت أصوغ التعابير مع نفسي جملة جملة ، وكلمة كلمة ، بل حرفاً حرفاً .

جلستُ على أريكتي المتواضعة ورحت أحاور ليلى وأنا أتخيلها جالسةً قبالتي في المقهى …

:- (أتعلمين يا ليلى أن لديّ قاموساً أدّخرهُ لكِ أنتِ فقط ؟ أنتقي منه مايناسب مقامكِ ، و يضاهئ نبلكِ ، و يوازي مشاعري نحوكِ ، حتى إذا لم أجد ما يليق بجلالكِ  ، وما يرتفع الى سموّكِ ، أرجعتُ  تلك الكلمات ، ورحتُ أفتش عن بدائلَ لها في قاموس غيرِه ، فإذا عجزتُ عن إيجاد ما يساويكِ شأناً  ، ويلائمكِ  قدراً ، رحتُ  أبحث في عالم الملكوت ، وشأن الناسوت ، عساني أفلح في تسطير جملة أو جملتين أفضي بهما إليكِ .

فالعاشق يا ليلى  لايكلّ من البحث ، ولايملّ من الانتظار .

ولعَمري يا حبيبتي … إني لأنتقي كلماتي تلك  بعد بحث يطول ، وانتظار مَهُول ، خشية أن لا يوافق مزاجكِ ذات مرة ، فآخذها بعناية الطبيب ، وأتناولها برعاية الرقيب ، كلمة كلمة ، أطليها بماء الذهب ، وأُنقِعها بماء الورد ، ثم بعطر البنفسج ، ثم بزهر الآس، ثم بالنرجس والياسمين ، ثم بألف نبتة من حدائق الروح ، وعذوبة البوح ، مرة بعد مرة ، فإن فاحت ، و شمّها المارّون عن بُعدِ أذرعٍ كثيرة ، صرت ُ أعاود الكرّة تلو الأخرى ، عسى أن يروق لك  عطرها ، ويعجبكِ شكلها ،  فإذا لقيتُكِ ، نثثتُها على رأسكِ كما تُنثّ الحلوى على رأس العروس  ، فيختلط عبق الورد بعطر جسمكِ الذي هو أشدّ  عندي من رائحة المسك والعنبر  .

فإذا فعلتُ بكِ ذلك  ، انسابت كلماتي حرفاً حرفاً ، على شعركِ الذهبي ، فأمسحه خصلة خصلة ، من جذره الى أطرافه ، يصطبغ بها كأن ْ  لا فرقَ  بين جدائلكِ ولون أشعة الشمس ،

فيحتار الرائي بكِ وهو يشاهدها تنسكب على عينيكِ وقد غطت حاجبيكِ الهلاليينِ ، ورمشيكِ الطويلين  ، فينصبغ جفناكِ بزهر الآس ، ووجنتاكِ بلون الورد ، وشفتاكِ بذات البنفسج ،

حتى إذا سالت على  أخمص قدميكِ ، صرتِ أشبه بملاكٍ لم يخلق الله لكِ نظيراً ، أو حوريةً لم يكن لكِ أيّ شبَه ) .

كانت هذه رسالة رتبتها  لها لأقرأها على مسامعها عند لقاء الغد …

لقد كانت  ساعات الليل ثقيلة عليّ ، كنتُ أعدها بأصابعي لألقى عينيها العسليتين … وآهٍ من عينيها .

كم تمنيتُ في تلك الساعة أن يحيل الله الليل نهاراً ، فأسرع  الى محالّ العطارين ، ومقرّ العرافين ، أتزوّد منهم تعويذة   أستعيذ بالله بها لعينيها الجميلتين ، ولأسرعت ُ إليها ببخور أمي أبخرهما به طوال نهاري …

لم أنم تلك الليلة … ولم أعرف الهدوء ، كان القلق يساورني ، والأرق كاد ان يقتلني ، فوالله .. لن أنسى تلك الليلة ما حييتُ .

صاح الديك ، وطلع الصباح ، فقفزتُ  من سريري وأنا متعب للغاية من السهر والتفكير ، ورحت أدقق النظر في ساعتي كل دقيقة ، وأتعجل عقاربها لألتقي حبيبتي ليلى بأرقّ عبارات اللقاء .

عجلتُ بنفسي الى ذلك المقهى الذي لم يّفتح بعد لأنني ذهبتُ إليه بشكل مبكر جداً ، إنتظرت ساعة حتى فتحه صاحبه ، فدخلته وكنتُ أول الوافدين إليه ..

كنت أراقب ساعة المقهى دقيقة دقيقة حين دخلت ليلى فيه بعد أن تأخرت عن موعدها عمداً .

جلست ليلى مقطبة الحاجبين ، عابسة الوجه ، وكأنها تجلس مع رجل لاتعرفه ، سلّمت عليّ ، ورددتُ  لها السلام بسلام العاشق ، وتحية الملهوف ، وأنا انتظر الفرصة لأقول لها ماحفظتُه بالأمس من كلمات لها .

قالت ببساطة لم أعهدها فيها من قبل …

: – جعفر … آن لك ان تعرف أني لست من العاشقين ، فافهم أرجوك .

قلت : – ماذا تقصدين ياليلى ؟

قالت : – أقصد انكَ تمضي وقتك معي في سراب .

قلت :- ومادار بيننا من قبل ياليلى ؟ كيف لك أن تفسريه ؟

نظرات طالت بيننا حتى تقرحت اعيننا من تلك  النظرات ، وكلام شبه عسل صاغته ألسنتنا ، و لاكته افواهنا وهثمته أضراسنا ، كيف لك ولي ان نفسره ؟ .

أ ما كان ذلك حباً ؟ أ كان كل ذلك  مجرد جلسات لاتعني شيئاً لكِ ياليلى ؟ ألم يكن عشقاً ؟

إذن اخبريني كيف أوحيتِ إليّ بذلك ؟ أم أني حلمتُ حلماً فكان اضغاثاً لا غير ؟

وتلك الخواطر التي كنا نتواردها سوياً في وقت فراغنا من الليل ؟ ماذا كانت تعني برأيكِ ؟ أ تظنين ان هناك من أوحى لي بعشقكِ لي سواكِ ؟

أبهذه البساطة ياابنة الأطايب تخبرينني ان لا قلب تملكينه ؟

وأن لا مشاعر تركبكِ ؟

أي جرمٍ هذا الذي ترتكبينه بحقي ؟ ثم تأتين وأنت تميسين ميس الظباء لتخبريني انكِ لستِ من العاشقين ؟

أيّ كبدٍ ياليلى فريتِه ؟

وأي فؤادٍ ذبحتِه بغير سكين ؟

محال ان تكوني أنت ليلى …

محال أن تكون هذه اليد التي تمدّينها إليّ الآن  هي نفس اليدِ التي مددتِها لي أول مرة …

محال ان تكون عيناك هما نفس العينين …

محال ان تكون شفتاك هاتان هما ذات الشفتين …

محال ان اكذّب نفسي في ما كنتُ قد سمعتُه منكِ من قبل …

محال ان أكذّب ما ورد في خاطري ، وما جال في خيالاتي ..

عبدالباري المالكي

عبدالباري قام بالإرسال اليوم، الساعة 5:09 م

محال ان اكون مخطئاً أيتها الراهبة فأوحيتُ الى فؤادي خطأً

أنكِ تعشقينني …

ثم علا صوتي قليلاً بسبب انفعالي وانا اكلّمها …

: – أخبريني أيتها الراهبة الجميلة …

هل كنتِ تكذبين عليّ … وحاشاكِ ان تكذبي …؟

أم كنتِ تشفقين عليّ من حيث لا ادري … ؟

وحاشاي ان يشفق عليّ أحد …

أ اخبرتُكِ ياراهبتي أني كنتُ ميتاً من قبل فرأيتِ أن تحييني على يديكِ بالوهم …؟

أم  سألتكِ إحساناً فتفضّلتِ به عليّ من رضابكِ ؟

أم  كنتُ ضالاّ فآويتِني الى قلبكِ ؟

أم رأيتِني آثماً فعمّدتِني بنداكِ ؟

أم كنتُ مستجدياً عطف أحدٍ فوهبتِني ما أستجديتُه من عطفكِ    …؟

أم  كنتُ أدور بين الأزقة والحارات بغير رشدٍ فوجدتِ أنّ من واجبكِ  أن تهدي مشرداً مثلي فهديتِني ؟

ام  رأيتِني جوّالاً فحزمتِ أمركِ لتسيري معي في تجوالي ساعة من الزمن ؟

أم وجدتِني فقيراً للعشقِ فرأيتِ أن تغنيني بالإيحاء   ؟

ام  رأيتِني محتاجاً فتكفّلتِ بحاجتي …؟

قالت : – جعفر … أرجوك  لم يكن هذا ولا ذاك ..

قلت : – وماذا كان ياليلى ؟ هيّا خبّريني ؟ أتراه  كان مجرد مداراةٍ منكِ لي ياليلى ؟  … كمن يداري أحداً في عمله ليتجنب خلافاً معه ، خبريني ياابنة عمران  ، أكان كل ذلك مداراة !!

مداراة لأي شيء؟ مداراة لمشاعري التي أسقطتِها على الأرض بين قدميكِ  ؟ مداراة لقلبي المسكين الذي قوّضتِهِ حتى صار مدمى .

ثم أكملتُ عتابي لها ولومي  وهي ساكتة تذرف الدمع على وجنتيها الورديتين :-

خبّريني ياليلى متى قسوتُ عليكِ لتداريني ؟

ومتى أسأتُ لكِ لتصانعيني   ؟

ومتى أحرجتُكِ في شيء لتجامليني ؟

ومتى اوقفتكِ موقف الضعف لتداهنيني ؟

ومتى أبلغتكِ مبلغ الرهَقِ فعزمتِ على أن تلاينيني …؟

ومتى أكرهتكِ على أمرٍ  لتلاطفيني …؟

أي حديثٍ لكِ بعد هذا ياليلى معي ؟

فوالله … لو كنتُ قد شككتُ في كل نساء الأرض من قبلُ ، ما شككتُ فيكِ .

ولو كنتُ في ما مضى قد ارتبتُ في أفعالهنّ ، ماارتبتُ في فعلٍ منكِ قد صدر ..

ولو ساء ظني بأجمعهنّ آنذاكَ لحسنَ ظني بكِ ياراهبتي ..

ولو كان قد أخبرني العذّال  أنكِ مخادعتي  لما أقررتُ لهم بخديعتكِ لي  …

ولو أرغموني يومها على التخلي عنكِ ماكنتُ لأتخلى عن ظفرٍ فيكِ . ولو صلّبوني  على جذوع النخل  ما كنتُ لأداهنهم فيكِ  ولو قطّعوا يديَّ وأرجلي من خلاف .

لكن … هيهات …هيهات …

فوالله ِ  … لقد فريتِ كبدي …

ووالله … لقد ذبحتِني بغير سكين .

فقد مات فؤادي … رحمة الله عليه .

تأوّهت ليلى كثيراً وكأنها زفرات موتها ، أو كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تنظر إليّ نظرة حبّ أصبح دون جدوى   .

ثم أخذتُ ورقة وقلماً و رحتُ أكتب لها  بعض ما يجول في خاطري ، ووضعته على الطاولة بين يديها لتقرأه على مهَلٍ وأنا أغادرها ، دون ان تنبس ببنت شفة والدموع تتدفق على خديها .

فكان هذا ماكتبته لها …

 

(رسالتي إليها …

أميرتي النبيلة …

ولقد دعَت ْ عرّافتي بَنات ِ الجنّ يَندبْنَني فيك ِ …

إذ ْ كنت ِ ضالتي َ الوحيدة َ التي أنشدَها قلبي …

فقد كنت ُ أكلّمك ِ كما تكلّم ُ الأنهار ُ شطآنَها ، والعيون ُ أجفانَها … وكنّا – أنا وأنت ِ – كالحنجرة ِ ومزمارِها توأمين ِ ، حين تنحدر ُ الدموع ُ من الخدين ِ …

وكنت ُ أحرَص َ عليك ِ من الصيارفة ِ  على دينارهم ، حتى أجلستكِ بين يديّ في حلمي ، فأفلتّ ِ مني في يقظتي .

ولقد استحلفت ْ عرّافتي بنات ِ الجن ّ كي يَبكينَني

ويعزّينَها فيَّ …

فقد مات فؤادي … رحمة ُ الله ِ عليه ….

والسلام ) .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!